ما يمكن الخلوص إليه ونحن ننتهي من قراءة المجموعة الشعرية (أوراق الوجد الخفية) للأديب جمال بوطيب التسليم بوجود التعدد في مفهوم الشعر والتعدد في لغاته، والتعدد في التجليات التي تسم النصوص. ولعمري هذا هو السر في الفتنة التي تحيط بها القصيدة نفسها، فتجذب إليها كل من نظر إلى ناحيتها..
حضرت في بعض الأمسيات الشعرية التي قرأ فيها جمال بوطيب بعضًا من أشعاره، وربما شاركته القراءة في أمسيات أخرى.. وكنت دائمًا أغبطه على حسن الإنشاد، يساعده في ذلك حفظه لنصوصه؛ فهو عادة ما يثير دهشتي وهو يتقدم إلى لاقط الصوت أعزل بلا أوراق، فيوفق في مهمته، ويشد إليه انتباه المعجبات والمعجبين، ثم يغادر المنصة خفيفًا كما حل بها.
صفة، كهذه، تعتبر مؤشرًا دالًّا على علاقة المبدع بشعره مفهومًا وكتابة وتلقيًّا. أولى هذه الدلالات أن الشعر بالنسبة إليه شبيه بالكلام المقدس؛ إذ لا يكفي تدوينه ووضعه في الطروس، بل يتطلب طقس التقديس حفظه عن ظهر قلب. وثاني المؤشرات يتمثل في المنزلة التي يحظى بهاهذا الشعر، لدرجة ترفعه إلى أن يعتبر ضرورة حيوية، ودستورًا مخولًا لتنظيم الحياة العاطفية وتتبع المسار الوجودي لصاحبه.. لذلك لا مجال للثرثرة وتمطيط العبارة، فقصائد جمال بوطيب قليلة، وجملها قصيرة موجزة، وكلماتها محسوبة؛ كأني به يطبق منطوق العبارة (قل شيئًا مفيدًا أو اصمت). ولأنه يحمل هذا التقدير للشعر؛ فقد خص ديوانه (أوراق الوجد الخفية) ـ موضوع حديثنا ـ بغلاف لافت يتضمن لوحة أبدعها هو شخصيًّا بالاشتراك مع الفنانة نادية خيالي. وهي لوحة لا يمكن تصنيفها إلا ضمن الأعمال التي تنجز عادة للمعابد وللفضاءات الدينية، لوحة تحتفل بالكتابة فتعيد تشكيلها وفق طقس خاص يعطي للكلمة المكتوبة هيبتها، ويحيطها بأطر وأيقونات ذات أشكال مختلفة. كما أن اللوحة تبرز بعض مقاطع الديوان على هذه الجدارية المرسومة بطريقة تذكرنا بالمعلقات القديمة.
ومن العتبات التي تسترعي الانتباه في هذا العمل الشعري: العنوان الرئيس وعناوين النصوص الشعرية والإهداءات الكثيرة التي خص بها الأصدقاء الحقيقيين والمفترضين. فهذه العتبات تسهم في إغناء التلقي وتخصيبه وتوجيهه، ومن ثم توسيع مجال الدلالات.
فعندما يختار الشاعر عنوانًا لعمله الإبداعي فذلك يعني أنه يعطى أفضل ما يجد، وأدلما تسوقه إليه اللغة بناءً على تمحيص أو خلفيات معينة. وعندما يهدي الشاعر نصوصه لأشخاص حقيقيين أو رمزيين، فإن ذلك يعني أن ثمة مشتركًا حقيقيًّا أو رمزيًّا يجمعه بهم، لذلك لا يعني الإهداء دائمًا مجاملة المُهدى إليه بقدر ما يعني غمز القارئ بالدلالة، أو بشيء من الدلالة. أما وقد اختار الشاعر جمال بوطيب عبارة (أوراق الوجد الخفية)، فإن أول ملاحظة نخرج بها قبل مباشرة فحص علاقة العنوان بمحتوى الديوان، كون العبارة في ظاهر معناها يمكن أن تطلق على أي ديوان شعري، لسبب يبدو منطقيًّا متضمنًا في دلالة العلاقة الإسنادية بين (أوراق) و(الوجد الخفي). وبالرغم من الإيهام الذي يمارسه الشاعر على قارئه عن طريق قصْر هذا العنوان ـ موضوع حديثنا ـ على خمسة نصوص يستهل بها الديوان، وهي نصوص يحتفي فيها بالمدن العربية التالية: فاس ووهران والقاهرة وبغداد وبيروت؛ على اعتبار أنه عنوان جزئي لا يشمل النصوص الثلاث عشرة المتبقية، إلا أن التحليل البنيوي لعبارة الديوان ــ معجماً وتركيباً ودلالة ــ يدحض ذلك الإيهام، ويعدل كثيرًا في الفرضية المبنية على خدعة الأشكال.
تتكون عبارة العنوان من ثلاث مفردات (أوراق / الوجد/ الخفية)، وكل مفردة تحيل على معنى يكتمل بإعمال السياق التركيبي. فـ”أوراق” جمع ورقة، وهي تدل بلاغيًّا (المجاز المرسل) على الكتابة (بعلاقة المحلية). و”الوجد” هو الأثر النفسي القوي الذي يعقب حبًّا عنيفًا، أو حالة من التجلي الصوفي الذي يرفع المتصوف إلى العوالم التي ينشد. أما مفردة “الخفية” فتدل على الشيء الخفي الذي تمنع أسباب من إظهاره وتجْليته. وعليه، فإن الحقل الدلالي لهذا المعجم المُصغَّر يُحيل على عوالم الروح، وما يصطرع فيها نتيجة للأثر الذي تحدثه الأوراق/الكتابة. وتتعزز هذه الإحالة بالنظر إلى التركيب النحوي لجملة العنوان:
أوراق الوجد الخفية
مضاف مضاف إليه صفة
فتكون “أوراق” مضافة وموصوفة في نفس الوقت، أي أن التركيز يقع عليها من حيث تكثيف دلالاتها، فتصبح “أوراق” هي المعادل الإشاري للمدلول قصائد، ويتعزز هذا التأويل بتآزر عتبات النصوص الأخرى التي لم يؤطرها العنوان الأصلي للديوان؛ إذ ابتداء من ص 31 يتبع الشاعر طقسًا خاصًّا في تقديم نصوصه للقارئ، فيعمد إلى وضع عنوان النص أولاً، ويتبعه بإضاءة دلالية موهمة بتقديم العون في تلقي النص، ثم يتبع ذلك بإهداء خاص لشخص من الشخوص التي قد يكون حضورها مسعفًا أو مشوشًا لعملية التلقي.ونبسط هذا السلوك الفني في الجدول التالي:
عنوان النص | الإضاءة | الإهداء |
هي… و… أنت | ورقة طاولت العنان بصبر في كراس المرض | إلى روح عبد القادر بوطيب أخًا وأستاذًا |
كل الكؤوس نبيذ | الورقة الرابحة من كراس الخسارة | إلى البكاي ميموني وأحمد العيساتي |
لك هذه الصلاة | الورقة الأشد إيلاما في كراس الرثاء | إلى عيد بدونك يشبه الجنازة |
لأجل عينيك | ورقة يانعة من كراس الغزل | إلى امرأة تغرقني في بحر عينيها……… |
لأن عينيك | ورقة مونعة في كراس الغزل | إلى الشرايين والنبض، إلى عيني الغد، إلى المعجبة باسمها، حلمًا محتملا… |
مرارة النبت | ورقة باسقة في كراس الخشوع | إلى علم مانع من الصرف |
سأوقف خطواتي | ورقة وفية في كراس الخيانة | إلى الصديق محمد لكحل بعضًا من جميل |
ترنيمة الحنث | ورقة تعيد إلى الروح صلتها بروحها | إلى روح الشاعر محمد القيسي |
الوطن بريشة عاشق | وريقات متناثرة على بحر الذات | إلى نورسة الأطلسي |
وعلى هذا النحو يمضي الشاعر في “تعتيب” مزدوج للنصوص الشعرية، وكأنه بهذه الممارسة يخشى أن يُفْرط القارئ في التأويل، وأن يسلك طرقًا متشعبة في التلقي والاستيعاب فيخطئ الهدف.. وكأني به أيضًا يستبق المتلقي منبها إياه بقوله: هذه قصائدي وأنا أعرف بها منك !! ولا شك أن المحلل اللبيب لهذه المجموعة يستشعر وجود مؤشر يومض بقوة بين تضاعيف النصوص وعتباتها، دالًّا على أن الشاعر لا يكتفي باعتبار الشعر تعبيرًا جماليًّا وإيحاء بما ترغب الملكة في إيصاله، وإنما يعتبره ضرورة قصوى للتنفيس تارة، ولتغيير الحال تارة أخرى. وقد يعتبره ترياقًا له ولجمهرة الناس الذين أهدى إليهم نصوصه.. هكذا يعود الشاعر جمال بوطيب بالقصيدة إلى أبهى عصورها، عندما كانت إذا أُنْشِدَتْ أطاحت بقبائل ورفعت أخرى. بمعنى أن جمال بوطيب المشغول دوماً بقصصه ورواياته وأبحاثه، لا يطلب من الشعر مجدًا أدبيًّا أو مكانة مزعومة بين شعراء الحداثة.. بل يطلب منه أن يظل إيقاعًا محمولًا على جنبات الروح.. مثلما يرى فيه تعويذة تُتْلى على الأرواح كي يشتعل الحب من جديد.. لذلك لا نستغرب عندما نسمع خضوعه المهموس للمخاطبة التي لا يمكن أن تكون إلا امرأة لا استعارة لشيء آخر:
لأجْل عَينيْك
أبيعُ الدُّنا
وَطوْع عَينيْك
أعيشُ أنا
عيْناكِ اللتان تكتُمان ما انْثنَى
عيْناكِ اللَّتانِ
صَادرتَا منْ قلبِيَ الهَنا (الديوان ص 44)
مثلما يقول في قصيدة مجاورة:
لأنَّ عيْنيكِ غَدي
وحُلم السِّنين
رضيتُ بحُكمهِما
وصرْت السَّجين (الديوان ص 47)
إن التركيز على العينين في المقطعين يمكن تأويله بالبحث عن جهة ما في الجسد تكون هي النقطة “ج” ليس بالمعنى الجنسي الاستثاري، ولكن بما يقابل ذلك في عالمالروح؛ لأن كل معاني الروح ورغباتهاتتجمع في العينين.. ففي العينين نقرأ الحب والكراهية، والرضى والغضب، والرغبة والرفض. لذلك، لا نستغرب إن وجدنا الذات الشعرية في المقطعين تنحني تماماً أمام سلطتهما وتعلن بيعتها المطلقة لهما. بل إن هذا المعنى يتقوى أكثر في عبارة الإهداء التي تتصدر النص، والتي جاء فيها:
“إهداء: إلى امْرأة تُغرقني في بحْر عيْنيها مُصرَّة على أن تكون هي مِجْداف مَرْكبِنا”.
هكذا نجد الشاعر ينحاز إلى الفن الذي يسمو بالمرأة، ممعنا في تذكيرنا بالأدبيات القديمة التي ارتفعت بها إلى حد التقديس؛ بل أكثر من ذلك نجده يطلب وساطتها في بلوغ ما يريد من مقامات الوجد والتصوف، يقول:
هِي..
تعْشقُ الحَلاج سِرّاً
فاعْتَقلْها
يَرْكعِ
الوَجْدُ على نَعليْك (الديوان ص 31)
وإذا كان الشاعر في معظم قصائد الديوان يبدو منتصرًا للمعنى وللغنائية في بعدها العميق الذي يجعل الشعر طريقة ومنهاجا لتطويع اللغة وإقدارها على التعبير عن الشحنات العاطفية القويةً بممكنات الكتابة واحتمالاتها، فيعمد إلى طرح الغنائية مؤقتًا من أجل تركيب اللغة تركيبًا مخالفًا يظهر من خلاله مواهبه الأخرى ونجاحه في جعل القصيدة مستوعبة لتشكيلات لغوية فنية جديدة تفتح الدلالة على مصراعيها لتستقبل إلى جانب الحب والتصوف تيمات أخرى من قبيل السخرية والمفارقة واللامعقول.. وحينئذ يعتمد الشاعر أسلوبًا مطعمًا بشيء من السيريالية؛ كما في هذا المقطع:
ومراهقات يحلمن بوظيفة في الخليج، وخليجًا يرى النقاب للمضيفات، ومضيفات يبتسمن رغم الأحزان، وأحزانًا تقاوم قلبا يثق في الجرَّاح، وجرَّاحًا يفتخر بلقب الدكتور، ودكتورًا يرى الأثداء في المسودات، ومسودات تدس المستقبل في الصدر، وصدرًا لا زغيبات له… (الديوان ص 25 ـ 26).
والمقطع مبني على أساس معادلة تعتمد تركيبًا نحويًّا لجملة فعلية تتناسل عن طريق العطف وتوليد معان لانهائية، كما لو أن الأمر يتعلق بأغاني الأطفال التي تعتمد التكرار والتداعي. ويكون بمقدور هذا الأسلوب الرفع من منسوب السخرية من مواقف مختلفة يخلقها الشاعر اعتمادًا على استثمار الكلمة الأخير في الجملة السابقة من أجل صياغة جملة أخرى لاحقة.
إن اللعب باللغة هي مهمة الشاعر المؤمن بكون الشعر لعبًا بالكلمات والتراكيب، بالمعنى العميق لمفهوم اللعب.. أي أن في الشاعر طفلًا مسكونًا بهوس اللعب؛ وتبقى اللغة أفضل وسيلة لاعتمادها مادةً في هذا اللعب، بفضل المرونة التي تتميز بها، والإمكانيات التي تتيحها في إعادة تشكيل العالم وأشيائه وفق رؤية الشاعر ورغباته في خلق لحظات الدهشة. وخيارات الشاعر كثيرة ومتنوعة في هذا المنحى، فقد نجده مثلا يخلق موقفًا قائمًا على التضاد ساخرًا من حب غير متكافيء مما يحول الموقف إلى ما يشبه الكوميديا السوداء.. يقول في اللحظة الأولى معبرًا عن محب ولهان:
سيدةَ انْتظارِي..
لكِ هذا العمرُ
وسحْر الأمَاسي
وشجْو نايِ الغرْبة
وآخر قصِيدٍ
به الجنُّ رمَاني
وكل ما مَلكتُ
ومَا لمْ أمْلِك
ولا أَنوِي
…. حينَ أرقدُ هُناك
غيرَ قبْلة يتِيمةٍ
على طَرف شَاهدة القبْر
لا تَبْكِي سيِّدتي
أرْجوك
لأنَّ دمُوعكِ تحْرقُني (الديوان ص 20)
وفي اللحظة الثانية يجري الكلام على لسان المرأة ــ موضوع الوله والهيام ــ فتجيب على ما ورد في المقطع الأول سطرًا سطرًا، معتمدة أسلوب المقابلة (البديعية) ساخرة من المحب وغرامه، ناسفة لكل عبارات الغزل:
سيِّدَ انْتظارك
لا عمْر لكَ تُهديه إليّ
أنْهكَتك الأمَاسي
كسَّرتَ نايَ العشْرة
خَلخلْتَ
إيقاعَ كل مَقامات الصَّبْوة
قصيدُك يلزمُك
ما دام الجِنُّ يُلهِمُك
ومَا دام حبِّي
لمْ يجْعل منْك إلهَ غَرام
أنا سيِّدي
لمْ ألثمْ يوما حَجراً
ودمْعتي أشرَف منْ وصيَّة (الديوان ص 21)
ولا شك أن قارئ المقطعين معًا سيتنبه لحضور النفس الدرامي متعدد الأصوات، والذي يذكر بوفاء صاحبهما للفن السردي ــ الذي هو فنه الأول ــ حتى وهو بصدد الشعر. ومعلوم أن القصيدة هي مجال إبداعي خصب لاستيعاب مكونات ومميزات الفنون الأخرى.. ولا عجب أن يتقوى هذا الاستيعاب عند المبدعين الذين يكتبون في أنواع أدبية مختلفة كحالة شاعرنا جمال بوطيب الذي يجمعه التعدد في فنون القصة والرواية والمسرح والشعر والتشكيل جمعًا تستفيد منه كل هذه الفنون، لأن في نهاية الأمر مهما تعدد المبدع وتوزع فإن رؤيته الجمالية للحياةتبقى واحدة تعكس واحديته.