غزلان هاشمي: حديث الطواف والبحث عن الحرية
إن بزوغ نجم الدكتورة غزلان هاشمي في مجال النقد حجب الجانب الإبداعي لها وما خطته أناملها في مجال القصة القصيرة؛ ولتسليط الضوء أكثر على هذا الجانب خصصنا قصة ” طفلي الذي لن يعود ” بقراءة انتهجنا فيها المنهج السيميائي، وركزنا على العنوان كعتبة تفرض نفسها على المتلقي بما لها من صدارة؛ إذ يعرّفه ” ليو . هـ . هوك ” بأنه : ” مجموعة العلامات اللسانية التي تدرج على رأس نص لتحدده، وتدل على محتواه العام وتغري الجمهور المقصود بقراءته” (1 )
فإلى أي مدى حدد هذا العنوان قصة الأستاذة غزلان ودلل على محتواها؟ وهل حقق الوظيفة الإغرائية في استهدافه لقراء معينين؟
سنحاول الولوج إلى كوامن النص الموسوم بـ ” طفلي الذي لن يعود ” من خلال عنوانه وما مدى تعالقه مع المتن، وما هو النص الموازي الذي يتبدى للمتلقي، وباعتبار “العنوان جزءاً من التشكيل اللغوي للنص” (2)؛ تعد البنية التركيبية للعنوان أول ما نعالجه ونقف عنده، إذ يعتبره جميل حمداوي: “أول عتبة يطؤها الباحث السيميولوجي هو لاستنطاق العنوان واستقراؤه أفقيا وعموديا” (3)
وأول ما يمكن ملاحظته، أنه تشكل من مكون حدثي ينبئ عن حركة تسعى لتغيير وضعية يجسدها الفعل “يعود” المسبوق بحرف النصب الدال على النفي في المستقبل، فتتجسد اللحظة الزمنية كحد فاصل بين مرحلتين أو وضعيتين لا يمكن لهما أن تتشابها فمادة “طفل” تحمل معنى النعومة من جهة ومعنى الصغر من جهة أخرى، فالكاتبة اتخذت قراراً بأنه لا مجال بعد اليوم للنعومة والتلطف، وأن الصغير قد كبر وذلك إيذان بتبدل الوضع من حالة الاستكانة والاستسلام إلى حالة المقاومة وفرض الذات، غير أن الحذف المضموني وهو حذف يتعلق بمحتوى العنوان، ويكسره بحيث يتراوح مضمون العنوان بين البوح والكتمان، بما يلزمنا العودة إلى المتن لاستقراء هذه العودة وما سرها وكيفيتها. (4). فهذا الحذف يترك ثغرة في العنوان تصدم المتلقي وتثير تساؤلاته، مما يحثه على ردم الفجوة التي سببها الحذف. وهذا النقص الدلالي الذي يجتاح العناوين، من شأنه أن يحقق الوظيفة الإستراتيجية للعنوان، باستقطاب اهتمام المتلقي وإثارته؛ ولذلك يعد الحذف خاصية مكونة للعنوان. كما أن الحذف يؤدي وظيفة الإغواء / الإغراء ، وهذا لا يتحقق إلا بتفخيخ خطاب العنوان بالإثارة، تركيباً ودلالة ومجازاً.
تهمين لفظة ” طفل ” على العنوان بوصفها مركبا اسميا يدل على معنى الثبات والاستمرارية وأول ظهور له في المتن “تاركة طفلنا ينشد علّه يأتي من يمتلك حس الدعابة فيفتح الباب”(5)، فهو لم يعد طفلها وحدها بل هو الغاية المنشودة لكل من حولها ينتظر إقدامهم على تحريره من أسره، وفتح الباب له لكن انتظاره يذهب سدى؛ فقد غدروا به وتنكروا له “إن صلاة الجنازة تقام على روح طفلك…”. (6) هذا الطفل الذي ثار على هواجسهم وأحرق نعالهم وسفّه أناشيدهم، لم ترضه لا القرابين ولا أعواد الثقاب التي أشعلها فيهم.. طفل يستحق الشنق باسم العدالة في نظرهم “طفلي مشنوقا هناك” (7) على باب بناية العدل، لكنه كما الفينيق يبعث من رماده فما تلبث أن تجده يلعب كأن شيئا لم يكن، “وجدته يلعب بأشلاء لساني.. يفكك ويعيد ترتيبه وفق أبجدية الموت، فهمت الأمر…” (8). لا بد لنا أن نفهم نحن أيضا الأمر فالطفل الذي تتشبث به القاصة هو الحرية التي ننشدها الحرية الحلم “إنه الحلم الممد على سرير الانتظار” (9) طالما انتظرناها ولكن ما إن تصبو إليها النفوس حتى تنصب لها المشانق “و قد علّقت عليها كلّ ضحاياك في مشانق من كلمات” (10) ونغلق عليها الأبواب وراءنا؛ مخافة أن يتكشف جبننا فتعلو الصيحات المطالبة بها، وتخشاها النفوس المريضة التي يؤلمها النور إذا ما سطع “كان المارة يتقاذفون الحجارة…و يتبادلون التحيّات” (11) موقف غاية في التناقض، لا يفسره إلا صراعنا الداخلي في وقوفنا في وجه الظلم والطغيان، لكن التشبث بالحرية يظهر جليا في رمزية الطفل وتعلق الوالدة به وما تقدمه من تضحيات في سبيل ابنها “.كان الدم ينزف بشدة من لساني…”( 12) ؛ فاللسان هو الأداة المعبرة عن الحرية وعن الرأي المخالف “وأفجّر عبره كلّ كلماتك التي سكنت آلامي”( 13).
إن الرصاصة التي استقرت في جسده حررته وأطلقت له العنان “أحسست بالاختناق، وعندما لامست عنقي وجدت حولها عقد من كلمات… هي كلماتك…” (14)، ولم يعد بالإمكان تجاهل الأمر بل أصبح لزاما عليها أن تناضل في سبيل الكلمة الحرة “هناك فقط أخليت سبيله، و صعدت إلى بيتي باحثة عن قلمي” (15). إن القلم هو ملاذها الذي لن تخذله بعد الآن، وقد آمنت بالحرف الذي يعود للنبض إن كان به بقايا حياة؛ فكل التضحيات تهون -وإن جردوها من شهاداتها ومن انتمائها- فالحرف وحده ما تنتمي إليه “و ما عليّ الآن إلا أن أتجرّد من شهاداتي و جواز سفري…لأعلن عن انتمائي إلى تلك الأوراق”. ( 16). والحرية قبلتها التي تولي وجهها نحوها كلما “ففككت أغلالهم و تركتهم ينشدون…أخذ الكلّ يغنّي على طريقته سعيدا…” (17)
إنها تعلن ميلادها الجديد وتفتح باب الحرية على مصراعيه رغم القيود، ورغم القهر
“لقد كنت أول من فتح الباب عليه بعد أن أغلقته المراسيم و التحقيقات” (18)
وعليه فالعنوان أشبه ما يكون ببطاقة هوية، وفي كثير من الأحيان يكون كاللوحات الإشهارية الخاطفة، وبخاصة حينما يكون براقا مغريا، إذ يصنع دعاية كبيرة لذلك المنتج؛ “إنه المفتاح الإجرائي الذي يمدنا بمجموعة من المعاني التي تساعدنا في فك رموز النص، وتسهيل مأمورية الدخول في أغواره و تشعباته الوعرة». (19)
فهو -ومما سبق- يكشف توق القاصة إلى الحرية وكفاحها في سبيلها مهما كانت التضحيات التي تقدمها في سبيل الكلمة الحرة، رافضة روح الاستسلام والانهزام، تواقة للترنم بأناشيدها الساحرة، معلنة لحظة الانعتاق، ومبشرة بالغد المشرق؛ لأنه وإن كان الموت منطق الأشياء فالحرية وحدها ما تهدينا المناديل البيضاء، لنرسم عليها مستقبلنا بأيدينا ونمسح الدم النازف فتعلو البسمات أرجاء الكون .
——————-
الهوامش :
(1)شادية شقرون ، سيميائية العنوان في مقام البوح لعبد الله العشي ، محاضرات الملتقى الوطني الأول السيميائية والنص الأدبي ، نوفمبر 2000 ، منشورات جامعة بسكرة ، ص 269
(2)مفيد نجم ، العنونة في تجربة زكريا تامر القصصية، مجلة “نزوى”، عمان، ع47، يوليو 2006 ، ص67
(3)د. جميل حمداوي: “السيميوطيقا والعنونة”، عالم الفكر، الكويت، مج25، ع23، يناير/ مارس 97، ص90.
(4) د. حفيظة صالح الشيخ ، سيميوطيقا العنوان في مجموعة “المدفع الأصفر” ,موقع http://www.dammaj.net
من (5) إلى (18)غزلان هاشمي ، قصة ” طفلي الذي لن يعود ” ، منتدى الندوة العربية ، http://arabicnadwah.justdiscussion.com/t111-topic
(19)د. جميل حمداوي ، المرجع السابق ، ص 90