يخبرنا الشعر بما يمكن للفرح أن يحدثه، نسأل الشاعر عن سروره في العالم، نكتشف كم كان الجرح عميقا، والحزن طاغيا، الشاعر يرقد فوق فوهة البركان مبتسما، لا نملك حينها سوى أن نحاكي بسمته الحزينة متسائلين عن «جحيمه» الذي يحياه فوق الغليان، وعن «جنونه» إذ تبتسم اللغة وهي تشكل أنسجة «العاشق» في رقصات الملتسع بلفح النار.
الوعي الممسوس بالحرية:
«الجحيم والجنون» شعر ينتفض من شقوق وعي ممسوس بـــ «الحرية» بعد أن ذاق بشاعة الاستعمار، يوسف سبتي، الشاعر الجزائري، الذي اغتاله الإرهاب ذات ديسمبر من عام 1993، إبان عشرية المأساة الوطنية، يساري مشبع بالوطنية وحب الجماهير المقهورة.
في مجموعته الشعرية «الجحيم والجنون» (الصادرة عام 1981) والتي أعادت طبعها جمعية «الجاحظية» بعد اغتياله (2003) يُسجّل التاريخ الذي كتبت فيه بين الفترة سبتمبر 1962 – أكتوبر 1966، ما بين أزمة صائفة 1962، أي الخلاف حول السلطة بين رفقاء السلاح بالأمس، وما عرف في التاريخ السياسي الجزائري بالتصحيح الثوري الذي قاده هواري بومدين ضد أحمد بن بلة (1965) ومن هنا تأتي أهمية «الجحيم والجنون» إذ لا تدخل ضمن الشّعر السياسي، بل لعلها رؤية شعرية لواقع اجتماعي/سياسي. أيضا تأتي أهميتها من كون الشاعر سوسيولوجي منخرط في هموم المجتمع، فلقد درّس علم الاجتماع الريفي بالمعهد الوطني للعلوم الفلاحية بالحرّاش واهتم بالإرشاد الفلاحي. عرف في ذات الوقت بالعزلة solitaire، لمّا اغتيل الصحفي عبد القادر سفير كتب يوسف في أحد الجرائد: «لقد كرهتَ الوحدة وكنتَ على حق. أحب العزلة وأنا لست مخطئا». على دفّة الغلاف الخلفية كتب الراحل الطاهر وطار رئيس جمعية الجاحظية: «يوسف سبتي.. كنت أزعم أنّني عرفته، وأنّني أعرفه. لكن بعد قراءتي لديوانه هذا (المُتَرجَمْ) تأكد لي أنّني لم أعرف الرّجل إطلاقا.. الوجه المخفي لهذا الكوكب هو الشّاعر يوسف سبتي».
انحدار الجحيم وأفق الحياة
عزلة الشاعر هي المحك الجمالي لانخراطه في معمعان الانشغال المجتمعي، هي الضرورة الوجودية التي لا بد منها كي يسبر غور اشتراطاته الإنسانية، ولهذا كان «الجحيم والجنون» سفرا في متاهة القهر حين يحجر على حرية الشاعر ولا يمنحه الفرصة كي يعيش اختلاف عزلته المتضامنة مع «الجماعة»: «.. وفي تكوّن كل الجحيم/وفي الجحيم، على الحقد -هذا المشعل الملتهم-/ولدَتْ زهور/شممت الزهور» هو جحيم الذّات المفروض بضغط السياسي حين تفقد معنى العلاقة بالمفهوم الاجتماعي ، تحديد مجال الحركة الذي سوف يؤثر حتما على الإبداع والرؤية في أبعد البعيد الجمالي، لكن إمكانات الروح متجاوزة لما يفرضه الواقع، فداخل بوتقة «الجحيم» تنولد «الزهور» زهور الأفق الروحي الذي يشكل تعالقاته الوجودية خارج صرامات التضييق. هذه الإشارة الافتتاحية في القصيدة تنفتح فيما بعدها على أفق مظلم هو ذاته «الجنون» الذي تمارسه الذات الشاعرة كي تعبر إلى مجرّة «الكلام « والاستمرار في العلاقة، لكن «الجنون» هو أيضا ما يعتري الذات ذاتها وهي تعيش أفق انسداد التعايش: «على درب الكفاح وجدتني في الجنون/وقفزت فيه/فعلقت بي طحالبه/فها هو ذا الجحيم مستمر.. الجحيم يستمر والرافضون إلى الجنون» تلتقي أطروحة الجحيم والجنون عند مفترق الضغط المطبّق على الذات، لكن ذلك لا يتم بمعزل عن الفعل/الكفاح، فتصبح إشارة «الجنون» دالة على حالة من الاشتغال داخل متاهة انسداد الأفق/الجحيم. يستمر الجحيم والرافضون إلى الجنون، هنا تتشكل مفارقة «الجحيم الموضوعي» و»الجحيم الذاتي» فلولا الجحيم الموضوعي لما تشكلت حالة الجنون برَوائها الإنتاجي، لابد من هذا المسار المُتعِب للذات كي لا تستكين إلى وهم «الزهور» في ربيع خالٍ من ألم اللسع والبرد المخاتل. وهو ما يتكشّف في القصيدة، إذ هي عبارة عن مسار حالك الظلمة بفعل الضغط والتضييق، لكن من بين شقوق المأساة تطل أضواء خافتة من الأمل والعلاقة الدائمة مع الحياة.
الضيق الوجودي وفقدان الذات
تستسلم الكتابة لحظة وعي إلى الشاعر، يشدّ على شظاياها وينطلق إلى ذاته حيث التعب بلغ مداه، بحثا عن لحظة أخرى للسلام، «أيتها الزيتونة الكبرى/يا شجرة السلام/أنت يا شاهدة على لعبي/أنت يا راعية لقريتي حدّثيني..» عودة الأشياء إلى فواصلها الأولى، بداياتها حيث لم يكن للتعب أي معنى، غير موجود أصلا، كانت هناك قريبا من الطفولة، بعيدا في الذاكرة شجرة الزيتون، ملح الفرح الوجودي، كانت هناك القرية بملامحها البريئة، كانت هناك العلاقة القوية بين الإنسان وبيئته، فكان السلام الداخلي حاضرا. تعود الزيتونة بإصرار، «لماذا ترتعش أوراقك هكذا/ما بك؟ /أجيبيني..» ، استعادة للسلام الذي أصبح مفقودا، للاتساع الذي تمثله براءة الذاكرة في استلهام المكان بعناصره الأشد انبثاقا في المعنى والأشد انتباها في التقاطه (المكان) عبر الصوت (الارتعاش) الزيتونة ذاتها حاضرة في الضيق الوجودي الراهن، «ترتعش أوراقها» قد ندرك «فرح الارتعاش» في ظل النّسائم السماوية، في الأمكنة الخالية من طيش التسلط وأوهام البقاء الأبدي، الشجرة خالدة في الذاكرة كما الإنسان المستمر في الكينونة، في تعبه الوجودي المجمّل بفرح النضال. «هل سيأتي يوم تُقدسين فيه أكثر من ذي قبل؟» الراهن مأساوي لا يربطه بالماضي سوى طبيعة الزمن التي تحسب أنفاس الذات العابرة إلى نهاياتها، والعلامة الشّجرية ماثلة أمام «جحيمٍ» و»جنونٍ» جاثمين على الرؤى والأحلام، زيتونة الماضي لم تعد ترتعش وريقاتها مع أظاليل السلام، أشياء الذات لا تَعْبر سوى في أسى الوقت إلى ذاتها، لا ترسم في الواقع أخاييل المستقبل الكامن في سلام الذات والآخر، هل يمكن أن يتحول شقاء الراهن راحةً؟ «سنكون سعداء وتختفي الحرب آنذاك».
في المكان الآهل بأنفاس الميلاد وبراءة الطفولة وأحلام المساء، لا يكون حاضرا سوى ذات المكان، «لا أجيد الحديث عن باريس/.. لا أجيد الحديث عن البندقية/.. لا أجيد الحديث عن لندن/.. ولا حتى أجيد الحديث/ عن الجزائر العاصمة/ و» قصبتها «الرطبة المظلمة/ومسجدها الأبيض الشامخ/.. لا أجيد الحديث عن النفس الساخن/العابر لوجنتي ولوجهي..».
تتعدد الأمكنة التي تتخللها أنفاس الذات مكرِّسة بها بصمة الوجود، تتعدّد أشياءها، وتعبر لحظة كشريط يمر في خلسة عما يحدث، ما يحدث يُنسي الذات بهجتها ذات زمن في أمكنة عبرتها متشحة روح الجمال والمحبة والترحال. الهجرة في المكان رغبة متدلية في أغوار الذات كأعراش دالية العنب، وفي لحظة ينكسر جسر الكلام حول الأمكنة، حول الذات وهي تجد ذاتها في مرايا الأرض المتشظية، البهية في انخلاقاتها المختلفة. لا تعود لندن أو البندقية أو باريس تعني شيئا، هل فقدت رونقها؟ أم هي الذات في انكساراتها المفروضة بفعل التضييق فقدت شهوة الإحساس بجمال الأمكنة، حتى تلك التي تعني للذات «هوية وطن» يختفي ظلها في كثافة غيم الواقع الذي لا تشعر الذات أنّه يعني لها شيئا لأنّه مفروض رغما عن إرادتها، حينها تفقد الإحساس بذاتها وتتحول «بقايا شهوات عابرة».
الوحدة وغناء الذات
تشتد الرغبة في الهروب من الأسوار المضيِّقة على الذات معيشها ووجوديتها، خارج القفص لا تتحدث الحرية جمالها، لا يثور اللسان كما يجب أن تكون الثورة، وتبقى الوجودية سجينة فضاءٍ خارج حدود الجمال المدرك في تحليق عصفور، «مسكين أيها العصفور/لقد ارتطمت بالأعمدة الباردة لقفصك/وقد صرخت بكاء وألما وشكوى/لكن، لم تواسك سوى رفرفة جناحيك». أن تكون غير قادر على الفعل لا يشكل ذلك إحباطا مريعا، المأساة، حين تتوفر القدرة على التحليق والعصفور يعاني سجن القفص. تتفجّر صور الشاعر داخل بوتقات الشعر الممتدة، يمتلك سلطة الكلام، ولا يحب أن يحجبه شيء عن السماء أو أن يحجر على حريته أحد، لكنّه في لحظة تسوّرته حدود التضييق، ارتفعت أعمدة القفص، فرغ الكون من دفء العلاقات، اعتلى البرد منصة الوجود ونفشت الوحدة ريشها المعهود، لم يعد يسمع سوى نبض وحيد في عمق الذات، لم يعد للعصفور من غناء سوى «رفرفة الجناحين». من عمق الوحدة يندلع الألم وتتكثف سحب المأساة وتتحسس الذات الأغلال في معصميها، هل يمكن للعدالة أن تصبح سجّانا؟
استيقظت القرية بهدوء/فوجدت العساكر تحيط بنا/كل منّا حجز أنفاسه/وظل ينتظر دقا على الباب/في 5 جويلية 1958/وانطلقنا…!
يؤرّخ الشاعر لتاريخ كانت فرنسا العدالة تدوس العدالة في وطنه، التاريخ 5 جويلية تاريخ الانعتاق لكن بعد أربع سنوات من 1958، مازالها القرية تستيقظ في هدوئها المعتاد، الدق على الباب سوف يوقظ الذات من سباتها الغريق في وحدة السجن، وسوف تنطلق، تتحرّر وربما تُعلّم فرنسا أيضا كيف تتحرّر من أوهامها، «وفرنسا العدالة كلها/كان اسمه عادل/أصحيح أو خطأ/لا أدري/ولا أعلم أين تقف الحدود بين العادل والخاطئ/كانت فرنسا وحدها تملك هذا العلم وتعلّمه!». زمن الاستعمار، زمن الاحتياط للحرية، زمن التفكير والعمل على الانفكاك من المطلق الذي يحتكره المستعمر إلى النسبي في طعم التشاركية التي توفره نسمة رائعة من الحرية، نسمة تمكن الذات أن تمارس التحليق وتتعلم ثم تتعثر ولا أحد يدّعي أنّها جاهلة ولا تملك إمكانية المعرفة، «كمثل العصافير التي تنبعث ذات صباح وذات ربيع… يا حرية! /أنت يا حليبا مختزنا خلف الحلمة/أعض هذا الضرع فتحيل ألوان الشتاء… يا حرية!».
نفتتح الحياة بالصباح، وقد تتجلى الفصول بالربيع، ومن ذلك تعبيرنا عن جمال الوقت في الفصول بلازمة «الجو ربيعي» فالحرية هي هذا الاستمرار في الزدون قطيعة، هي النّفس الحالم في الصدور يشي بالنبض الخافت للحياة حتى في لحظات الاحتضار، والحرية هي الأم/الوطن حيث تتأسّس علاقةً بين رضيعها والحياة والأمل الذي يتشكل خلف الحلمة، دفقا قويا يشدّ الوليد إلى والدته لتتفجّر كل ينابيع الحنان بالأسماء المختلفة في اللغات. ما ذلك السر الذي يجعل الأشياء تتغير في المدى بين الأم/الوطن والذات؟ يختفي التضييق والاستعمار واحتكار المعرفة لحظة لقاء فم الرّضيع بحلمة أمّه، يستنسغ كل ما شكل كتلة الوعي الأمومي في جرعة حياة، جرعة حليب، تلك هي العلاقة مع الحياة، ومع الواقع في كل تلوّناته، لا يمكن أن تنفقد حلقة الأمل.
جحيم المعيش والجنون الوجودي
يضيق الواقع ولا تستطيع الذات أن تتلمس آثارها فيه، لا معنى لها إذ تفقد القدرة على التعبير عن ذاتها، وجودا كينوناتيا يرنو إلى بصمة يتركها، «أدير المفاتيح/أبحث عن قاطع النور/أهمس في هذه الممرات الرهيبة/وقدماي اللتان أعياهما الجري/صارتا لا تقويان على حملي» كل شيء أصبح عنوانا للغلق، لا سماء مفتوحة على المطر، ظلمة ثقيلة تتدلى من أعلى الغيم، أتلمّس على جدران الفجيعة، لا نتوء يمكن أن أبعث به النور في مصباح معلق على سقف الواقع، مشوار خلف مشوار ولا طريق على درب البحث والكينونة، عبث هو ذاك الذي نعيشه وتعيشه معنا الحياة في كنف التضييق، لا أمل حيث تجيئ الذات محمّلة بعبء البحث عن شيء ما لسهولته يكاد يكون قاتلا، مميتا للمبادرة والتفكير والأمل، «هل من وظيفة؟/هل لديكم ملفي؟/هل لديكم وثائقي؟ وحياتي؟».
البحث عن وظيفة بالنسبة لمن يملك وسامة اللغة، يختزن سر القصيدة، يشعر ذاته متقاذفة بين مستويات اللاشيء، كأنّه لا شيء، حينما تتحوّل الذّات إلى طلب أمام مكتب إداري، أو باحثة عن هويتها في أوراق تسمى «ثبوتية» آنذاك يصبح المعنى محل سؤال كبير، أين الذات التي تتغنى وتأمل وتفرح وتكتب وتريد؟ أين إرادتها في أن يكون المكان فضاء للذات بتسمياتها المتعددة، أقلها «الفاعلة»؟ لكن الكلمة ليست فعل وذلك سر مرارة سعد الله ونوس!.