ولدته ذات ليلة شتويّة قارسة البرد. كان هزيلا وعاريًّاً، إنّهُ طفلُها الأوّل سمّته يوسُف. شرْخٌ صغير في رحِمِها، نجح بعد عسير المخاض في الخروج. انسلَّ مثل شعاعٍ من ضوء يزحف على الأرض. تمطَّى الشّعاع، فانفرد صبيًّا صغيرًا مادًّا ذراعيه ليحتضن العالم، وقد اعتنقه صدر أمّه في إقدام مَنْ يخوض مغامرته الأولى.
كانت تنتظر يوم لقائهما الموعود بوجل تحتمله بشجاعة، إنّها تحتاجُ لقاءهُ خارج تابوت الوقت بعيدا عن عينيّ شريرة الفقد. فأرض فلسطين ربّما غير مستوية؛ لذلك أغلب الأحبّة لا يلتقون.
كانت الأمّ جهاد تضغط على حلمات ثدييها ضغطات متقطّعة بحذر، في تمرينها الأوّل للتدرّب على الأمُومة..
حلّ الظلامُ ولم تنم. تدثّرت بملابسها، وأخذت تتلفّتُ يمينا وشِمالا، تبحث عمّن كانت برفقتهم، فلا تجد أحداً. إنّه يوم أمومتها الأوّل، وذاكرتها الأخيرة. تهرول مذعورة، حين تتذكّر كيف تفرّقوا. كانوا معزولين وسط غابة يسكنها الفقراء والصّابرون، والمبتورون والتّعساء، لكلّ منهم أسيرٌ ينتظر عودته، لعَلّه يعود إذا حلّ المَساء. عاشت جهاد في بيت ملتصق ببضعة بيوت أخرى، مكوّناً رحماً بارداً دافئاً متّصلاً بحبل تُرابي طويل، متراصّا بتاريخ من البُكاء والعويل. تتأقلم جلود هؤلاء مع الشّتاء، و تتناغم أعمارهم مع القصف والمدفعيّة، ولا خيام للعزاء ولو غاب الأعزّاء..
تتعب الأمّ؛ فتضع رأسها على الوسادة. يُرهقها التذكّر ويؤلمها النّسيان.. المكان البعيد وصوره الغائمة… استشهاد الوالد الرافض للذلّ والمهانة، ودوام الحرب المشؤومة، والغارات المجنونة؛ واحدة تلو الأخرى. في النهاية وجدت أن ما فعلته الحرب بسردية الوطن ما هو إلا تمزيقها واختصارها إلى أشباحٍ تسكن في الخيام، إلى صفحات من اللّجوء والانعدام، لاشيء سوى التّصوير والتّحرير والأخبار وبعثرة الوقائع، وإخفائها بين الأسطر، وتغيير تسلسلها…قصّ ولصقٌ متعمّد لحقائق يعرفها الجميع. وهو فعل لا يخلو من الخيانة والنّذالة.
في الخيام وحولها زحام هامد.. سوق للأشياء والأشلاء.. أحياء بلا عناوين لأشخاص بلا أسماء، وأطراف صغيرة جائعة وعارية، لم يغطّها ثوب ولم يسترها جدار. هنا تغصّ الأم بقضمة الخبز اليابس الذي تغصب نفسها عليه لأجل طفلها، وهي تعلم أنّه لا يُسمنُ ولا يُغني من جوع، قطعة خبز ممتزجة بحبات الرّمل، والدّمع على شفتيها قد يبلّله قليلا أو يجعله مالحًا كثيرا.
تتنهّد كلّما بكى الطّفل. إذن هو على قيد الحياة. في الصّباح ينكشف جزء من الضّوء. تستديرُ لتجد قامةً ملفّعة بالسّواد، تلهث في سيرها البطيء، تتكئ على عكازها البنيّ الطّويل. تتحشرج الكلمات في حلقها الجافّ، وهي تُلقي التحيّة. هذه المرأة كأنّها جاءت لتفكّ قيدها، فعانقتها في لمح البصر ومنحتها رحب صدرها المليء بهكتارات من الفراغ! تمسّكت بإطلالة هذه العجوز كأنّها النّاجيةُ الوحيدة. عانقتها عناق من خرج كي يلقى الطّبيعة، ويرى المُروج الخضراء، لينهل من جداولها الرّقراقة.
ما أبشع التّشرد واللّجوء من وطن إلى وطن، ومن منزل إلى منزل، ومن عراء إلى خيمة! ولا نعرف إلى أين المصير، وما هو؟
أشتاق يا خالة، أشتاق لصوت بائع الحليب في وقته المُعتاد.. أشتاق لامرأة تعرض على الجيران الخضراوات الطّازجة.. وللصّياد الذي يطرق أبواب البيوت يحمل سلّته الممتلئة بالأسماك، أشتاق البحر مهما كان موجه عاتيا. كم أحنُّ إلى نحنحة جدّي وهو يسعل وقت صلاة الفجر!
منذ متى لم تفُح رائحة القهوة من نوافذ البيوت؟ ولم تتسرّب رائحة الفلافل من المطاعم الصغيرة على طرف الشّارع، ولا حتى زقزقة العصافير فوق الشّجرة التي تتوسّط بيتنا… ما أجمل الماضي!
لذا تمنيت لو كان للماضي صندوق تفتحه وتطلّ منه على كلّ الأشياء التي ذهبت. ظلت جهاد تسردُ كمن أصابه نزيف من البوح. لم تفق الأمّ الشّابة إلا على بكاء طفلها الذي لم يرضع منذ الرّابعة فجرًا؛ فضرعها شحيح مثل أيّامها، وبسبب الجوع؛ لن يستطيع العودة إلى النّوم مرّة أخرى.
صباح أمومتها الأوّل بحاجة لمعجزة لكي يصبح جميلا. جلست العجوز مع جارتها تُواسيها، وتضع يديها على خدّها البارد، بينما جهاد واجِمة تعرف الحُزن، ولا تعرف كيف تتحمّله. لذلك انهارت بين يديّ جارتها حين دلفت إلى الخيمة.
وحان دورُ العجوز.. كأن البرد يحمل فأسا ثقيلة يهشم بها مناعتها كلّما حاولت منع نفسها من البُكاء حين تتذكر السّنوات الخمس عشرة التي مرّت ولم ترَ فيها ابنها.. أخرجت من صدرها ملفوفة من قُماش حفظت فيه صورة ابنها حين كان في أوّل شبابه. ربّما لم يعُد شعره غزيرا، وربما نمت ذقنه الخفيفة وقت التقاط الصّورة، وشفتاه المبتسمتان تذَكِّرانِها بذلك اليوم الذي جاء فيه الجنود لاعتقاله. لحظتها شدّت ولدها وصرخت في الجندي، فيما قام اللّعين بدفعِها بقوّة ليُسقطها أرضا. تاركا على كتفها آثار يده النّجسة، وتتذكّر جيّدا تلك الطمأنينة التي أبداها ولدها بابتسامة واثقة قبل أن يخرج من البيت مُحاطًا بالجنود. أمّا هي فلا سكنت ولا اطمأنّت، فكيف تفعل وهي لم تستطع تحقيق أمنيتها برؤيته؛ فلم تتمكن من زيارته، ولو لمرة واحدة، في المعتقل؛ فسلطات الاحتلال تمنعها من الزيارة..
مرّ زمن وأصبحت ذاكرتُها صندوقها، وبات عليها أن تصحو في الّصباح لا تفعل شيئًا غير تذكر تلك الأيام رغم أنّ هذه الذكريات وغيرَها تبعث الألم من مرقده.. وخرجت الجارة المكلومة مثل الأخريات، وقرّرت الأمّ الشُّروع في محاولة جديدة لإرضاع ابنها، بينما راحت العجوز تمشي في حارات المخيّم، ككُلّ مرّة، حتّى ينهكها المشي ويهدَّها التّعب، فتعود لخيمتها ولفراشها الهزيل الذي يوجِع عظمها المُسنّ.
حلّ المساء مُجدّدا على صوت الأمطار تدُك سقف الخيمة. كانت الرّيح شديدة تضرب الخِيام بقوة شديدة. ولم يتوقّف المطر منذ أوّل اللّيل. كان صوت نقراته في البداية يبعث الرّاحة في النفس، لكنّه سرعان ما اشتد وصار عاصفًا يبعث على القلق مع وجع يفرك الأجساد.
لم تعرِف جهاد لمَ كُلّ هذا القلق؟! لكنّها أحسّت بأن اللّيلة لن تمرّ على خير. نظرت إلى طفلها لتتأكد أنّه مُغطّى جيدًا.. بعد قليل سمِعت صوت جلبَةٍ في الخارج. كان سكّان المخيّم قد خرجوا إلى السّاحة. فزادت أصواتهم من شعورها بالقلق. حدست بأنّ ثمة خطبًا، وأن عليها الخُروج لاستطلاع الأمر. كانت الأمطارُ قد تجمّعت على شكل نهر.
في تلك اللّيلة غرق الحيّ بعد أن اجتاحته الأمطار. أسرعت فاختطفت صَغيرها من زاويّة الخيمة التي لا مَهد فيها ولا حليب ولا سَرير، وظلّت متمسّكة به كما يتمسّك الفلسطينيّ بشجرة الزّيتون. وها هي تقف على طينٍ كالعجين، محملاً بالكثير من العابِرين، تُراقب المارّة الذين هم جزءٌ من حكاية لا تنتهي إلا لتبدأ، ولا تبدأ إلّا لتنتهي.
ستظلّ الحكايات في فلسطين بلادُ الفُلّ والسّناء والطّين مشبّعة بالكبرياء والعزّة بالفرح والمعاناة، بالحزن والبهجة بالانتظار، واللّهفة، بالفراق،واللقاء، وبعناقيد الأمل العالقة في قِماط الرّضيع الهزيل.. بحُضن الأمّهات اللّواتي تمتد أيديهن لانتشال أبناء الأقصى من أقصى غابات الحزن، ولو بالرّقص على حبل الحنين في ساحات المواساة. بالحكايات التي غالباً ما تبدأ بحب كبير، وتنتهي بجنازة فراق، لا يسير خلف نعشه أحد. بمخيمات اللاّجئين، تلك الأوطان الصّغيرة التي تمنحُها الأيّامُ للفلسطينيين كي لا تأكلهم الغُربة في الوطن العربِي البارد..