ملخص :
يطمح هذا البحث المعنون ب : (أسلوبية الحِجاج في قصيدة ” الذبيح الصاعد” لمفدي زكريا) الوقوف على أهم صور الحجاج التي وظفها الشاعر، حيث يريد أن يفحم الخصم في أشد حالات المحاججة: محاججة الضحية للجلاد. ليظهر إفلاسه في حربه، ومحاولة قمع إرادة هذه الضحية.
من صور أسلوبية الحِجاج التي سنقف عندها:
- الآليات اللغوية
- الآليات البلاغية
- الآليات التداولية
قصيدة (الذبيح الصاعد) للشاعر مفدي زكريا قالها في غمرة لهيب الثورة الجزائرية؛ أي بتاريخ 18يونيو 1956م بالسجن الرهيب بربروس، يصور فيها أول حكم بالإعدام عن طريق المقصلة للشهيد ( أحمد زبانا) – رحمه الله – فكانت شامة في جبين الشعر الثوري الجزائري بعامة.
القصيدة الثورية كانت وسيلة مهمة من وسائل التواصل، إنْ مع الأهالي، أو لمحاججة الاستعمار و أذنابه، ولهذا كان هذا الموضوع، والحجاج لغة كما جاء في لسان العرب: “حاججته أحاجه حجاجا ومحاجة حتى حججته، أي غلبته بالحجج التي أدليت بها… وحاجه محاجة وحجاجا نازعه الحجة… والحجة: الدليل و البرهان (1)، والحجاج بهذا القول يعني النزاع والغلبة بتقديم الحجج والبراهين، ويرد الحجاج مرادفا للتجادل كما في اللسان بـ “مقابلة الحجة بالحجة، واللدد في الخصومة والقدرة عليها” (2)، فالجدل والحجاج كلاهما ينطلق من الخصومة و القدرة على تقديم الحجج، بغرض التغلب على الخصم.
ومن الناحية الاصطلاحية، فإن الجاحظ يربطه بإفهام المخاطب للسامع عن طريق إيصال المعنى الذي يريده بوضوح، مع مراعاة مقامات السامعين والمتكلمين المتباينة والمتفاوتة (3)، والجاحظ يربط بين الحجاج والبلاغة، حتى لا نكاد نفصله عنها “مدار الأمر والغاية التي إليها يجري القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام ، فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت عن المعنى، فذلك هو البيان في ذلك الموضع ” (4)، ولا يخفى أن البيان ركن من أركان علم البلاغة، و يقسم إلى ثلاث وظائف:
– الوظيفة الإخبارية (حالة الحياد): وفيها يعنى المخبر بإظهار الأمر على وجه الإخبار قصد الإفهام.
– الوظيفة التأثيرية (حالة الاختلاف): و فيها يقدم الأمر على وجه الاستمالة و جلب القلوب.
– الوظيفة الحجاجية (حالة الخصام): وفيها يتم إظهار الأمر على وجه الاحتجاج والاضطرار.
وهذه الوظائف مجتمعة تشكل أس النظرية التداولية في الدراسات المعاصرة؛ لأنها تقوم على القيمة التواصلية التي تنتهي إلى غاية منفعية.
والنص الشعري كأي خطاب، فإنه يعمل على استمالة الآخر والتأثير فيه والاجتهاد في إقناعه من خلال توظيف ما تسعفه به الإمكانات التعبيرية التي تمنحها اللغة، والسياقات المتباينة التي ترد فيها نصوصه، وآليات الحجاج في الشعر:
- الآليات اللغوية:
وتتجسد الآليات اللغوية في تكرار مختلف الصيغ اللغوية، والتكرار أسلوب شائع في الخطابات على تنوع مواضيعها واختلاف أجناسها، لكنه لا يدرس ضمن الحجج و البراهين، و إنما يعد رافدا أساسيا يرفد هذه الحجج والبراهين التي يقدمها المتكلم لفائدة أطروحة ما، حيث يوفر لها طاقة مضافة تحدث أثرا جليلا في المتلقي، وتساعد على نحو فعال في إقناعه، أو حمله على الإذعان؛ لأن التكرار يساعد على:
– التبليغ والإفهام
– ترسيخ الرأي أو الفكرة في المتلقي (5).
ولا شك في أن للتكرار فائدة تداولية؛ لأن مناط الاهتمام هو المخاطب الذي يعد الطرف المقصود في عملية التواصل، حيث يتم التوجه إليه بتأكيد الأمر، لإشعاره بعظمه سواء تعلق الأمر بالمتلقي أو المتكلم، و هذا من شأنه تمتين اللحمة بينهما.
ومن الصيغ اللغوية: (اسم الفاعل، صيغ المبالغة، اسم المفعول، أفعال التفضيل)، وتكرار هذه الصيغ بوصفها صيغا دالة على الأفعال، فهي صيغ مشتقة بالأساس، تسهم في تأكيد الأمر المراد إيصاله إلى ذهن المتلقي، والعمل على إذعانه لأفكاره التي بطن بها خطابه.
2 . الآليات البلاغية:
وتتجسد في توظيف الصور البلاغية واستغلال ما فيها من طاقات حجاجية من أجل النفي أو الإثبات لفحوى الخطاب، وجعل المخاطب يمعن النظر فيها، و يؤكد أبو هلال العسكري في الصناعتين أهميتها بقوله: “ما تعطف به القلوب النافرة، ويؤنس القلوب المستوحشة، وتلين به العريكة الأبية المستصعبة، ويبلغ به الحاجة، وتقام به الحجة، فتخلص نفسك من العيب، ويلزم صاحبك الذنب، من غير أن تهيجه وتقلقه، وتستدعي غضبه، وتثير حفيظته” (6)، فهدف الملقي هو أن يبني الصورة بحيث تلقي بتأثيرها على المخاطب، ولا ينسى مع ذلك الجانب الجمالي لهذا التوظيف.
من الآليات البلاغية نجد التشبيه، الذي يقيم ربطا بين واقعين متباينين، ويترك للمتلقي تأويل وجه الربط بين هذين الواقعين، ويرى الجرجاني أن ” التشبيه قياس، والقياس فيما تعيه القلوب وتدركه العقول، وتستفتي فيه الأفهام والأذهان، لا الأسماع و الآذان” (7) ، إذن الأمر يتعلق بالفهم، و التشبيه يجتهد في إزالة الفوارق بين ركنيه.
ونجد أيضا الاستعارة، حيث يوظف طاقاتها الحجاجية لإيصال المعنى إلى المتلقي، إذ يقف الملقي والمتلقي على خط واحد، و”تترتب الحجج في الخطاب على أساس طاقتها الحجاجية وقدرتها على الإقناع، ويقوم المرسل بترتيب الحجج على أساس دعمها لدعواه”( 8)؛ لإلزام المتلقي البرهان الدامغ.
3 . الآليات التداولية :
أ. الحجاج باستعمال الأغراض الشعرية:
إذ يعمل الشاعر على إبراز ذاته بالصورة التي تجعله مثاليا أمام خصمه، من خلال إبراز مكانته في هذا العالم.
ب. الحجاج باستعمال المثل التاريخي :
كأن يعمد إلى توظيف الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والأمثال والحكم والشعر والوقائع التاريخية؛ لأنها نصوص تكتسب قوتها من مصدرها، و” تتمثل خاصة في استحضار المواقع المستمدة من التاريخ العربي الذي يجمع الشاعر ومخاطبيه، وما لها من قدرة كبيرة على تواصلية بالغة التأثير … الغرض المرصودة للاستدلال عليه” (9)
ج. التشخيص:
يطلق عليه طه عبد الرحمن مصطلح (الحجاج التقويمي)، إذ يعده نوعا من أنواع الحجاج فهو “إثبات الدعوى بالاستناد إلى قدرة المستدل على أن يجرد من نفسه ذاتا ثانية ينزلها منزلة المعترض على دعواه؛ وهنا لا يكتفي المستدل بالنظر في فعل إلقاء الحجة إلى المخاطب، واقفا على حدود ما يوجب عليه من ضوابط وما يقتضيه من شرائط بل يتعدى ذلك إلى النظر في فعل المتلقي باعتباره هو نفسه أول متلق لما يلقي، فيبني أدلته على مقتضى ما يتعين على المستدل له أن يقوم به، مستبقا استفساره واعتراضاته، ومستحضرا مختلف الأجوبة عليها، ومستكشفا إمكانات تقبلها واقتناع المخاطب بها، وهكذا فإن المستدل يتعاطى لتقويم دليله بإقامة حوار بينه وبين نفسه ومراعيا فيه كل مستلزماته التخاطبية من قيود تواصلية وحدود تعاملية حتى كأنه عين المستدل له في الاعتراض على نفسه” (10)
وأعلى مراتب التشخيص الاستعارة؛ لما تتضمنه من قوة حجاجية، و طاقة تداولية، فهي:
- قول حواري:
وهذه الحوارية صفة ملازمة له؛ و ذلك لاشتراك ذوات متعددة في بناء الكلام، وذلك بتألّف القول الاستعاري من مستويين، المعنى الحقيقي الظاهر الذي لا يراد في ذاته، ومستوى المعنى المجازي المتخفي وهو المراد والمبتغى.
- قول حجاجي:
من خلال تدخل آليتي الادعاء والاعتراض في التشخيص الاستعاري؛ لأن المستعير يؤمن بوجود المعنى الحقيقي للجملة؛ أي المطابقة بين المستعار والمستعار له، ومن جهة أخرى يقوم بالاعتراض على وجود المعنى الحقيقي للجملة، وهذا من خلال تقمصه لأدوار الذوات التي تشترك في بناء الكلام.
- قول عملي:
تهدف الاستعارة انطلاقا من قوتها، وأنها أبلغ وجوه تقيّد الكلام بالمقام إلى التغيير في سلوكيات الناطقين وحملهم على الإسراع إلى العمل، فهي بهذا أدعى من الحقيقة إلى رفع همة المستمعين، ودفعهم إلى الاقتناع بما تدعو إليه، وإلزامهم بمضمونها (11).
ونبدأ في تناول هذه القصيدة انطلاقا من الآليات اللغوية، حيث تكرار مختلف الصيغ اللغوية، وغني عن البيان أن التكرار لا يعد حجة في ذاته وإنما يعمل على تقوية الحجة. وسنعرض لأهم الصيغ المكررة في هذا النص الثوري:
- تكرار اسم الفاعل :
ووردت هذه الصيغة مكررة بصورة ملفتة للنظر، يقول:
قام يختـال كالمســـــــيح وئيدا يتهــادى نشـــــــوان، يتلو النشيدا
باسم الثغر، كالملائك أو كالطْ طِفل، يستقبـل الصبــاح الجـديدا
شامخا أنفـه، جــــــــــــلالا وتيها رافعا رأسه، يناجـي الخلـــــــودا
رافلا في خلاخــلٍ، زغردت تمـ ـلأ من لحنـــها الفضـاء البعيـــــدا
حالما، كالكليـم، كلمه المجـــــــ ـــــد، فشد الحبـال يبغي الصعودا
وتعالى، مثل المؤذن، يتلـــو كلمات الهــدى، ويدعــو الرقودا
“واقضِ يا موت فيَّ ما أنت قاضٍ أنا راضٍ، إن عاش شعبي سعيـدا”
“أنـا إن مت فالجـــــزائر تحــــــيا، حــرة مستقــلة، لــن تبيــــــــدا” (12)
إن تكرار اسم الفاعل يمتح من التجربة التي كان فيها الشهيد أحمد زبانا؛ فهي لحظة يشعر وكأن كل لحظات السعادة الجميلة قد حيزت له، كيف لا وهو يمتطي سلم المجد والخلود، ولا شك أن هذا التكرار يعمق دلالة الاستمرارية: (باسم، شامخا، رافعا، رافلا، حالما، المؤذن، قاض، راض، مستقلة)، فكل صفة يحملها كل اسم من أسماء الفاعلين، تحمل معنى الجلد، وقوة القلب، واليقين بالغد الأفضل، وهي معان لا تفارق كل من يحمل إيمانا بثقل إيمان زبانا، وهي بلا شك تحمل كل معاني الهزء بالخصم؛ لأن ديدن الخصوم حمل معاني العذاب والإذلال مستعملين في ذلك كل الطرق، وغير مدخرين أيّ وسيلة، إلا أن الطرف المقابل واجههم بصلابة الجلامد.
إن موقفه يستمده من قدسية رسالته، و إيمانه العميق بانتصار قضية شعبه العادلة:
“أنا إن مــــت فالجـزائر تحيا، حـرة مستقلة، لن تبيـــــــــــــــدا”
وهذا ما يجعل من الطرف المحاج غير قادر على أن يفت في عضده، أو يثنيه عن قضيته.
ولا يني الشاعر يحتج لصلابة الشهيد حين يقول:
كم أتيـنا من الخوارق فيــــــها وبهرنا، بالمعجـــزات الوجودا
واندفعنا، مثل الكواسر نرتا د المنايا، و نلتقيَ البــــــــارودا
من جبال رهيبة، شامخـات قد رفعنا على ذراها البنــــودا (13)
الشاعر يحاجّ الخصم بأن الشعب كله على قلب رجل واحد، وكله صانع المعجزات، ويستحيل قهر شعب هذه طينته.
الشعب الشهيد
- تكرار صيغ التفضيل:
شاركـت في الجهــــــــــاد آدم حوا ه، ومـدت معـــــــاصما و زنودا
أعملت في الجراح، أنملها اللـــــد ن، وفي الحرب غصنها الأملودا
فمضى الشعب، بالجماجـــم يبني أمة حـــرة، وعـــــــــــزا وطيدا
من دماء، زكية، صبها الأحــــ رار في مصرف البقـــــــاء رصيدا
ونظام تخطه ” ثورة التحـــــــ رير ” كالوحي، مستقيما رشيــــــدا (14)
يبدو أن صيغ المبالغة – كما اسم الفاعل- تؤدي مهمة تقوية المعنى وترسيخه؛ فالشاعر والشهيد الذي خصه بهذه القصيدة كلاهما ينتمي لهذا الشعب العظيم؛ صاحب (العز الوطيد، والبقاء الرصيد، والوحي الرشيد)، وهذه الأخيرة هي ما جعل دولة الظلم تندحر:
دولة الظــــــلم للزوال، إذا ما أصبـح الحــــــــــر للطغام مسودا( 15)
والمقصود من كل ذلك حتما الاحتجاج على صلابة عود هذا الشعب، وهي ألفاظ تحمل معنى الحجاج بالفخر – كما هو واضح- ( وطيد، رصيد، رشيد ).
كما نجد الحجاج بذكر صفات المخالف في شكل غرض (الهجاء)، في سياق استفهام استنكاري:
أمن العدل، صاحب الدار يشــــقى ودخيل بها، يعيــــــــــــش سعـــــــــــــيدا؟!
أمن العدل، صاحب الدار يعــــرى وغريب يحتـــــــــــــل قصـــــــرا مشيدا؟!
ويجـوع ابنــــها، فيعــــــــدم قوتا وينال الدخيل عيــــــــــــــــــــــشا رغيدا ؟!
ويبيح المستعمـرون حمــــــــــاها ويظــــــــــــل ابنـــــــها طـــريدا شريدا؟! (16)
(دخيل، سعيد، غريب، مشيد، رغيد، طريد، شريد)، هذه الصفات تدفع بالمتلقي إلى الاختيار مُعملاً فكره بين صاحب الحق الشرعي، والمغتصب، ومما زاد الحجاج قوة هذا الاستفهام الاستنكاري المتوجع.
ومن الآليات البلاغية نجد التشبيه، هذا الذي يعد من أوضح الصور البلاغية، وهذا لبساطة العلاقة التي توجد بين ركنيه، وكذا لأنها تدرك ببساطة أيضا، ولقد جاءت أغلب تشبيهات القصيدة في مقام إبراز المكانة العلية للشهيد زبانا، ومحتجا على صلابة إيمانه:
قام يختال كالمسيــــــــــــــــــح وئيـــدا يتهـــادى نشـــــــــــوان، يتلو النشيدا
باسم الثغر، كالملائك أو كالطْ طِفــــل، يستقبــــــل الصبـــــــــاح الجديدا
رافلا في خلاخلٍ زغردت تمـــــــــــــــ لأ من لحنها الفضـــــــــــــــاء البعيدا
حالما، كالكلــــــــيم، كلمه المجــــــــ ـد، فشد الحبال يبغي الصعـــــــــودا
و تسامى، كالروح، في ليلة القـــــــد ر، سلاما، يشع في الكون عيـــــــدا
و تعالى، مثـــــــل المؤذن، يتلو كلمات الهدى، ويدعــــــــو الرقودا (17)
فالشاعر وهو يصف الشهيد زبانا يقدم نفسه رخيصة في سبيل هذا الوطن، راح يشبهه بكل ما من شأنه حمل معاني السمو والتعالي والطهر والبراءة؛ (كالمسيح، كالملائك، كالطفل، كالكليم، كالروح، مثل المؤذن)، إن تكرار هذه التشبيهات، وبالصيغة نفسها، يضفي على الحجاج قوة بالإضافة إلى ربط طرفي التشبيه بوجه الشبه، ما يضفي على الحجاج بيانا آخر. وكل مشبه به في هذه الأبيات له رابط كبير بالوضعية التي كان عليها الشهيد:
– المسيح حمل عبء الرسالة والصبر على نتائجها + الخلود.
– الملائكة الطهر + العلو.
– الطفل البراءة.
– الكليم شرف التكلم.
– الروح القدسية + شرف حمل الوحي.
– المؤذن عظم المهمة.
لم يدع الشاعر مظهرا أو صورة من صور الجمال إلا وأصبغها على هذا الشهيد الذي وضع روحه بين كفيه، وأن كل مشبه به مرتبط بالأعلى، وهل ينزل من أعلى إلا كل مقدس نبيل؟ وهذا ما يدفع المتلقي إلى التعاطف مع قضيته، انطلاقا من الربط بين طرفي التشبيه، ونصل إلى ذلك انطلاقا من هذا السلم المدرج، الذي يدفع المتلقي إلى إعمال فكره من أجل الوقوف على العلاقة القائمة بين عناصره، والقصد من الرسالة التي يريد أن يحملها المُلقي:
الرفع إلى أعلى (زبانا) -ج- الطهر (زبانا) -ج-
الرفع إلى أعلى ( الشهيد)-ب- الطهر (الشهداء) -ب-
الرفع إلى أعلى ( المسيح) – أ – الطهر (الملائكة)-أ-
القدسية (زبانا) -ج-
القدسية (الشهيد) –ب-
القدسية (الروح)-أ-
إن هذه السلالم الحجاجية تسهم في اكتشاف طاقة الحجاج التي تتضمنها التشبيهات، إذا سلمنا بأن التشبيه عبارة عن عملية منطقية تنطلق من مقدمات لتصل إلى النتائج، كما يسهم في تقريب الأشياء من عالم الحس، مما يساعد المتلقي على الاستنتاج.
وسرى في فم الزمان ” زبانا ” مثلا، في فم الزمــان شــــــــــرودا
ثورة، تملأ العوالم رعـــــــــــــــــبا وجهادٌ، يذرو الطغاة حصيــــــــدا (18)
يمتح الشاعر من قوة البيان التي تتضمنها الاستعارة المكنية، ليعبر عن خلود اسم ” زبانا ” في حياة العالمين من جهة، وعن استمرارية قوة الثورة من بعده، وحصدها للانتصار بعد الانتصار من جهة أخرى.
لقد انتصر “زبانا” باستشهاده على جلاديه، وبانتصاره انتصرت ثورته، وهي حتما نتيجة لمقدمة حتمية.
” زبانا” خالد -ج- ثورة الجزائر قوية -ج-
الشهداء أصحاب قضايا -ب- ثورة الجزائر حق -ب-
الخلود لصاحب القضية -أ- ثورات الحق قوية -أ-
أما عن آليات الحجاج التداولية نجد:
- الحجاج بالفخر:
وهو صورة حجاجية يتضمنها كل بيت من أبيات هذه القصيدة، ما يحمل المناوئ أو المتلقي إلى الإقرار بالأقوال التي تصدقها الفعال، ولعل عمودها (موت زبانا):
صرخة، ترجـف العــوالم منها و نداء مضـــــــــــى يهــــــــــــز الوجودا:
“أشنقوني فلســــت أخشى حبالا واصلبوني، فلست أخشى حديـــــــدا”
“وامثل سافـرا محياك جــــــــــــلا دي، ولا تلتثم، فلست حقــــــــــــــودا”
“و اقض يا موت في ما أنت قاض أنا راض، إن عاش شـبي سعيــــــــــدا”
“أنا إن مت؛ فالجزائر تحــــــــــــــيا حرة، مستقــــــــــــــــــــــــلة، لن تبيدا”
قولةٌ، ردد الزمـــــــــــــان صـداها قدســيا، فأحســـــــــــن الترديــــــــــــدا
احفظوها، زكيــــــــــــــــة كالمثاني وانقلـوها، للجيــــــــــــل، ذكرا مجيدا (19)
الشاعر يتحدث على لسان الشهيد ” زبانا ” مُظهرا رباطة جأشه، وقوة شكيمته، وإقباله على الموت بأريحية كبيرة: (اشنقوني فلست أخشى حبالا، اصلبوني، اقض يا موت، أنا راض، أنا إن مت فالجزائر تحيا)، وهذا يدفع الدهشة إلى الخصم المناوئ، ويجعله يراجع حساباته، كما يدفع الرعب إلى أوصاله؛ لأنه فقط ليس صاحب قضية.
- الحجاج بالمثل التاريخي:
و تتجسد في استقدام الوقائع من التاريخ للمقارنة والمحاجة، وإبراز ما لها من قدرة تواصلية كبيرة. وتجدر الإشارة إلى أن تضمين الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة والحكم والأمثال، تستمد حجيتها وقوتها من قوة المصدر الذي استقيت منه، وتواتر الناس على الإقرار لها بهذه المحاجة والقوة، وغني عن البيان أن المُلقي يلجأ إلى هذه النصوص عندما تعوزه الحيلة على مواصلة المجابهة أمام الطرف المُحاج؛ فهي، أي هذه الحجج الجاهزة غالبا ما تؤدي وظيفة التدعيم إلى جانب وظيفة إعادة التوازن بين المتكلم والمخاطب، بعدما يعتري العملية التخاطبية نوعٌ من الخفوت في التفاعل(20)، يقول الشاعر مستحضرا واقعة ادعاء صلب السيد المسيح – عليه السلام-
قام يختـــــــــــال كالمسيح وئيـــــــــــــــدا يتهادى نشـــــــــــــــــــوان، يتلو النشيدا
وامتطى مذبــــــح البطـولة معـ ــراجا، و وافى السمـــــــــــــــــاء يرجو المزيـدا
زعمــــــوا قتله … و ما صلبـــــــــــــوه، ليس في الخــــــــــالدين، عيسى الوحيدا
لفه جبــرائيل تحــــــــــت جناحيــــــــــــــ ـه إلى المنتهى، رضـــــــــــــــــيا شهيدا (21)
استطاع الشاعر محاججة المناوئ بحادثة هي من صميم عقيدته و تاريخه المقدس، وهي حادثة صلب المسيح – عيه السلام – فالحادثتان كلتاهما تمتح من نبع العقيدة الثر؛ لأن الرجلين كليهما ضحيا من أجل أمر مقدس نبيل، مع الفارق؛ فالمسيح لم يمت وإنما شبه لقاتليه ورفعه الله إليه، والشهيد “زبانا” ارتفعت روحه إلى أعلى عليين، فهي مخلدة في الجنة. إذن فالروحان كلتاهما ارتفع إلى أعلى حيث الراحة الكبرى؛ لأن كليهما أقدم على عمل جليل، ويبدو هذا المثل العقدي موائما لعقلية المناوئ الذي تمادى في ظلمه، هذا الظلم الذي جعله يجهل حتى حدود عقيدته؛ والحقد أعمى.
لقد اجتهد “مفدي زكريا” في قصيدته هذه في استغلال كل أدوات الخطاب الحجاجية، لينقل صورة جميلة عن الشهيد، وصورة كلها حقد وكراهية للطرف المناوئ، وما يلفت النظر في هذا النص، أنه وعلى الرغم من أن الموقف موقف حزن كبير، إلا أن الشاعر استطاع بفعل إيمانه العميق أن يحول قتامة هذه الصورة إلى أجواء روحانية عالية، تعكس مدى فرح الشاعر بهذه الشهادة التي أكرمه الله بها، وهذه هي أقوى صور المحاججة.
الإحــــــالات:
- ابن منظور: لسان العرب، دار صادر، بيروت، طبعة5، 1992، ج3، ص 228.
- المرجع نفسه والصفحة.
- راضية خفيف بوبكري، التداولية وتحليل الخطاب-مقاربة نظرية- مجلة الموقف الأدبي،العدد399، تموز 2004. ص03.
- الجاحظ:البيان و التبيين. تحقيق و شرح : عبد السلام محمد هارون.ج1.دار الجيل.بيروت. لبنان.دت.ص76.
- سامية الدريدي:الحجاج في الشعر العربي القديم بنيته و أساليبه حتى نهاية القرن الثاني هجري.عالم الكتاب الحديث.أربد.الأردن.ط1. 2008 . ص168.
- أبو هلال العسكري:الصناعتين( الكتابة و الشعر).تح: علي محمد البجاوي ، و محمد أبو الفضل إبراهيم.دار الفكر العربي.ط2. دت. ص57.
- عبد القاهر الجرجاني:أسرار البلاغة في علم البيان.صححه و علق حواشيه:محمد رشيد رضا.دار الكتب العلمية.بيروت.لبنان.1988. ص15.
- طه عبد الرحمن:اللسان و الميزان أو التكوثر العقلي.ط 1 .المركز الثقافي العربي.الرباط.المغرب.1998.ص277.
- محمد العمري:في بلاغة الخطاب الإقناعي-مدخل نظري و تطبيقي لدراسة الخطابة العربية- الخطابة في القرن1 نموذجا.إفريقيا الشرق و المغرب.ط2. 2002. ص90.
- طه عبد الرحمن:المرجع السابق.ص228.
- المرجع نفسه:ص312.311.310.
- مفدي زكريا:اللهب المقدس:موفم للنشر.الجزائر.2009. ص18.17.
- المصدر نفسه:ص19.
- ىنفسه:ص20.
- نفسه و الصفحة .
- المصدر نفسه:ص22.
- المصدر نفسه:ص18.17.
- المصدر نفسه:ص19.
- المصدر نفسه:ص18.
- آمنة بلعلى :تحليل الخطاب الصوفي في ضوء المناهج المعاصرة. منشورات الاختلاف.الجزائر.ط1. 2002. ص120.
- اللهب المقدس:19.18.