أقرأ السّياسة كما أقرأ الشّعر، لكن لرنينهما وقع مختلف، فالسّياسة ترتبط بما هو كائن ومحاولة تغييره أو استثماره، لكنّ الشّعر يتعالق مع ما يجب أن يكون، فتصبح السّياسة هي المفردة التي تبحث عن جملةٍ لكي تجد معناها، وهي بذلك لحظية وراهنية، ويظلّ الشّعر هو الجُمَلُ التي تنثر المفردات كي يجد العالم معناه واتّجاهه، وهو بذلك متجاوِزٌ لا زمنيٌ، تلتقط بلابل خياله أوراق صناديق السّياسة بمناقيرها لا لتقذف بها في البحر، ولكن لتؤكد للعالم أنّ حرّية الكلمة ومعناها في تعاليها، وهذه ليست مفاضلة بين مجالين بقدر ما هي مقابلة بين مستويين معرفيين حتى يقف الفاعل في كليهما أمام مرآة ذاته ليرى ما يستلزم الإفادة منه من الضفة الأخرى.
محدودية المنفعة وإطلاقية الجوهر:
لو منح الشّعر شيئا من خياله للسّياسة، فلربّما أصبحت هذه الأخيرة أقدر على تلمس الواقع في منظوره الكلي، إذ السّياسي في البرلمان قد لا يفكر في الشّاعر ولا في أي مبدع زادُه الخيال، لأنّ أبسط مفاهيم السّياسة تصطدم مع حرّية الشّاعر وبساطته في الوصول إلى أعماق الموجودات عن طريق الكلمة، ولكن لو استطاع أيضا الشّعر أن يقبل من السّياسة بشيء من منفعيتها، فلربّما أصبح أقدر على منح الكلمات أبعادا تتواصل مع الواقع في منظور الحقيقة الإنسانية التي تدور وجوديتها حول الكد والكبد لأجل استيعاب المعيش واحتوائه بل ومغالبته أيضا، فالسّياسي حينما يتكلّم عن الاستهلاك، فهو يشير إلى معضلة معيشية يحتاجها الإنسان، لكن ما يفوته أنّ ترشيد الاستهلاك هو ضرورة جمالية تتطلب الحضور الشّعري ليس باعتباره قصيدة، ولكن كونه حاجة إنسانية تنبثق في العمق وتستوجب اليقظة.
قد يستعصي على الشّعر القَبول بـ “منفعية” السّياسة، وهذا ما يحدّد مجال الشّعر بــ “الجوهري” في ترميم فجوات الوجود التي تقوم حاجزا بين الإنسان وذاته، ولهذا أتصوّر، ومن حيث المبدأ أنّ الشّاعر داخل البرلمان لا يمكن أن يتحدّد بسقف “القبّة”، قبّة البرلمان التي رغم تحقيقها له الحصانة، إلا أنّها تسلبه في ذات الوقت لا محدودية الشّعر، فالخيال كما يرى باشلار هو: “ضرب من التحويل الذي يحرّرنا من الإحساس العادي بالعالم”. لو مرّت شحنة من الخيال بمفهوم باشلار إلى السّياسي، ألا يمكن أن تجعله خارج منظورات التعامل المباشر مع الأشياء، وتضعه في تماس جوهري مع التّعب اليومي الذي يطال الفرد في لقمة عيشه؟
الكلمة بين “الأفق” و “القوة”:
الخيال يركّب ويوحّد الصّور بعد أن يساهم الوهم في حشدها، كما يرى كوليريدج، ولهذا، ربّما ومن هذا المنطلق يرى الشّاعر الفلسطيني سميح القاسم بأنّ: “كل ادّعاء بأنّ السّياسة تناقض الشّعر هو ادّعاء باطل، فلا يوجد شعر حقيقي دون الانغماس الكامل في قضايا الشّعب والوطن”، ولا بد من الإشارة إلى المكوّنين الأساسين في عملية لقاء الشّعر بالسّياسة، وهما “الشّعب والوطن”، هذا المستوى من الكينونة الوجودية التي لا يتحرّك العقل والوجدان، الجوهر والظاهر، المنفعة والخيال.. دون أن يضعهما على شاشة استقباله، فالمصلحة تقتضي معيارا لقياس جدواها، والخيال يتطلب مفهوما لكي تتجلى صوره، وهذا لا يناقض الغموض الفنّي في الشّعر. يمكن أن لا يؤخذ رأي سميح القاسم في المطلق، لأنّ الانغماس في قضايا الشّعب والوطن لا يحقق في المطلق أيضا توافق السّياسة والشّعر، فالمنطلق هو الرّؤية، ولا شك أن هذه الأخيرة في كليهما تختلف اختلافا بيّنا، إلا أنّ امكانية اللقاء قد تتحدّد عند عتبة الإنساني التي تشمل الشّعر والسّياسة، ما داما لم ينتهيا إلى سقف الشّروع في الرّؤية إلى الإنسان، لأنّه حينها سوف يمارس الشّاعر كلماته باعتبارها أفقا، ويمارس السّياسي كلماته باعتبارها قوّة، لأنّ “كل دولة تقوم على القوّة”، بتعبير تروتسكي، ويؤكد ماكس فيبر تعليقا على هذا الرّأي بأنّ العنف ليس “الوسيلة الوحيدة للدولة، لكنّه يمثل وسيلتها الخاصّة بامتياز”، بما لا يعني العنف المادّي وحده، أو إنّ الدولة بالمفهوم السّياسي يجب أن تتخلى عن القوة من أجل عيون الشّعر لكي تسترد وداعتها، بعيدا عن هذا، فالشّاعر لا يتكلم إلا بقوّة الكلمات التي لا تفرض نفسها بقوة الأمر الواقع، عكس إرادة السّياسي التي تتحدّد بسقف الواقع الذي يجعل من كلمته مَرْكبا يسير بالقوّة وإلى القوّة، فهو يرنو ولو في دواخله إلى خاصّية الإخضاع، ومن ثمّة يرى الشّاعر اللبناني شوقي بزيع بأنّ: »العلاقة بين السّياسة والشّعر هي علاقة محكومة دائما بالحذر واللبس والشّكوك المتبادلة « ، وشواطئهما متباينة، فشاطئ السّياسة يتجذّر كمرفأ للقفز، وشاطئ الشّعر ينبسط كمرفأ للتأمل.
مشكاة الشّعر زجاجة السياسة:
كان فيدريكو غارثيا لوركا يصف شعره السّياسي بأنّه دفاع عن ابتسامته، لأنّ الرّوح الإنسانية خيّرة في جوهرها، وما الشر فيها سوى طارئ، لذلك تجد نفسها في دفاع مستميت ومستمرّ ضدّه لأجل انتصار القيم العليا للوجود الإنساني، والشّاعر والسّياسي عند سقف “الإنسان” المشترك بينهما، يدحضان بقوّة شبهة عدم إنسانيتهما، لأنّ الضّامن الوحيد للعيش في الحدود الدّنيا على الأقل للإنسانية هو الابتسامة، ولا تتطلب هذه الأخيرة لتحقّقها أكثر من كسرة خبز وجرعة ماء، لكنّنا عند هذا المنعطف الحاسم في التقاء سقف السّياسي بالشّاعر تنبثق إشكالية التقابل بين “الرّاهن والعابر” بالنّسبة للسّياسي، و”الدّائم والأبدي” بالنّسبة للشّاعر، كما يؤكد الحائز على جائزة نوبل، الشّاعر الروسي جوزيف برودسكي، فالسّياسي كما يرى برودسكي يشعر عميقا “بالنّقص إزاء سلطة الشّاعر العالية في الزّمن”، وهذا لا يمنع السّياسي من أن يثبت هو الآخر تعاليه في الزّمن، ولا يتحقّق له مراده إلا إذا عانق المطلق في مخيال الشّاعر الذي يحرّره من “الإحساس العادي بالعالم”، والمتنبي الشّاعر حين يلتقي مصادفة بكافور الإخشيدي السلطوي، يعبّر عن هذا اللقاء بفلسفية عميقة تشرب من الوجود الناقد للشّاعر كسلطة تحتكم إلى قوّة المعنى، حيث يصف مدحه له:
وما كان شعري مدحا له ولكنّه كان هجو الورى
فالمتنبي كان يهجو العالم من خلال مدحه لكافور، لأنّ سقفهما الوظيفي مختلف تماما، وحركتهما الوجودية لا تقبس لحظتها التّعبيرية من نفس المشكاة، فالدّلالة هي نَفَسُ الجسد الشّعري الذي يفجّر كينونته من خلال نضال الكلمة لأجل أن تكون القوّة أكثر نعومة، والمنفعة هي الزّجاجة التي تغلف المشكاة التي تنبثق منها السّياسة لأجل أن تكون النّعومة أكثر مخاتلة وشراسة.