في عام 1979 طوى الأردن صفحة بارقة من صفحاته الشعرية. شاعر بترت ساقه يعيش وحيدا منذ 10 سنوات في غرفة حقيرة، في حي فقير من أحياء مدينة الزرقاء مدينة الجنود والمهاجرين.
منذ عام 1946 انطفأت الأوراق التي كانت تستضيء بأشعار أنيقة. كان يطلقها أستاذ اللغة العربية، الذي ولد في السلط عام 1910 وحمل اسم حسني زيد الكيلاني وعام 1946 هذا هو العام الذي صدر فيه ديوانه الشعري الوحيد (أطياف وأغاريد). جمعه الأستاذ أمين أبو الشعر صاحب جريدة الرائد آنذاك.
أن تولد روح متمردة ضمن إرث عائلي تتزاحم فيه الأسماء والمفاخر. صانعة تقليدا عارما وكتلة ضاغطة ينوء بحملها الأعلون. ويلوذ بها كل من فترت همته إلى المعالي. أن تولد روح عالية في هذا الجو معناه مرارة تصاحب طحالبها كل ثواني العمر.
يرثي الشاعر نفسه وهو في العشرينات من عمره فيقول:
لو أنني أَنْصفتُ في
هذي الحياة رثيت نفْسي
وبكيتُ أحلامي الوِضا
ءَ وخمرتي ورنين كأسي
ونعيتُ من قبلي المنـ
ـون خمودَ ذاكرتي وحسي
أنا بين يأسٍ قاتلٍ
ولربما أقضي بيأسي
ذهب الشباب فلا رجا
ء. ولا عزاء ولا تأسي
ماذا أؤمل في الدنى
والشيب مشتعل برأسي
فكأنني أحيا برمسي
قبل أن أدنو لرمسي
عفَّى الزمان على الهوى
وعلى المدامة والتحسي
وعلى ليالٍ اطلعت
من دنها المخبوء شمسي
وتوالت السنوات بعد ذلك حتى عام 1979 والمغني ما زال يطلق أطيافه وأغاريده في الجو. خارجا عن سيف القبيلة وعن تقاليد المجتمع الذي ضيعه. أغرق روحه بالخمر وبالحزن وانقطع راتبه التقاعدي بعد وفاة الملك عبد الله الأول سنة 1951 فأمضى ثلاثة عقود يداري حياته بالشعر وبالمعونات.
هو سليل عائلة عريقة بالتدين. خاله كان مفتي مدينة السلط وهو كان خال مؤسس جهاز المخابرات الأردنية محمد رسول الكيلاني الملقب أبو رسول. شبكة من العلاقات ضيقت عليه قلقه الشعري الذي ظل ممتدا يحيك أنفاسه المضطردة التي لا تعرف سوى الشعر خيوطا والانطلاق حائكا. حتى أصبح عبئا على من حوله. ضاق بروحه المتمردة كل المجتمع بل وكل الدنيا.
كان يزور قبر أمه فيناجيه ويحاوره وأصبحت مفرداته في أعوامه الأخيرة تقتصر على الرثاء أو على مناجاة الموتى وأحيانا على الرجوع إلى الله.
يقول في قبر أمه حنيفة:
ولقد مررت على القبور فلم أجد
قبرا كقبرك يا حنيفة يضحكُ
هشَّت حجارته إلىَّ بشاشة
إذ أدركت مالا يحس ويدركُ
أبيات ربما تحيلنا إلى قول شوقي في قصيدة (يا جارة الوادي) إذ يقول:
ولقد مررت على الرياض بربوة
غناء كنت حيالها ألقاك
فيصبح المعادل الموضوعي للرياض هي القبور. وأجواء الرياض ما هي إلا شواهد القبور وصخور المقبرة في خيال الكيلاني.
عاش الكيلاني معظم حياته مبعثرا بين الوظيفة الحكومية ككاتب في الجيش وبين التدريس، وبين التشرد الذي لازمه طول حياته وأحس أنه قدره منذ أن كان ينشر شعره في الثلاثينات جنبا إلى جنب مع عرار شاعر الأردن في جرائد الأردن وفلسطين.
عرار كان ثائرا على التقاليد الشعرية وكأنه كان يطمح للغة شعرية تتجاوز السائد مع أصالة في الموهبة، وأما شاعرنا فإن شعره كان يلتزم بالتقاليد الشعرية ولغة الشعر الجزلة في العموم ولكن يتميز بنبرة خاصة تحتفل بالشعر وبالغناء وتنطوي في داخلها على رغبة جامحة بحب الحياة والغناء لها. رغم ما تحتشد به قصائده من بكائيات أو مرثيات.
في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي كانت تقرأ قصائد عرار وقصائد الكيلاني جنبا إلى جنب كشعراء طليعة في الأردن وبلاد الشام.
توفي عرار سنة 1949 وظل صدى شعره يرن في سمع الأردنيين حتى يومنا هذا لأسباب كثيرة أهمها الموهبة طبعا. لكن جانب الخمريات وحياة اللذة كانت حياة مشتركة بين الشاعرين. تسامح الناس والمجتمع مع عرار وكانوا غير رحيمين بالكيلاني.
ولا زالت الدوائر الرسمية تعامل هذا الشاعر بنفس الطريقة؛ فمنذ طبع ديوانه الوحيد عام 46 من قبل مؤسسة خاصة، قامت وزارة الثقافة الأردنية بعد خمسين عاما بإعادة طبعه كما هو. دون الالتفات بعين البحث والتقصي لأوراقه المبعثرة والمتناثرة في الصحافة الأردنية من عام 46 وحتى عام 79. والأهم من ذلك أشعاره التي لم تنشر قط والتي تحتفظ بها عائلته، وهي أشعار كثيرة ومهمة كما يفهم من كتاب الأستاذة عيدة الهربيد (حسني زيد الكيلاني حياته وشعره) وهو يعد الدراسة الوحيدة عن هذا الشاعر نشرت سنة 1986 ونالت بها درجة الماجستير.
ولا أجد أجمل من هذه الأبيات أختم بها هذه العجالة عن شاعر كبير ظلم حيا وميتا في بلده. متمنيا على الجهات المعنية في الأردن رد بعض الاعتبار لهذا العلم الشعري. بالسعي إلى جمع ما تبقى من آثاره وأوراقه إن وجدت حاليا.يقول الشاعر في تظلمه الأبدي:
من لؤم دهري أو بنيه فإنهم
طلبوا من الله الجنان وأجرموا
تباً لمجتمع خسيس ساقط
فيه الورود من الأذى تتألمُ