يندر أن تجتمع مرافعات من هذا النوع في إصدار واحد، فهذا الكتاب مرآة نقدية كاشفة لآفات نخبوية، بحسب عنوانه، فهو يكشف النقاب عن معضلات وأزمات تنتاب أوساطاً نخبوية في الواقع العربي على وجه الخصوص دون أن يعني أنّه استثناء عن الاجتماع الإنساني عموماً، كما يقرِّر المؤلِّف.
صدر كتاب “آفات نخبوية” الواقع في 160 صفحة في قالب كرّاس جيْب عن “مكتبة الأسرة العربية”، ضمن المجموعة الجديدة من مؤلّفات حسام شاكر التي صدرت في هذا الموسم وتوزّعت على عشرين مؤلّفاً متنوٍّعة الحقول.
يخوض شاكر في كرّاسه النقدي اللاذع هذا معالجات لا هوادة فيها، فيتعقّب ظواهر وأعراضاً تتطلّب مُراجعة ومُصارحة، فهو يبدأ بإطلالة على أزمات تعتري بعض النخب عموماً مع تركيز الأنظار على الواقع العربي خصوصاً، ويحلِّل بالتفصيل ظواهر من قبيل القمع الخفيّ للنقد، أو المراوغة والتذاكي في تغليف التناقض الذاتي، أو التعبير عن “التبرُّج الثقافي”، أو الاستغلال غير السويّ” لحاجة الأمّة إلى التجديد والمراجعات، أو الجموح بالجماهير بدعوى عذابات المكلومين وآلام المفجوعين.
يرصد الكتاب ظواهر سلبية لدى أوساط محدّدة، مثل نخب المنصّات التدريبية، كما أنه يضع “طبقة المنظمات غير الحكومية” تحت العين الفاحصة، علاوة على أدوار نخب من حقول متعدِّدة تتواطأ مع الاستبداد وتتجنّد في خدمته من خلال منصّاتها ومنابرها ومواقعها.
وبطبيعة الحال فإنّ النقد الجريء والمكثّف الذي يدفع به هذا الكتاب لن يجعل الإصدار موضع ترحيب من أوساط نخبوية قد تكون ضالعة في هذه التقاليد والممارسات والتواطؤات التي يضعها المؤلِّف تحت المجهر النقدي.
جرأة انتقائية في البوْح والنقد
يرصد حسام شاكر كيف تتخيّر بعض النخب أهدافها بما لا يعود بأعباء على مصالحها، فتُظهِر جرأةً في نقد وجهات محسوبة أو في ذمِّها دون غيرها. تلتحق بعض النخب بجمهرة ناشطي مواقع التواصل التي لا تجد عوائق في الانخراط في جبهة النقد السهل والمسموح به نحو وجهات مخصوصة، دون أن تقوى على توجيه شيء من ذلك إلى وجهات أخرى.
وفي مكاشفة مع واقع بعض النخب العربية يلحظ شاكر أنّها “تعجز عن فتح الملفات الجوهرية على الملأ ابتداءً ولا تملك حرية البوْح في واقعها إلاّ في مسارات محددة؛ ثمّ يدّعي بعضها تقدير الموقف بتوازن وشفافية وانفتاح، رغم أنّ هامش المسكوت عنه عندها عريضٌ ومُهيْمن على ما عداه أحياناً.
من شأن هذه الملابسات أن تدفع بسرديّات غير متوازنة؛ تأتي ببعض الحقيقة وتطمس بعضها، وتشغِّل منطقها انتقائياً كما يطيب لها أو قد تعطِّله بحسب أهوائها”.
ويحذِّر المؤلِّف من “هيمنة العُقَد على التفكير”، ففي ظلال هذه الحالة المتّصلة بالمأزق العربيّ الراهن ومخاضاته الشاقّة؛ ترضخ بعض النُّخَب العربية لعُقَد تحكم تفكيرها؛ فلا ترى سواها أو لا تُبصر ما يعلوها، وهي عند بعضها عقدة التاريخ، أو عقدة الغرب، أو عقدة من دولة معيّنة، أو عقدة تيّارات واتجاهات معيّنة، أو غيرها من العقد.
لم تتشكّل هذه العُقَد أو غيرها من فراغ، فهي نتاج وعي انتقائيّ أو خبرات متضخِّمة أو تجارب موضعية معيّنة، وقد تكون حالة مُفتعلة بدافع من هوى مُسبَق أو مصالح معيّنة، كما يذكر شاكر.
يرى المؤلِّف أنّ منطق العقدة يحرِّض على رؤية العالم من جوْف قوقعة أو عبر ثُقْب إبرة. ومع تضخّم العقدة في الأذهان وهيمنتها على الوجدان؛ تضيق فرص الأخذ والردّ على بصيرة، على نحو يقود إلى أحكام تعميمية صارمة وقد تتناقض مع ذاتها أيضاً. وعندما يميل القوم إلى تفسير الواقع وتأويل التاريخ من منظور إحدى عقدهم هذه؛ تعلو الهراوات المعنوية فوق الرؤوس إن حاولت تمحيص السرديّات الجماهيرية الرائجة أو المدفوعة بمنطق العقدة التي تتأبّى على الفحص والنظر.
قمع خفيّ للنقد له فنون!
يرصد حسام شاكر في هذا العمل فنون النخب في القمع الخفيّ للنقد، وهي بمثابة تحليل نقدي لخطابات ومواقف نمطية، وإن تحسّست المجتمعات من القمع وخطابه المباشر وتعبيراته الصريحة؛ فإنها قد لا تفطن إلى فنون متضافرة من القمع الخفي للحسّ النقديّ وروح التمحيص وحظوظ المناقشة.
يشير المؤلف إلى أنّ “الضالعين في استعمال فنون القمع الخفيّ، بوعي منهم أو بدون وعي، حاضرون في مواقع النُّخَب على تعدُّد أصنافها وشواغلها واختصاصاتها، حتى أنّ بعضهم يرفعون شعاراتٍ مجيدة لا يمتثلون لمقتضاها كما ينبغي، وقد يتسلّحون بمزاعم الترحيب بالآراء المخالفة وإبداء رحابة الصدر إزاءها؛ ثمّ تخور مزاعمُهم في واقع التفاعل وتهترئ شعاراتُهم في حلبة التمحيص. وقد تكشف النظرة الفاحصة عن أنّ بعض المُنادين بـ”الانفتاح” ليسوا سوى إعادة إنتاج لحالات شديدة الانغلاق ولا تحتمل نقداً يُوجَّه إلى مقولاتهم”.
ومن مخاطر هذه الحالة أنّ “استعلاء ثقافة القمع الخفي للحسّ النقدي وروح التمحيص وحظوظ المناقشة كفيل بإنعاش ضروب الوعي الزائف الذي تميل فيه القناعة والتأييد لصالح آراء وخيارات لا مصلحة فيها؛ أو قد تعود بخسائر جسيمة في عاجل الأمر أو آجله”، حسب المؤلف.
يمضي حسام شاكر في هذا الشأن إلى التحذير من أنّ “استعمال فنون القمع الخفيّ للحسّ النقدي وروح التمحيص يأتي أكثر تذاكياً عندما يلجأ إليه دعاةُ الحرية أنفسهم، أو المُنادون بتشغيل العقول والضمائر، أو العاكفون على صياغة مقولات منفتحة للغاية في ظاهرها وإن استبطنت انغلاقيّاتها وظلاميّاتها التي تأتي في لبوس الاستنارة”، وفق ما يكتبه شاكر الذي يعدّ هذه الحالة “ظلاميّات في لبوس الاستنارة”.
يبدأ الأمر، عادة، مع مُصادَرة العقل والوعي والضمير، في مقولات شعاراتية قد تُنزَع فضائلُها ضمناً عن المخالفين في الرأي؛ وهي تقدمة مثالية للنبْذ والإقصاء ولجم النقد وتعطيل المُناقشة؛ وربما علوّ المُزايدات. إنّ القول بجهل الناقد وتصويره إيحائياً بأقسى النُّعوت هو من أساليب التنميط الرائجة. وعلى هذا الأساس تجود المرحلة على من يرغب بممارسة القمع الخفيّ للنقد والتمحيص والمناقشة والاعتراض، بقوائم متطاولة من المفردات المتاحة للاستعمال مثل التطرُّف ومكافحته؛ والإرهاب ونبذه؛ والاعتدال وتمكينه؛ والتسامح وتعميقه.
وقد يُصادِر أحدُهم العقلَ والتفكير لذاته بتعبيرات إيحائية بارعة، ويرمي ناقدي فكرته بقالب تعميميّ فجّ عندما يوحي بمروقهم من العقل وبنَزَقِهم المتطرِّف في التفكير وبتشنّجهم الأعمى في الأحكام. فإنْ خرج أحدُهم على قوْمه كي يُناقش ما يُقال على الملأ؛ بات عليه ابتداءً أن يُعلن براءته من تهمة مُسبقة بالانغلاق والتحجّر قد جُهِّزت له ولأمثاله سلفاً، وأن لا يتقاعس في تقديم مرافعات الولاء للعقل والتفكير الحرّ والضمير اليَقِظ، رجاء أن يُقبَل منه حقُّ القوْل والاعتراض، كما يكتب شاكر.
طابور سادس في منصّات النخب
في فصل آخر من هذا الكرّاس المُركّز في جرعته النقدية يُطلِق حسام شاكر وصف “الطابور السادس” على مَن استغرَقوا حياتهم طولاً وعرضاً في التنظير للديمقراطية والحرِّيات والمجتمع المدنيّ والدولة الحديثة والاستنارة الدينية، ثم اختتموا مسيرتهم باصطفاف شائن مع سطوة الاستبداد والقهر السلطويّ وفنون الفتك بالبشر. يرى المؤلف أنّها “نهاية مُتوقّعة في لعبة تقليدية؛ يمتطي فيها الاستبداد نُخَباً سياسية وإعلامية وثقافية وفنية وأدبية ووعظية ومجتمعية، حتى تصير وجوهٌ بزغت وأسماء لمعت أعباءً ثقيلة على أمّتها التي ستتجرّع خيْبة الرجاء ومرارة الخذلان منها في ساعة الحقيقة”.
وفي شرحه لكيفية اشتغال “معمل إنتاج النُّخَب” يرصد شاكر كيف تعمل منظومة الاستبداد بلا هوادة على إنتاج النُّخَب واستمالة بعضها وتطويع غيرها، تلازُماً مع ممارسة الحَجْب والعزل والإقصاء وإنزال العقوبة الرادعة بحق المخالفين أو الذين يُخشَى تمرّدُهم أو لا ينخرطون في الجوقة كما ينبغي. على أنّ معاقبة النُّخبة الحرّة لا تعني إنزالَ السجن أو الغرامة بحقِّها فقط؛ “فهي تتحقّق ابتداءً بحجب الامتيازات عنها وممارسة الغُبْن والإجحاف معها في لعبة الاعتراف العلنيّ بكلِّ اسم منها؛ على نحو يُفضي إلى إخراجها من الأروقة أو الاستبداد الإلقاء بها من النوافذ العلوية، ومِن تعبيراتها عزلُ أحدهم عن المنابر والشاشات والجوائز لأنها ما كانت لتتأتّى له أساساً إلاّ بمقتضى استعماله في معادلة”.
تناقضات ذاتية ومسالك ملتوية
إحدى الآفات النخبوية التي يستعرضها الكتاب تتمثّل بالتذاكي في “التناقض الذاتيّ”، وهذا يتعلّق بمَن “يُطلِقون شعارات ومقولات ومصطلحات ودعوات، يَشغَلون بها الدُّنيا والناس، وقد لا يأخذون بها في واقعهم ولا يمتثلون لمقتضاها في مواقفهم. يتمسّح أحدهم بالعلم ويحتجّ بالعقل ويستغلّ العاطفة ويتذرّع بالقيم، لتقديم ما يناقض العلم ويتصادم مع العقل ويهوي بالعاطفة وينتهك القيم. يقومون بتنزيل المبادئ والأحكام بشكل انتقائي، أو يحرِّضون على استعمال النقد اللاذع في اتجاهات شتى؛ ويتحوّطون من أن يرتدّ النقد صوْبهم، وقد يطوِّقون أنفسهم بهالة من التمجيد أو التقديس”. ويحذِّر شاكر من “مسالك ملتوية وتناقضات ذاتية جسيمة تطفح بها الحالة العربية الراهنة، وتبدو بعض النُّخَب والمؤسّسات والمنظّمات والأنظمة ضالعة في هذا المشهد مع كلِّ ما ينطوي عليه من مفارقات فجّة”.
“تبرّج ثقافي”.. تغليف على حساب الفحوى
أمّا معضلة “التبرُّج الثقافيّ” فتتعلق بنهْج مكرّس للتصنُّع والافتعال، يجرّ المُضيّ فيه تأثيراتٍ سلبية مركّبة؛ قد تبدأ مع ترسيخ الاهتمام بالتغليف على حساب العناية بالفحوى، أو أن تغدو المضامين، أي الكسب العلميّ والاقتدار الفكريّ والمعرفة الثقافية، مطلوبةً لأجل القشرة والهيئة والشكل والحضور؛ بدل العناية بتحقيق انطلاق علميّ وتقدُّم فكريّ ونهوض ثقافيّ. وإن عمّت الخيلاءُ العلمية والفكرية والثقافية مجتمعاً؛ فإنها على الأرجح من أمارات ضعفه العلميّ وهزاله الفكريّ وهشاشته الثقافية”.
المنظمات غير الحكومية تحت المجهر النقدي
وفي فصل آخر من الكتاب يفتح المؤلِّف ملفّ المنظمات غير الحكومية، فيركِّز معالجة نقدية من زوايا متعدِّدة لأحوال المجتمع المدني أو “القطاع الثالث”، مع استرجاع تطوّر الحالة في نصف قرن وتمدّدها، ويقدِّم عيِّنات نموذجية للاستعراض النقدي.
يلحظ شاكر مثلاً كيف صارت المنظمات غير الحكومية إسفنجة تمتصّ “الحاصلين على أعلى الدرجات والمتمكِّنين من اللغات والمهارات النوعية، وفي مكاتبها يلتزمون طقوساً تتقيّد بمحفوظات الزمن الجديد المنقوشة في الألواح”.
ولم يكن “القطاع الثالث” مساحة حياد، بل تناوشتْ بعض تشكيلاته تجاذباتٌ وتأثيراتٌ من القطاعيْن الحكوميّ والخاصّ، وبدت مساعي الاحتواء هذه أيسر منالاً لمّا تنزّلت في دول نامية وفقيرة؛ بما فيها أرجاء من العالم العربيّ. ويرى المؤلِّف أنّ النزعةُ الاعتمادية على المانحين الخارجيِّين أورثَت الحالة ضعفاً في الالتصاق بالمجتمع، وجاء هذا إيذاناً بنشوء “طبقة المنظمات غير الحكومية”. وإذ تباهت الدول المانحة بما تقدِّمه لشعوب “مستفيدة” تحت بنود مثل “التعاون الإنمائيّ”؛ فإنّ ما جرى على وجه الدِّقّة هو دعم منظمات المجتمع المدنيّ المرغوب بها فقط بديلاً عن مسؤولية دعم المجتمع “المستفيد” ككلّ، كما يسرد المؤلف.
لعلّ مَن يفرغ من الصفحات المائة والستين التي تضمّها دفّتا هذا الكرّاس؛ سيجد نفسه قد أبحر مع المؤلِّف حسام شاكر مستكشفاً وفرة من العلل النخبوية، وسيعود من رحلة الإبحار بنظرة نقدية لواقع النخب وبعض التقاليد والممارسات والمواقف الرائجة في الواقع الإنساني عموماً والعربي خصوصاً.