بالقرب من كنيسة (المعمدانيّة)، احتار الشيخُ من أي فراغٍ
يصل إلى المحراب.
***
في (البريج) ذاب البرقُ في السّكر، ففاض الوادي.
***
في غزّة تبكي من الجَمال، وتقتلك الحَسرة.
***
قد نتفكّك ضلعاً ضلعاً،
ونتخلّع عضواً عضواً،
ونترامى في جغرافيا الحزن، أو القصف، أو التهجير،
باسمه الجديد: اللجوء الكريه،
ليثبت أنّ الغياب هو الحقيقة القاهرة،
التي تزداد تضوّراً وهلعاً،
وتُلقي صحن جَمْرها الحارق في قلوبنا المتفَحّمة.
لكنّ درس الجوع يعيد لنا قوامنا واستقامتنا،
لنبقى استطالةً نافرةً،
لا يكسرها القيد، ولا يبعثرها الصاروخ، والجوع، والأنقاض، والظمأ،
ويسيل الدمُ مع الدمع،
على غير حدث وذكرى،
تمتدّ لعقودٍ بعيدة هي سنوات المَظْلَمة،
التي جرفت أحلامنا،
وقوّضت بيوتنا،
وخبزت وجوهَنا على بلاط النار،
ولم تترك لنا غير كلام لا يصلح لرتق الفؤاد،
من هذا العدوان الوثنيّ المسموم،
لكنّ القلبَ من حديد،
والروحَ من عاصفات الأساطير،
والنَفْسَ من غمام العَرْش الصافي،
والعقلَ بوصلة لا تحيد عن المحراب..
على الرغم من أن بوصلة الموت لا جهة لها.
***
على وجوههم دمُ الضحايا، ويدّعون حُمرة الغضب!
***
ثمّة وجوهٌ وجدتها في طريقي
دلّتني على المجرّات،
وعرّفتني باسمي
***
عندما نصل إلى قمّة الجبل لنستمتع بالعلوّ وريح الصّبا
تمتدُّ يدٌ ظالمة لتدفعنا،
فنسقط في الهاوية.
***
تكفي الدمعة لكي تهبَ الشبابَ إلى الماء.
***
أيّها السامع المرتبك،
لا تكتم أنفاس ضميرك،
واسْمَع القصف كما ينبغي.
كانت بيوت غّزة أغنيّة للبحر،
تحبّ البرتقال، وتنام على وردة التعب،
لكنّها شمعة كونيّة، يتحلّق حولها الضوء والملائكة،
وكان شعبها حقيقيّاً يسكن في ترابه وسمائه،
لكنّ الاحتلال الفاشيّ سعى،
منذ عقود، لفرضِ مقاربة إذلالٍ مستحيلة عليه، فرفض.
والحقيقة واضحة للذين يرون،
لكنّ السيّدة لم تنتبه،
وظلّ الشعب في الحصار،
وتحت بساطير الجنود والاستهداف.
ومنذ شهور، رأينا الجوارح الوحشيّة قد اجتاحت مداخل غزّة،
واتّخذت هيئة الانقضاض،
ولم يبقَ شيء في المدينة غير مخلّفات الطائرات، والجنود، وقنابل الفسفور،
وها هو جنرال الموت يعلن بأن (هارمجيدو) قد بدأت،
وستفيض الطرقات بالجثث المتحلّلة..
إنّ الغزاة، بكلّ حمولتهم الفولاذيّة الحداثيّة الجامحة الحارقة قد استهدفوا كلّ مناحي الحياة من ماء، وكهرباء، ومخابز، ومشافي، وتموين، في مشهد عريض يذكّر بالتطهير العرقيّ والمذابح المفتوحة، ودون رحمة.
وليدفعوا الجموع لأن تخرج من أحيائها،
وتتجه نحو نكبة جديدة،
وتقيم خيامها على أرض أخرى، ليست لهم،
فماذا سيقول العالَم الذي خذل نفسه، قبل أن يخذلنا،
ولم يستطع أن يحمي آلاف الأطفال والنساء والشيوخ؟
وقد رأى القوانين، والأعراف، والقيم تُداس
بسلسلة زنجير المدفع الّلاهب؟
إنّ كلّ مَن يساند القاتل بالذرائع أو الدعم الماديّ، أو السياسيّ،
أو يصمت أمام المجازر هو شريك في هذه المجزرة المروّعة، غير المسبوقة.
وماذا سنقول لامرأة هدموا بيتها،
وترى كلّ أولادها ممدّدين في قبر جماعيّ؟
فهل سيحتمل التاريخ دموعها الكاوية،
التي تماثل الزجاجَ المطحون، أو معدناً مصهوراً يغلي؟
إنّ أعداء غزّة، على اختلاف عصورهم ووجوههم وألسنتهم، كانوا
يأتون من الرماد، ولا يشربون إلّا الدم،
وهذا الذي سيجعلهم ينصرفون عنها، تباعاً؛
فأرضها لا تحتمل القراصنة،
وطعام شهدائها من الجنّة.
***
ثمّة دبيب في رَحْم الشوارع،
وثمّة نبض يخفق في الجدران،
وثمّة انفجار قادم في كلّ مكان،
بدأ من القدس، إلى جنين،
وتوقّف في غزّة،
لكنّ صداه سيكون في المرايا القريبة،
والبعيدة.
***
لم ننتظر (يانون)، ولن ننادي رياح الجهات الأربع، أو نصرخ بربّ الغموض، وسيّد الحرب العاجز، وحاكم البحر المُرّ ليمدّنا بقوّة السِحر؛ لأنّنا لا نؤمن به أصلاً، ونعتقد أنّ نفثاته تنعكس سلباً على مَن يتوخّاه، ولا ننتظر (أحداً) لأنّه لن يأتي، ولسنا هنوداً حمراً نمدّ رؤوسنا ليسلخوا فراءها، لتصبح عباءات المهاجرين الجدد من البيض الساديّين، لكنّنا من هذا التراب الأبيّ العصيّ، تَخلّقنا قبل الخَلْق، لنكون حرّاسَ وردة النار فيه.
إنّ ما يتمّ هو موت مقيم، وفجيعة ذابحة لا تنتهي، حيث يقوم المغتصب بسحب محراثه السُداسيّ الدّامي من دُبر الجسد إلى رحمه، ليكون تفريخه الشيطانيّ أكثر شرعيّةً، فلا داعي لاتّهامنا بأنّنا نجرح الأفراح والأمل والتفاؤل “الخائب” لأنّها أحزان يابسة، تتكسّر على جدران العزل، والاستيطان، والعربدة، والاستباحة، وتهويد المآذن والجرسيّات.
***
أحلم أنْ ينشقّ المشهُد، فأرى أبناء غزّة،
قد عادوا مع أحلامهم إلى البيوت،
وأهتف من قحف رأسي: انتصرنا! وأحلم،
وتكون القدس بألف خير.
***
تذكّرَ يوم أن حزّ جدُّه عنقَ الشاة، صبيحة يوم العيد،
ثم كبّر ثلاث مرّات،
ومسح عثنونه بفراء الذبيحة.
فماذا رأى، فيما يرى النائم، ليلة البارحة؟
لم يرَ النبيّ، أو رأس مَنْ أكلته الطيور،
لكنّه أحسّ أنّه العزيز،
وأنّ السنابل تزحف إلى بستانه،
وأضحى عارماً بالقمح والطيور.
***
تعالي واسقطي بين يديّ مثل الغيث،
أو وردة ضوء،
وتنفّسي معي حتّى لا تبقى ظلال، وتنتهي اللغات،
وينمو ريشُ الغابة من جديد.
تعالي طفلاً ذهبيّاً يلهث بالنداء،
ويشعل الأغاني في الخيول.
تعالي مطهّمةً بالقيامة والمسْك،
إلى أن أذوب بين البلدة والبلدة،
وأغفو، مثل قصيدة البدويّ المتهادية، بين الرمال الساخنة.
تعالي.
***
كلّما اصطاد فَراشةً،
وضعها في زجاجةٍ وأغلق عليها،
فماتت.
وبعد حين، انتبه إلى أن مئاتٍ منها مرصوفةٌ على الرّف.
فَرَاح يتأمّلها،
فلاحظ كائنات هشّة شاحبة لا تُحرّك ساكناً،
فنقرَ بإصبعه على جدار بعض العبوّات،
فأحسّ أن النقرة تدقّ على جدار صدره،
خلع قميصه، وواصل النقر،
فتساقطت الفراشات واحدةً إثر أُخرى،
وملأت الأرض،
نظر إلى الزجاجات، فوجدها مفتوحةً، وفارغةً، ومجلوّة،
فتنفّس الصعداء وزَفَر،
فتطاير بخارُ الدم، وفقاعات كريهة بين فكّيه.
***
خيطٌ من الدمِ ما زال واضحاً على طرفِ فَمِها،
مع أنّها حاولت مسحه بيدها،
لكنّه ظلّ هناك، مثل وَشْمٍ فاقع؛
فهي من قبائل أبناء (الغيتو الكانيباليّين)!
***
لا تشرّعي الشبابيك، فثمّة جنودٌ خلفها.
اجعلي هذا النهار سريراً للشغف،
وصبّي ما تبقى من النبيذ في حفرة الروح،
ولا تقولي هذا عشاؤنا الأخير،
لأنّه سيمتدّ إلى عشرين بستاناً أندلسيّاً،
لعلّنا نقطف معاً عشبة الخلود،
وربّما يكون (جلجامش) خلفنا،
ومعه النجوم ، لنردّ مدرّعة داهمة،
ما زالت تنتمي إلى الكهوف،
وما فتئت قذائفها تبعث الرجّة والحرائق
في الشَجر المُسالِم.
***
إن أقبح ما يفعله الانسان هو الحرب.
لم يخرج أحدٌ منتصراً من أيّ حرب أو معركة ، مهما ادّعى الانتصار ، فهو الخاسر أخلاقياً ، إن كان معتدياً ، والخاسر لأنه سيظلّ متحفّزاً خائفاً متوجّساً من خصمه، لا يعرف النوم ولا السلام ولا الهدوء ولا النماء.. أوَليس في الأرض فضاء للجميع؟ ثمّة خير للجميع ، وأحلام تتحاضن ولا تتطاحن!
أعطِني جشِعاً واحداً انتصر عبر الزمان وطوله؟
اذكرْ لي غازياً لم يرجع مدحوراً من حيث أتى؟!
هل تعرف طمّاعاً معتدياً ربحَ وظلّ متوّجاً على كومة السراب التي حازها؟!
مَنْ سمع عن قتلى عادوا ، وأرامل عرفن السعادة، وأيتاماً كبروا باتّزان ورضا ، وأشجاراً أمرعت بعد الحريق؟
هل تعرفون قاتلاً أو قاطع طريق نام مطمئنّاً؟
هل صادفتم جبّاراً غَنم بظُلْمهِ وبات سعيداً، ويطرب للناي البعيد، ويفرح بغمّازات أطفاله؟
ماذا يكسب الجزار غير دم الضحية على يديه؟
وهل له أن يستمرأ اللحم الحرام وهو يلوكه بين أضراسه، دون أن يستيقظ الذئب فيه ويغادر آدميّته اليانعة؟
لا جدوى من الحروب والمعارك والاقتتال.ابحثوا عن صيغة توزّع الكلأ والماء حتى لا يجوع فمٌ أو تظمأ شَفَة، وغادروا ميادين العتمة، وروحوا إلى براري الغزال والأجنحة الملوّنة.
غنّوا بدل أن تقرعوا طبول الخوف والهلع والأحقاد.
ارقصوا بدل أن تبلّلوا مناديل العذارى والأمهات بالدمع والعويل والنجيع، الذي لا يتخثّر.
أقيموا السامر حتى ينجلي الليل،وتغيب الوحوش، ويتزوّج الرّاعي بالربيع.
ولا تتوقّفوا عن شقّ صدور أبنائكم لتغسلوا قلوبهم من الأدران والثارات والسواد، وتأصّلوا مداركهم على المحبّة المُطلقة، التي لا تعرف لوناً أو جنساً أو لغة.
***
هل بقي أمام ما يجري من معنى؟
وهل ظلّ بعد هذه الإبادة من فَهْمٍ؟
اصمتْ، ولا تكمِلْ الجملة.
وهل الهاوية أكثر اتّساعاً من الأمل؟
أخاف أن أفقد هذا الطين، ويبقى القهْر
كأنّه مملكة نملٍ يتوالى من ثقوب قاحلة،
ويأكل قمح القلب.
***
سنحرسُ عينَ الأرضِ برِمشِ قلوبنا.
***
الغفران قيمة إنسانيّة نبيلة -لا تعرفها-،
لكنّ الحرية أكثر نبلاً وأولويّة.
***
أمسى أطفالنا مثل الحديد المصهور،
وعلينا أن نُشكّلهم قناديلَ للغد.
***
بعض القصص مخيفة.. وتُلْجِم الحكواتي.
***
وما زلتُ في صعود اللبلابة المشتعلة،
أتطلّع من فتحة الخيال على أيائل تتجندل إلى حدِّ التوالد.
***
طائر الحُبّ وزوجته المزركشة في القفص
يتهامسان ويتقافزان، ويبدو أنّهما منشغلان بأمرٍ ما،
قلتُ لحفيدي، الذي أعجبه منظرهما: إنّهما يحبّان التفّاح،
أحضرَ تفّاحة، وراح يُطعمهما برويّة،
وكأنّه هو الذي يتناول القطع الشهيّة،
وبعدما أنهى معهما الوليمة، لم أنتبه إلى أنّه فتح باب القفص،
وحمله إلى الخارج وودّعهما، وراحا يصعدان إلى الفضاء،
وعاد جذِلاً،
والتفّاحُ ينْدَعُ بِحُمْرته على وجنتيه.
***
لقد هدمت المقاومة الجدارَ الرسميّ الفاصل بين الله تعالى والإنسان،
على الطريقة “العرفانيّة”.. ودون وساطة.
***
دفنوه، لكنّ تمثاله البرونزيّ ظلّ منتصباً في ساحة المدينة،
لم تُعرِ البلديّةُ الاهتمام اللازم لإبقاء التمثال مصقولاً نظيفاً،
كما كانت تفعل وصاحبه حيّ يرزق.
وربما كادت الطيور أن تبني أعشاشها على رأس التمثال أو أكتافه،
لكنّها كانت تراه يتلفّت، وينظر يميناً ويساراً بحذر،
ثمّ يعود التمثالُ ويلتفت خلسةً ويدير رأسه بخوفٍ،
وتسأل الطيور: ما بال التمثال مذعوراً؟
***
في (بيت لاهيا) يسمع الناسُ صهيلَ حصان (جيفارا غزّة)،
وقد رأوه، على سرجه، قاصداً الجنود.
***
بعد الحرب ما قبل الأخيرة،
في المدرسة حمل تلاميذٌ حقائبَهم،
وظلّت حقائب كثيرة لا يعرفون أصحابها،
في اليوم التالي، فتحها المعلّم، فوجد فيها مِزَقاً من زهرٍ أسود.
***
غزّة اسمٌ لآلهة الوجود.
***
تَرَكت الأُمّ منديلها في الدار، فصار دُغلاً للأعشاب.
***
منذ اليوم سيكون صعباً على الغُراب أن يُحَلّق فوق القطاع.
***
الضبع مَنْ ينهش لحم الشهيد،
ويلوّث روحَه باللُّعاب الحارق.
***
يكاد الختيار أن يفقدُ عقله،
كيف غفا، فدخل الأغرابُ على خيوله إلى البلد؟
***
يحمل الشهيد فسيلة خضراء، لها صورة السكّين،
فيواجهه القتلة بالرصاص، والهراوات، والفزع، والفسفور،
والتّعدي المنفلت المسعور،
على الشيوخ، والنساء، والصغار، والبيوت،
وبالرصاص الطائش، والغاز المسيل للعار،
ثمّ بالقصف السافر الممتدّ، الذي لا ينتهي…
لكنّ لسان حاله يقول: يكفي أنّ أزقّة البلاد تغتسل بدمي،
أنا الهنديّ الأحمر،
راكب الريح،
صديق الشجر،
أنا شقيق الموج وأقواس قزح،
قطوفُ البراري أنا،
ومعلّقة الإيقاع، وغفوة النار،
وعصا الخرافة، وغزال التعويذة،
وجموح القطيع الطائر.
أنا الرامي جدائلَه بعد سلخ فروة رأسه،
والطاعن في السهوب، حين رمَتْه السهامُ المسمومة.
موتي ذريعة المحتلّ الأخلاقيّة المفضوحة،
ومرافعته المُخزية، وحضارته الزائفة.
وأنا الشاهد على تخاذل العالم المنافق الكذّاب، الذي
يفعل عكس ما يقول، بل
يمدّ القاتلَ بأسلحته الباطشة… ويتفرّج
على حليب الرّضّع الأحمر الشاخب على الحيطان،
أنا الأوّل، هنا،
والخالد في الثّمار الدّانية، وفي بذور المكان،
وأنا بصمة الجَمْر،
وأغنيّتي الصعبة مكابرة وإصرار،
أنا الهنديّ الأحمر الجديد،
الذي سيبدّل نهاية الحكاية،
ويبقى في عناد الحياة وقوّتها الباقية.
***
ما يجري في غزة خارج كل شيء،
وشاهد على سقوط كل شيء،لكنه
راكم السخونةَ في شرايين الشوارع من حوله..
وسترون انفجار الميادين بعد قليل.
***
عندما فاضت قوّة الراسمالية وانسكب لهيبها على إفريقيا، مثلاً، رأينا التوحّش والبدائية..وتساءلنا وقتها: هل الرقّ أرحم من الاستعمار؟
لكنّها،لذكائها الجشع، جمعت بين الرقّ والاستعمار والغابات..
***
يا مَلَكَ الموت! أرجوك..ابتعد ،عن غزة،ولو قليلا
***
لا نُريد الإجابات القديمة!
ماذا ستفعلون؟
***
كلما حاول الاحتلال أن يجرّدك من إنسانيتك..قاوِمه لتستعيدها.
لا حياة دون الإنسانية،ولا معنى إن فَقَدنا احترامنا لها.
***
يا تمثالَ الضوء على كلّ مفرق ودرب،
يا روحَ الأوائلِ المتبقّية، لتعيدَ إلينا ملامحَ الطهارة والالتزام،
ويا لمسةَ الأُمّ على نبضِ جَنينها الآتي عمّا قريب،
يكفيك أنّك الحُرُّ على هذه الأرض الأَمَة،
ويكفينا ّأننا نجد زاداً، من لحمِ عمرك،
لنواصلَ الخطو إلى الشمس،
وأنّنا على يقين بأنّ الشظايا تتناثر على معصميك،
أيّها المصاب بالحريّة والحياة،
يا كلَّ الأسماء الطاهرة،
أنتَ الآن فلسطين، وشعبك يتنفّس في ظهرك،
أمّا الباقون فهم جوقةٌ لكربلاء العتمة، أو محفلٌ لملهاةٍ ماجنة،
فاصمد حتّى ينتصر الموسم،
وأكمل زينتك إلى أن نقيم الحفلة البريئة الكاملة.
***
أيّ جلَبَةٍ يُحْدِثها صوتُك في الريح؟
وأيّ برقٍ شقّ قميص النار؟
فاندلعَ الرّعب في الأوصال.
***
مَن أغرى الخيّالة حتّى ترقصَ في الليل
المُنتَهك المقصوف؟
***
لقد ظلمونا يا الله،
الذين ما زالوا في ثياب الحروب الصليبيّة،
والبيانات العنصريّة التي ساوت بين القاتل والضحيّة،
والذين يبحثون عن خطأ في شكل موت الضحيّة،
والصامتون أمام المذبحة،
إنّهم شركاء أصيلون في المجزرة،
فليهنأوا بالعار.
***
ما الذي يضيء ليلَ قلوبنا، الدمُ أم الحريق؟
دع روحك تمرّ على أبوابِ الجنّة،
لتكتشفَ أنّ ثمّة متعةً هائلةً لهذا الجنون،
الذي يُعيد ترتيب الصورة المختلّة المُتشظّية،
لتصبحَ أكثرَ بساطةً وعاديّة ورحمة.
لقد اندحر العقلُ، وأثبت عجزه القديم في التقاط اللؤلؤة من الأعماق،
إضافة إلى أنّك لا يمكن أن تُزعج
مَن هو مُنزَعِجٌ أصلاً.
***
إنّ دوائر الصيحات، عادةً ما تتلاشى،
إلّا صيحات الدم، وما تركته الخيانة من اشمئزاز وطعنات..
أُمّة مُستباحة
إلى حدّ الكآبة.
***
لا تتمّ الجرائم والفظائع والخيانات الكبيرة
إلّا بمكافآت مُجزية وكبيرة.
غير أنّ الجاه القائم على الظلم كوابيس بشعة،
ستبقى تحوّم فوق الخونة،
ولن يناموا.
***
حملتني النافذة من الطابق العاشر،
بعد أن ألقت الطائراتُ قنابلَها الهائلة الارتجاجيّة،
فخَبزَت العمارة،
وطرتُ مع الشرفة، لتحطّني على مسافة بعيدة،
لكنّ العجاج الأسود، والكُتل الخرسانية ،والركام المتطاير، كان هائلاً
إلى درجة أنّني بقيت تحت الرّدم عشرين سنة،
أي بعد الحرب الثانية، والثالثة، والسادسة…
وربما تأتي الحرب القذرة السابعة وأنا أنتظر،
لا أكل، لا كهرباء، لا دواء… ولا شراب لي غير الغبار،
والبندقيّة.
***
ثمّة وحشٌ منقرض
يستيقظ في جسد حثّيّ،
يبدو متماسكاً ببدلته الحديديّة وسلاحه المجنون،
ويلوّح بسبابته محذّراً الأرضَ من الدوران.
إنّه يريدها أن تقف أمامه مطأطئة الرأس،
عارية الصدر،
وتفرد جسدها جسراً لوحوشه اللاهثة،
والدم يتدلى خيوطاً غليظة من أشداقها،
هو ابن المسخ، الذي أقْنَعَهُ صمتُ العقود،
بأنّه أكبر من مكوّنات الخليقة،
وأعلى من مآذن الصلاة.
إنّه بلا أيّ ملمح آدميّ، أو كثافة بشريّة،
وعلى العلماء أن يبدأوا البحث عن مخلوقات شاذّة،
تلبس أزياء الخرافة،
وتخرج من بيت العربيد الوثنيّ،
وقد أصبح وَهْمُها صلباً،
وقد أخذ شكل أسلحتها المعتوهة.
***
الفرق بيني وبينه ليس شكل الوجه، أو الاختلاف على الخِتان،
بل إصراره على أن يكون سيّداً على حُطام الضحايا،
بدعوى مفضوحة وحقيرة،
وهي أنّ له حقوقاً،
عفواً، أو أنّه إله.
***
فراشةٌ مغموسة بنارِها، تطير، تضرب جناحيها، تخبط بيأس،
وتقع زهرةً كالثلج.
***
لقد كان النخيلُ رجالاً، خلّفوا مجداً، أضاعه الشوكُ وابنُه العوسج.
***
واستيقظت (النصيرات)، فَرَدَتْ ضفائرها،
كسرت المرآة، وتهيّأت للعاصفة.
***
غزة أوّل تجربةٍ للخلود.
***
تأتي الحُور إلى (المغازي)، ليتعلّمن تقاليدَ الفردوس.
***
قدّم الجَمالُ اعتذارَه للمدينة، واستسلم لها.
***
المخلوق الآليّ، المصنوع الموضوع،
المُوَجَّه عن بُعْد،
والمُغلَّف بالفولاذ،
والمشبوك بآلاف الأسلاك والأزرار،
ما زال يطاردني (الروبوت الحديديّ المسخ)،
نبت على ساعديه المصقولين لحمٌ وشَعر،
وأصبح له عينان، وأنف، وفم، وأسنان،
وصار بإمكانه أن يتمتّع بمرونة الإنسان، وبرائحته، ولفتاته، وسَمْته …
غير أنّه دون قلب أو مشاعر،
وبلا أبٍ، أو تاريخ،
وليس له غدٌ، أو أمل.
***
قبل النكبة بأيام،
دخلت العصابات والجنود بالسكاكين، والبنادق، والبلطات،
فشجّوا رأس أبي،
وقطعوا رأس أخي،
وبقروا بطن أُمي،
كنتُ متحجّراً كأنني تكلّست وتجَمّدت،
والدم يشخب على الحيطان والأرض،
وخرجوا، بعد أن أحرقوا المنزل بمَن فيه،
لا أدري
هل خرجتُ أم ذبحوني؟ وكنتُ مع أُسرتي
أم حملني مَلَكٌ ما، خارج البيت؟