الشاعر والناقد المثقف زياد هديب رحمه الله، كان من أوائل المنتسبين إلى “شعراء بلا حدود”، وكان عضوا فاعلا في إدارتها.. كلمة وفاء، ودعاء بالرحمة والمغفرة
إن أي موقف قد نتخذه لا يشكل حيزاً في فضاء العلاقة الإنسانية البحتة؛ هذا لأننا ندّعي تحمّل جزء من رسالة عامة تهم الجميع وتجهد في كنس بعض الغبار الذي يعلو قناعات بعضنا عن موروثنا الثقافي وحالة التثاقف بين اللغات.
قصيدة النثر ، في رأيي ، ليست مولوداً غير شرعي للشعر العربي الموصولة سيرته ووصفه ومراحل تطوره حتى الآن، رغم المحاولات الجاهدة لتجيير هذا الشكل لصالح الأدب في الغرب الذي اكتشف هذا الصنف كما اكتشف الكهرباء؛ فكان صاحب الحق في براءة الاختراع دون غيره. وأعلم أن أدونيس كان من أوائل من طرقوا باب هذا الجنس الأدبي ولم يخرج على أسس تقعيده الغربية، لكنه في الوقت نفسه كان أول من كشط الغبار عن موروث سابق في النشأة لقصيدة النثر بنموذجها الغربي لا تضرب جذوره إلا في عمق ثقافتنا ولغتنا العربية في نصوص النفري تحديداً، والحلاج والمتصوفة عموماً، إضافة إلى ما ورد من نماذج الشعر العربي التي خرجت على أوزان الخليل، ولم تعترف بها، وقد سبقتها تشكلاً، فكان الاستثناء من باب عدم تصنيفها شعراً خاضعاً لقاعدة الخليل، لكن ما يدور الآن هو خلط للمفاهيم، حسب رأيي ، وهو محاولة يائسة لشل الفكر عبر تعويم مفهوم الشعر استناداً إلى قاعدة تحريره، ليس فقط من أوزان الخليل، بل من كل شيء، تفسيراً لفضاء رحب غير ذي حدود؛ محتجين باقتراب لغة قصيدة النثر من صيغ التعبير النثرية الأخرى. وهنا لا يمكن لنا تصنيف النصوص الشعرية دون غيرها لعدم وجود حد يفصل الشعر عموماً، وهنا لا أعتقد بضرورة التقعيد للشعر فهو أعلى من ذلك لكنه مختلف بالضرورة عن أي نص نثري آخر بوجود علامة فارقة ما.
حين تسمع تعبيراً يلامس جملة مشاعرك ويرغمك على خلق فضائك الخاص بعيداً عن تواتر جمل النص في أذنك تقول: كأنك قلت شعراً.. فما المقصود في ظل غياب الإيقاع الخارجي للحرف؟
وهل من علاقة بين عناصر البيئة المحيطة بنا تستطيع موسقة الأشياء المتآلفة كالنهر والجبل والطير…الخ؟
إن ناظم هذه السنكرونية، كما أرى، نقطة الارتكاز في بحثنا عن الموسيقا الداخلية للأشياء بروحها وجمودها؛ ما يصلنا بنقطة التوهج في علاقتنا بالكون بشكل عام.
الوزن لا يعيب الشعر لكنه في حال فرضه وسيلة الشعر الوحيدة، فإنه يصبح معطلاً لإمكانية تغير مفهومنا عن الشعر بأنه فلسفة لا شكل. ومن هنا كان رأيي المتواضع مستشهداً بقراءة للشعر من وجهة نظر الكبير الماغوط، إذ قال: “إن أية كلمة في موضعها شعر”.
ولذلك أرى إمكانية أن تجازف باستخدام كل متاح من أشكال إبداعية كالخطاب والخاطرة…الخ، في قصيدة النثر شرط أن لا تكون المسحة وحيدة، بمعنى التسخير للضرورة الشعرية؛ لأن الشعر فقط ما يستطيع فعل ذلك لسبر الكون والتحليق بعقول المتلقين ، بعيداً عن مسطح البعد الواحد.
لقد أورد الجرجاني أن الخطابة تلتزم السجع والإيقاع الخارجي تسهيلاً لحفظها، كما الشعر، وقد أيّد الجاحظ هذا الرأي وفي كل من الرأيين دالة يجب أن نأخذها تحليلاً قبل أن نخوض فيها تبجيلاً وتقديساً؛ لا لشيء إلا لأنها وصلت إلينا هكذا. ففي ظل شح الوسيلة المتداولة آنذاك لنقل الخبر، اعتمد الناس على خلق الوسيلة المرافقة للشعر تسهيلاً على الذين كان جلّ حياتهم في الترحال بحثاً عن الكلأ والماء، فكانت دوافع النقل متأثرة ، في ظل فقر الكتابة، بعاملين:
الأول: الترحال المتكرر , وهو وسيلة للعيش إلى جانب إمكانية الاختلاط بقبائل أخرى من بني جلدتنا.
الثاني: مرافقة التنغيم للكلام المراد نقله وحفظه.
نخلص من هذين العاملين إلى أن الضرورة فرضت شكلاً ما على الشعر، وهنا كان الشعر كلاماً يدور بين دفتي اللغة أصلاً، ما يدل على أن الشعر فكرة وخصوبة خيال وتعبير مكثف رافقه النغم والترحال خدمة لنشره إعلامياً، فأصبح لازمته التي لم نعرف حتى ذلك الوقت إلاها. وقد آلت إلينا على ما نعرف شكلاً تم فرده وتحليله لاحقاً، لاكتشاف آلية صياغته وحكم ضوابطه وإن خرج كثير من الشعر غير المصنف على هذه القاعدة فاستثني من دائرة الإحصاء إلى دائرة الشذوذ والخطأ، ولذلك أعجب من متعصب للمرافق على حساب بنية الشعر الأصيلة. فهل الشعر نغم ضبط الكلام عليه؟ أم أنه كلام طوّع النغم فاحتواه كأحد مكوناته لا العكس؟
الشعر -في اعتقادي- كان موجودا في اللغة قبل دخول الموسيقا إليه، وهي، أي الموسيقا، كائن منفصل تكوينا ونشأة، وله من الأدوات ما يبرر وجوده إلى يومنا هذا، وهو لا يتعدى كونه مؤثراً خارجياً لا علاقة له بالمعنى المراد إيصاله إلى المتلقي، لكنها تبقى شكلاً رصيناً نحترمه مضافاً دون أن نأخذ به ملاذاً وحيداً لتصنيف الشعر من عدمه، ونعلم أيضاً بأن جميع اللغات، تقريباً، مرت بالمراحل نفسها من التطور والإضافة ونبذ الوحشي من القول، بما يخدم إيقاع الحياة وتبدل الوسائل واختلاف هذا الإيقاع من فترة لفترة، وفقا لتقدم العلوم والصناعة ودخولنا إلى عصر المعلوماتية الهائلة السرعة. كل هذا يرافقه توفر الوسائل العديدة للحفظ، تجنيباً لحشو العقول والذاكرة بما نملك من بدائل تضع النص الذي تريد ساعة تريد برمشة عين قدامك.
إن شكل التعبير يفرض في كثير من الأحيان وسائله المرافقة، فلمّا كانت العرب بداوة تفتقد إلى الوسائل المناسبة للنهوض بعمرانها وحربها واستثمار أرضها، كانت الوسائل التي نعرف، وكان الشعور الإنساني متأثراً إلى حد بعيد بهذا الوسط المحيط، كي لا ينشز عنه، وأنا هنا لا أتوخى أن يفهم القول على أنه إقصاء للتراث وما نملك من حصيلة رائعة نعتز بها حتى اليوم. لكننا إلى جانب ذلك نسعى إلى ثقافة للمتلقي تستوعب إيقاع هذا العصر، انسجاما مع بنية لغتنا المؤهلة لذلك، وفي الوقت نفسه نقول بضرورة تمسكنا بهذا التراث على أن لا يطغى على سمة العصر.. وأدعي هنا أن كل ألأشكال النثرية والشعرية موجودة قواماً وحصراً في الشعر دون غيره؛ فيحق له تسخيرها جماعة أو فرادى في سبيل التعبير عن الحالة الشعرية المقصودة؛ ذلك لأنه فلسفة الحياة وتجسيد لكل العلاقات الناشئة بين الحي والجامد.. الثابت والمتحرك.
لا شك أن تسمية “قصيدة النثر” بهذا الاسم تحمل ازدواجية ظاهرة شكلاً، لكن هذا الأمر لن يحسم الخلاف الدائر حول شعرية النصوص المعروضة على الساحة الأدبية، والقول بان الشعر قائم على ملازمة الإيقاع الخارجي ما هو إلا محض افتراء على جوهر ومنطق الشعر فلسفياً، وفق اعتقادي.. هناك من هو متمكن من علم العروض والأوزان ولذلك يحجم عن الخوض في ما عداه لأنه، وهو المعتقد أنه قد بلغ ناصية المجد والبلاغة، وهذا أمر بحاجة إلى بينة وقرائن دامغة، لم تحسم بعد لا على صفحات الفضاء الرقمي، كما على الساحتين الأدبية والنقدية معاً، فلنخرج من دائرة الاحتكار للشعر بالقول أن جل من يكتبون قصيدة النثر لا يجيدون أصلاً النظم؛ فهذه التهمة تسقط إذا ما وجدنا أن الكثير من كتاب قصيدة النثر هم شعراء للتفعيلة والعمودي قبل ارتكابهم الخطيئة محور البحث.
ولا أعتقد أن هناك من يشكك بقدرة محمود درويش، مثلاً؛ ففي مقدمة ديوانه كزهر اللوز أو أبعد، يبدأ الديوان المذكور بهذا الاقتباس من التوحيدي: “أحسن الكلام ما قامت صورته بين نظم كأنه نثر، ونثر كأنه نظم”. فلماذا؟ ودرويش كان للمتلقي العربي حارساً أميناً للوزن؟ لماذا هذا الاقتباس في مقدمة لديوان لن تجد فيه ما ينشز عن القاعدة في شعر التفعيلة؟ أما بشأن الشعر فأتمنى أن نخوض على أساس موضوعي في ماهية الشعر؛ فالشعر اصطلاحاً وصل إلينا مشبعاً بالنغم لأن هذه هيئته الأولى لأسباب تم تناولها كثيرا؛ لذلك من المضيعة للجهد أن نتنافس في تحليل الوزن وأشكاله وعلله وشواذه لأنه يقوم أساساً على ثابت ومتحرك متأثرا بالبيئة ونماذج الأصوات المتوفرة، كالخبب، مثلاً، ولا تنسوا أننا في معرض حديثنا عن الإيقاع الخارجي وندّه الداخلي الذي يدعي البعض باستحالة تفسيره وتوضيح، نثبت أن الشعر بحاجة إلى شكل ما من الإيقاع، لكننا نختلف على الشكل، وهنا لا بد من الإشارة إلى أننا استنادا إلى وجهَي المقارنة ندّعي بشعرية النصين، لكن وجه الاختلاف يقوم على نفي الآخر من لدن بعض أنصار العمودي، وعلى تأسيس شرعية للوجود من لدن كتاب قصيدة النثر؛ فإذا اتفقنا على أن الخلاف محصور في دائرة إثبات أن هناك كائناً اسمه الإيقاع الداخلي، فإنني أرى أن القضية انتهت إلى حل يجب أن نسلم به. وفي حال العكس سيرفع كتاب قصيدة النثر الراية البيضاء ليبدؤوا دراسة العروض، لمن لا يعرفه..
لعل من المجدي أن يتم البحث في غور الكلم لا قشوره أثناء تناول الحوار ، الذي نتوخاه سانداً لما بين دفتي اللغة التي نحب. ولا شك أن أياً من طرفي الحوار، لا يحق له الادعاء بامتلاك الحقيقة الكاملة، وبالتالي الحكم قطعاً بمسلمة لا وجود لها إلا في الذهنية القابضة على طرف للخيط الوحيد، يقول الفارابي: “قوام الشعر وجوهره عند القدماء، أن يكون قولاً مؤلفاً مما يحاكي الأمر، ثم سائرا ما فيه؛ فليس بضروري في قوام جوهره، وإنما هي أشباه يصير بها الشعر أفضل, وأعظم هذين في قوام الشعر هو المحاكاة… وأصغرها الوزن” – جوامع الشعر ص 172.
ويقول أيضاً: “وكثير من الشعراء الذين لهم أيضاً قوة الأقاويل المقنعة، يضعون الأقاويل المقنعة، ويزنونها؛ فيكون ذلك عند كثير من الناس شعراً، وإنما هو خطبي، عُدل به عن نهج الخطابة” – جوامع الشعر ص 173.
– ابن منظور: “الشعر منظوم القول غلب عليه، لشرفه بالوزن والقافية وإن كان كل علم شعرا )- اللسان
أما ابن خلدون فقد قطع بصعوبة إيجاد تعريف دقيق للشعر، معارضا تعريف قدامة بن جعفر له من باب أن التعريف انطلق من النثر دون تحديد تعريف دقيق للنثر أصلاً، ولكي نحاول نفض الغبار عن النقائض في تفسير الحالة الشعرية، أستغرب أن يقال هذا نص فيه شعرية عالية دون تحديد فعلي يتجاوز الاصطلاح الواهن المعرِّف للشعر ملبساً إياه كل عناصر الشكل بعيداً عن المضمون، فهل يكون المضمون شعرياً بغض النظر عن الشكل؟ أم أن المضمون لا يستوي إلا بتمام الشكل؟
وتأخذنا هذه المقارنة إلى محاولة أخرى للفصل بين الشكل والمضمون فلسفياً، حيث نجد أن الحروف التي تشكل الكلمة الدالة على المعنى لا تسبق الحالة الذهنية في قلب الشاعر، صاحب الشعور، بل تأتي ضمن ترتيب حرفي وظيفته الوحيدة الدلالة على المعنى الذي أريد، فهل من وجود للفكرة الشعرية؟ وهل تختلف عن فكرة قوامها النثر؟ وما الفرق؟.. لعل الامر مرتبط بمنهجية ما في تناول الموضوع المراد التعبير عنه.. سنحاول الخروج إلى فضاء يمنح هذه المتراكمات التساؤلية روحا مجسدة في نهاية الأمر.
يعد بعضهم الخروج على الوزن إثماً؛ لما يحدثه من تطاول على أسس الشعر، وأهم ركن فيه، ألا وهو الوزن؛ فهل هذا حق؟
الجواب لا بالطبع لا تمترساً عند حدود القناعة النرجسية، بل لأن الأمر فيه ما يستحق القول؛ ذلك لأن الوزن موجود في شكلَي المنظوم، لا ألفية ابن مالك وقصائد المتنبي، ولا القافية محدد فاصل؛ فهي موجودة في القصيد وفي الخطب التي اعتمدت منهجية بناء القصيدة في التقفية والسجع، ولا بالقصدية؛ فهي موجودة في النثر أيضاً، إن جميع عناصر التعريف للشعر تقف عند حدود الشكل فقط، فما الفرق بين ألف قصيدة نظمت على المنوال نفسه وتناولت الموضوع نفسه على البحر نفسه؟ وماذا أضاف الوزن إليها؟ وهل من علاقة للوزن بالبلاغة؟ ولماذا إذاً عدّت قصيدة عبيد بن الأبرص واحدة من المعلقات العشر ،وهي الخارجة على قاعدة الخليل؟ وقد تصدرت كتاب (جمهرة أشعار العرب) للقرشي؟!
في سند الوزن، لا الإيقاع، نقول بثابت المتحرك والساكن، وهما موجودان بآلاف الصور في الطبيعة بحيث يصعب حصرها؛ ولهذا كان ما اعتبره بعضهم شاذا عن القاعدة المحددة لصور هذين الشكلين، الساكن والمتحرك، وهذا فيه إجحاف كبير وتقليص جائر لما وهب الله الطبيعة بجامدها ومتحركها من إيقاعات متعددة الصور. ومن المعروف أسبقية الفكرة على اللغة؛ فالكلمة مخلوق متأخر التشكيل، والنغم سابق للكلمة تشكيلاً، والشعر من الشعور والشعور فكرة، فالشعر -بما هو وعي وحالة تعبير- موجود بمعزل عن الثوب الذي أريد له شكلاً، والوزن جزء من الإيقاع بمفهومه شامل الرؤية للكون، بما يحوي من دلالات متعاقبة ومتناسقة، تماماً كما نفهم الصمت على أنه دهشة ما، ونستوعب انسجام البحر والجبل والعشب، يتخلله وردة هنا وأخرى هناك، لنقول يا الله، كم شاعري هذا المنظر ! فماذا قصدت؟
قال طه حسين: “ليس على شبابنا من الشعراء من بأس، فيما أرى، من أن يتحرروا من قيود الوزن والقافية؛ إذا تنافرت أمزجتهم وطبائعهم، ولا يطلب إليهم في هذه الحرية إلا أن يكونوا صادقين”- صحيفة الجمهورية 1957.
3 تعليقات
رحمك الله يا زياد رحمة واسعة.. والله نفتقدك.. إنا لله وإنا إليه راجعون
رحم الله الأستاذ الشاعر المثقف زياد هديب.. سيظل في الذاكرة ما حيينا.
رحم الله الأستاذ الشاعر المثقف زياد هديب.. سيظل في الذاكرة ما حيينا.