مما يدفع العلوم إلى التقدم وجود التنافسُ والاختلاف، فلا بأس في أن نختلف ويردّ بعضنا على بعض، ردوداً علمية منطقية، ولولا وجود الاختلاف لما تطوّرت علوم اللغة، والتاريخ يشهد على ذلك؛ فقد كان للخلاف بين البصريين والكوفيين أثرٌ عظيم في إنضاج علوم اللغة العربية.
التصوير والشعر صنوان منذ أن نطق الإنسان الشعر، ووجهان لعملة واحدة، فالشعراء هم في -واقع الأمر- مصورون للأفكار والخيال والعواطف بصور محسوسة، تصل إلى المتلقي بحسب إجادة الشاعر تكوين الصورة الشعرية والبيانية، وبحسب ذائقة المتلقي وقاموس لغته وثقافته الأدبية في تلقي النص؛ تماماً كما هو الحال في التصوير الفوتوغرافي وفن الرسم الذي يتشابه كثيراً مع الشعر في أركانه وأغراضه ومحسناته البديعية والبلاغية.
منذ أورد الجاحظ عبارته الشهيرة: “فإنما الشعر صياغة، وضرب من النسج، وجنس من التصوير”، وهناك الكثير ممن قال شبيهاً لها قبله، والكثير ممن جاء من اللغويين والنقاد بعده.
أخذت الصورة مکانًا بارزًا في الدراسات النقدية، فالشعر بمجمله يعتمد على التصوير، فهو صورة ناطقة، ينقلها الشاعر بصورة فنية وبكل حرفية لتأخذ تفاعلها المؤثر في ذهن المتلقي. وجاء تعريف “التَّصوير الشِّعريّ لغوياً:
“تصوير شخص أو شيء في القصيدة من خلال التَّشبيه والاستعارة وغيرهما من الصُّور المجازيّة”.
وعن التصوير في الشعر لم يكن حكراً على العرب وحدهم، فقد تحدث شعراء ونقاد ولغويون من ثقافات حضارات أخرى عديدة، ومن بينها الحركة التصويريّة في إنجلترا وأمريكا التي تأسستْ في بداية القرن العشرين، حيث جاءت ردةَ فعلٍ ضد الرومانطيقية والشعر الفيكتوري، وترتكز التصويرية وتُشدد على البساطة، ووضوح التعبير، ودقة التصوير من خلال إستخدام الصور المرئية الفائقة الدلالة.
وعلى الرغم من أن “عزرا باوند” هو من يُعد مؤسسَ التصويرية إلا أن جذور هذه الحركة بدأت فكرياً وتطورت بادئ ذي بدء مع الفيلسوف والشاعر والناقد الإنجليزي “توماس إرنست هيوم”، والذي سبق “عزرا باوند” بطرح هذه الفكرة، وتحدث عنها بالتحديد في بداية عام 1908، وذلك عن تأسيس الشعر على العرض ذي الدقة المتناهية لموضوعه، بدون أي حشو زائد. وكتب هيوم في إحدى مقالاته”الرومانسية والكلاسيكية: الصور في الشعر ذات المشهد الصارم المتماسك ليست مجرد زخرفة بل هي لب جوهره”.
وللعلم لم يكن مجيء الحركة التصويرية خاصاً بالهايكو فقط، وإنما هي حركة تأثرت كثيراً به، وقامت لتصويب الشعر والأدب الانجلوأمريكي في تلك الحقبة بشكل عام، وهنا مربط حديثنا عن التصويرة والتي زعم الأستاذ علي القيسي بأكثر من مقال منشور له بأنها اشتقاق من مصطلح الهايكو.. ولا نعلم على أي أساس جاء هذا الاشتقاق..!
من المعروف لدينا أن معاني لفظة هايكو في اللغة اليابانية تعني “طفل الرماد”(1)، ومن المعاني المعرفة له أيضاً: “العبارة الممتعة المسلِّية”، ويأتي هذا المعنى من دلالة المقطعين اللذين تتكون منهما الكلمة، وهما المقطع (هاي) بمعنى مُضحِك أو مُسلٍّ أو مُمتَع، والمقطع (كو) بمعنى عبارة أو كلمة، ويعد المعنى الثاني هو الأنسب للمعنى الاصطلاحي لذات الكلمة، حيث ارتبط شعر الهايكو في بعض مراحل تكوينه بالمزح والتلاعب بالكلمات والتسلِّي بذلك.
الإشتقاق في اللغة:
في تعريف الاشْتِقاقُ في معاجم اللُّغَةِ هو: “أَخْذُ كَلِمَةٍ وَإِخْراجُها مِنْ كَلِمَةٍ أُخْرَى مَعَ تَغْيِيرٍ على أَساسِ الْمُحافَظَةِ على قَرابَتِها مِنَ الْمَعْنَى في اللَّفْظِ”.(2)
مَثَلاً، لَوْ أَخَذْنا مفردة شكَّلَ: يشكِّل ، تشكيل، فهو مُشكِّل ، والمفعول مُشكَّل.
أو مفردة قَرَأَ : قِراءَة، اِسْتَقْرَأَ، اِسْتِقْراء، قُرَّاء، وهنا نتساءل: ما هي العلاقة ما بين مفردة تصويرة والهايكو من ناحية الإشتقاق..؟!
يُعدُّ الترادف ظاهرة لغويّة موازية للفروق الدلالية، حيث إنَّنا إذا وجدنا كلمتين تدلان على معنى واحد، فقد نحكم على أنَّ بينهما ترادفاً.
ومثال ذلك:
(أسد: ليث، غضنفر، هزبر )..
(سيف: مهند، يماني، بتار)..
وللترادف شروط وقيود، قام على وضعِها عُلماء لغة في الزمان الماضي وكذلك الحاضر، حيث لم يتحقَّق الترادف لوجود فرق ولو بسيطاً بينهما في المعنى، يندرج اللفظان تحت ظاهرة “الفروق الدلاليّة”.
يقول رائد الدراسات اللغوية العربية الدكتور إبراهيم أنيس: ”إذا دلّت نصوص اللغة على أنَّه بين الألفاظ المختلفة في الصورة فروقاً في الدلالة مهما كانت طبقة الفروق، وبذلك لا يصح أن تكون من المترادفات؛ ذلك لأنَّ شرط الترادف الحقيقي هو الإتحاد في المعنى”.(3)
ولقد عرَّف العلامة فخر الدين الرازي وهو عالم موسوعي ولغوي الترادف بقوله: ” أنَّ الألفاظ المترادفة هي: الألفاظ المُفردة الدَّالة على مُسمَّى واحد فقط”؛ ومما سبق يكون استنتاجنا وبما لا يدعو لأدنى شك بأنه ومن غير الممكن إعتبار مفردة تصويرة مرادفة لمفردة هايكو لوجود فروق في الدلالة وعدم اتحاد في المعنى.
التعريب هو الحل الأمثل لمصطلح الهايكو:
مع تطور الحياة يومًا تلو الآخر، والتلاقح المضطرد ما بين الثقافات وتداخلها، تظهر لنا كل يوم العديد من الاختراعات والابتكارات والمصطلحات المستحدثة في مختلف مجالات الحياة ومنها الأدبية، والتي لم تكن موجودة فيما مضى؛ مما يضطرنا لإيجاد مسميات مناسبة لها معربة إلى لغتنا العربية، في حال عدم وجود ترجمة دالة بالمعنى الحرفي لها.
وعن التعريب حيث يُعرف هذا المصطلح لغويًا على أنه إضفاء صبغة العربية على الكلمات الأعجمية من خلال نقلها بلفظها الأعجمي إلى اللغة العربية.
أما تعريف التعريب اصطلاحاً، فيُعنى به إدخال مفردات من لغات أجنبية إلى اللغة العربية لمواكبة ما يشهده العالم من حولنا من اختراعات ومستجدات في مختلف التخصصات والمجالات، لكن بشرط التأكد من أن تلك المفردات تناسب خصائص اللغة العربية وتتوافق معها.
ويتم تعريب الكلمات الأجنبية من خلال نقل الكلمة ومعناها للغة العربية، سواء تم هذا النقل بعد تعديلها أو بدون إجراء أي تغيير عليها، لكن هناك فارق بين كلا النوعين:
– النوع الأول هو الكلمة المعربة: هي الكلمة الأجنبية التي تعرضت لتغيير مثل كلمة التليفون.
– النوع الثاني الكلمة الدخيلة: هي الكلمة الأجنبية التي تم نقلها إلى اللغة العربية دون إحداث تغيير فيها مثل كلمة الأوكسجين.
ومزيداً من الأمثلة عن المصطلحات الأجنبية المعربة:
*أستوديو: إيطالية، مكان لالتقاط الصور.
*إسطبل: إنجليزية، حظيرة للخيل أو البقر.
*إسمنت: إنجليزية، مادة البناء المسلح.
*أكاديمية: إيطالية، مؤسسة تعليمية.
*ألبوم: إيطالية، مجلد لحفظ الصور والطوابع.
*برميل: إيطالية، وعاء كبير ومستدير وعلى أحجام مختلفة.
*برنامج: كلمة فارسية، منهج أو منهاج.
*برواز: تركية، إطار الصورة أو اللوحة.
ومن المصطلحات الأدبية الأجنبية المعربة مصطلح “الإبيجرام” وأصله يوناني؛ حيث يعد فن الإبيجرام Epigram أو الإبيجراما Epigramma من الفنون الأدبية اليونانية، وتعني الكلمة في أصلها اللغوي: نقش على حجر ليكون شاهدة للقبر، أو تحت تمثال ما للتعريف بصاحبه، أما في المصطلح الأدبي فله عدة تعريفات، فهو عبارة عن مقطوعة شعرية تتراوح بين بيتين إلى خمسة عشر بيتًا، تكون عادة للمدح أو الرثاء، أو الإعلان. وجاء تعريفها في معجم أكسفورد بأنها: “قصيدة قصيرة، تنتهي بإنقلاب بارع في التفكير”، ومن ثم الانتهاء بقول حَكِيم أو متناقض. وفي معجم مصطلحات الأدب، كان التعريف لها بأنها: “مقطوعة أدبية (شعرية) لاذعة، وملحمة ذكية، وحكمة ساخرة”. وهي عند الشاعر الإنكليزي كوليردج: “كيان مكتمل، جسده الإيجاز وروحه المفارقة”. وقد تغير هذا المصطلح، فصار يطلق عند الشعراء الأوروبيين في العصر الحديث على المقطوعة التي يراد بها النقد أو الهجاء فقط، ومن أبرز خصائص الإبيجرام استناده إلى المفارقة والهجاء، من خلال الإيجاز، وبراعة القفلة، لإثارة الدهشة لدى المتلقي.
ويعد الأديب العربي “طه حسين” رائد هذا الفن الأدبي عند العرب، من خلال كتابه «جنة الشوك» القاهرة 1945، فهو أول من كتب في هذا الجنس الأدبي، وعرّف به نظرياً، ولم يجد مقابلا له في العربية، فعرّب المصطلح، وكان كما هو الإبيجراما
وهذا ما ينطبق تماماً على شعر الهايكو، ونقل مسماه معرباً إلى اللغة العربية، وهو مصطلح عالمي بذات اللفظ والمعنى تتداوله كافة ثقافات شعوب العالم.
الهوامش:
(1) ريو يوتسويا، تاريخ الهايكو الياباني، ترجمة: سعيد بوكرامي، كتاب المجلة العربية، الرياض، (بدون تاريخ)، ص: ٧.
(2) المعجم الوسيط، ومعجم لسان العرب.
(3)دلالة الألفاظ ص(213), د. إبراهيم أنيس – الطبعة الخامسة 1984.