– ملحوظة أولية:
“سويت أميريكا”، الرواية الأولى لزينب الأعوج، وهي النسخة المعدلة من طبعتها السابقة، (مسلم فريلاند) التي نشرتها قبل هذه الطبعة بسنة واحدة، تحت اسم مستعار للكاتبة، وهو (زينا ماريا)، الصادرة عن منشورات بغدادي.2021.
أولا- خطابات التفكيك الذاتي من مناص إلى النص
1- قراءة في الغلاف واللوحات الانطباعية
نتحدث هنا عن غلاف الطبعة الأولى من الرواية، الصادرة عن دار الوطن اليوم، والتي نجد على غلافها عدة خطابات، وكلها خطابات مباشرة وصريحة ومعلنة. فالعنوان في الأعلى مكتوب باللغتين: العربية والإنجليزية، سويت أميريكا – Sweet America، وقد فضلت الكاتبة أن تنقله بالمنطوق والمكتوب الأنجلو-أمريكي، لكن بحروف عربية فقط، ما يجعل هذا العنوان العربي ليس ترجمة للعبارة الإنجليزية، وإنما كتابة لها بحروف عربية. أي إنها اختارت العنوان الهجين على العنوان الأصيل، وهو خطاب يجتث العنوان من هويته ومصدره وانتماء نصه المكتوب بحروف عربية (أمريكا الحلوة)، ويمنحها هوية هجينة كتلك التي تكتب بها الرسائل العربية على هواتف من لا يحسنون لا اللغة العربية ولا غيرها، كما لو أن شخصاً عربياً أراد أن يحيي الآخر بلغته دون أن يحسنها، فينقل له العبارة الإنجليزية بحروف عربية هجينة مثل: [هاي.. نايس توميت يو..]. والهجنة هنا خيار سردي واضح على حساب أصالة اللغة التي يخاطب بها الكاتب قراءه، واشتغال على الهوية كاجتثاث وتنصل واختيار نموذج الهجين التابع. وليس كمكون حضاري معروف الانتماء والجهة الثقافية، والمصدر والهوية والموقع.. الذي ينتمي إليه الكاتب ويكتب به نصوصه. وهنا تظهر الهوة الفارقة بين المستوى الهجين للعنوان والمستوى الأصيل الفصيح الذي كتب به النص. والغاية من توظيف هذه المستوى الهجين للغة العنوان وخطابه، لا تحمل للنص أي سمة جمالية أو فنية، كونها تتعداه إلى سياقات خارجية قد ترتبط بتوجيه الخطاب إلى مظانه (غير النصية طبعاً) وفق الخيارات السردية الهجينة اللغة. وهو ما جعلنا نتناول هذا الخطاب من وجهة ثقافية لا تتعدى محور اللغة والخطاب ووظيفتهما في الإنجاز والتلقي. لا من حيث الغاية الخارجية من تلك الخيارات..
أما على مستوى اللوحات الانطباعية على غلاف الرواية، فنجد أن النصف الأسفل للغلاف تحتله صورتان: على اليسار علم أمريكا مرفرفاً وكبيراً وبكل ألوانه البيضاء والزرقاء والحمراء، يحتل ربع مساحة الغلاف تقريباً. مما يعطيه أهمية خاصة في هندسة التصميم، كما في التلقي التسويقي. وعلى اليمين منه، صورة كبيرة أيضاً لمارتن لوثر كينغ. واضعاً أصابع يده اليسرى على خده، وأمامه للأسفل عبارته الشهيرة بالإنجليزية [I have a Dream]. التي تمت مضاعفة دلالتها، بدمجها مرة أخرى في عنوان آخر فصل من فصول الرواية (رأيت حلماً). ثم تضاعف هذه الدلالة مرة أخرى بجعل إحدى الشخصيات السوداء في الرواية تحمل اسم “لوثر”، وتخاطبه بقية الشخصيات بأنه يشترك مع مارتن لوثر في التسمية والدلالة على جدلية التسامح والعنصرية.. وكل هذا التكثيف الدلالي في صورة الغلاف وفي فصوله وفي شخصياته جعله يتجاوز التوظيف إلى ضرب من الحشو والتكرار اللفظي والمعنوي الذي فكك تماماً أية رمزية محتملة لموضوع التسامح ولهذه الشخصية العالمية (مارتن لوثر كينغ) التي تم تمثيلها بشكل مضاعف والتركيز عليها في النص بكل الوسائل الخطابية، وبشكل لم تشهده أية شخصية أخرى في الرواية، إلى درجة انحلال السمة الفنية لتجسيد فكرة التسامح، وفقدان إشعاعها الدلالي كتيمة أساسية تم قتلها بتكرار تمثيلها المتعدد عبر كل بنيات النص الشكلية والمضمونية.
فماذا بقي للقارئ ليستخرجه في غلاف الرواية الذي يفكك ذاتياً جميع شفرات الموضوع بالخطاب والصورة والشخصيات والفصول؟ بشكل مباشر ومعلن لا إرجاء دلالي فيه. وهذه التفكيكات للمعنى ساهمت أيضاً وبقدر كبير في تجفيف شعرية السرد. بداية من خطاب العتبات.
2- العنوان وخطابات المحتوى
إذا أخذنا العنوان، باعتباره العتبة الأولى للنص، وأول خطاباته المباشرة، والذي يصرح علناً ودون أية رمزية أو إحالة، بعبارة مدح أو إعجاب بالجانب الأمريكي، انتماءً وهوية وإقامة، أو أن خطاب العنوان يتضمن انطباعاً لمن عاش في هذه البلاد وأعجبته فمدحها في عنوان روايته، لكن العنوان يحمل وجهين متناقضين: وجه مدحي نحو الأمريكي، متعلق بعنوان الرواية، ووجه مفارقاتي ساخر يتعلق بالمضمون وترمز إليه صورة مارتن لوثر كينغ التي تحتل المساحة الأكبر من غلاف الرواية، وهي صورة لأحد ضحايا العنصرية في هذا البلد، لكنها عنصرية ضد السود، وليس ضد الأجانب كما تحكي الرواية. ومن يقرأ الرواية لن يجد أي حكاية عن العنصرية ضد السود التي نراها بشكل مباشر في صورة الغلاف، بل إن العلاقة الوحيدة التي تحيل إليها صورة مارتن لوثر كينغ هي البعد العالمي للتسامح الذي يحملها هذا الرجل الحالم بالحرية والتسامح، وهو خطاب أوسع من صورة الرجل في الغلاف وأمريكا العنوان.
فأميركا في هذه الرواية حلوة حتى في سلوكها العنصري، وفي التطرف الذي تتبنى الرواية كشفه ونبذه كعلامة على الديمقراطية والروح الأمريكية، التي يشغف بها النص حد التماهي. مثل ما نقرأه في الصفحة 54، على لسان شخصية آري: وهو ابن مسيو باسكال صاحب مقهى- بار لايت كافي (مقر الحركات المتطرفة ضد الأجانب) حين قال: “إن الوافد الجديد، مسلم خطير، لحيته تخفي إرهابيا سرياً”. تماثلاً مع العنوان تمتلئ الرواية بهذه التوجيهات والمكاشفات السردية المعلنة في خطابها الموجه دون أية صبغة إيحائية أو جمالية روائية، كأنما لا تحفل بما تقدمه للقارئ، بقدر ما تطرح أمامه مثل هذه التوجيهات الخطابية الصريحة المعروفة المصدر والغاية حد الابتذال في تداولها على وسائل الأعلام الأمريكية، وتلك التي تبنت خطابها (الإرهابي المسلم)، والتي يمتلئ بها النص؛ ما يجعل من الرواية نفسها جملة من الأنساق الغربية المستهلكة حتى لدى الأمريكيين أنفسهم. حتى ليشعر القارئ العربي أنه خارج حقل المنظور السردي، وخارج حقل التلقي الروائي، وخارج هذا الجنس الأدبي الذي يفترض أنه يحتوي حداً أدنى من الخطابات الإيحائية وغير المباشرة التي تفصله عن الواقع بمسافات جمالية، يفتقدها النص افتقاداً جذرياً، وحل محلها التصريح الإيديولوجي المنتمي، والمتبني لشعارات منسوجة على المقاس الأمريكي، تارة ومنتقدة له تارة أخرى، في جدلية متناوبة حتى نهاية الرواية، والتي كانت هي المعمار والأثاث الطاغي على هذا النص في توجهه وتوجيهاته، وعبر لوحاته ولافتاته المتراصفة أمام القارئ. مما ساهم من زاوية أخرى في تجفيف لغة السرد. مع عوامل أخرى مثل الحوارات التي هي من حيث المبنى ذات خطاب تقريري ومباشر، وجاف جمالياً بطبيعته. والحوارات في هذه الرواية، هي التي طغت على أنواع الخطابات الأخرى، لدرجة أننا يمكننا اعتبار الرواية بكل سهولة رواية حوارية بامتياز.
والحوارية هنا هي نقطة قوة جوهرية في هذا النص، والتي حافظت بقدر كبير على توازنه، في نسجع توليفة من العلاقات السردية والثقافية بين الأنا والآخر.. والتي منحت النص بعداً فكرياً وثقافياً، رغم الجفاف خطاب الحوار وتقريريته.
3- موضوع الرواية
تتناول الرواية موضوعاً واحداً هو الذهنية العنصرية المتجذرة لدى بعض الطوائف في أمريكا، من خلال عينة مدينة “ويست فريلاند” التي تهيمن عليها جماعات متطرفة من العنصريين المتطرفين، زرعت الروائية بينهم عائلة مسلمة، وهي عائلة بطل الرواية: “جيل خوري” أو جلال (كما يزعم متطرفو المدينة) مسيحي من الشام، اعتقدت الجماعات المتطرفة –بسبب ملامحه العربية، ولحيته المنسدلة- بأنه مسلم إرهابي، جاء إلى مدينتهم، التي تنبذ الأغراب، ومن هنا تبدو العقدة واضحة للقارئ، والتي تطرح سؤالاً قاسياً منذ بدايتها: كيف ستعيش عائلة ذات أصول عربية، في وسط مدينة عنصرية تنبذ الأغراب وتعتنق الإسلاموفوبيا والعربوفوبيا شعاراً لساكنتها؟ تنسج الرواية إشكاليتها هذه، وفق طرح معزوف على إيقاع المنظور الأمريكي في العنصرية والتسامح، مشتغلة على طروحات مثل: الإرهاب الإسلامي، في مواجهة الإرهاب العنصري، شأن غيرها من الروائيين الجزائريين ذوي الميولات الاستغرابية، الذين بنوا مفاهيمهم للسرد على وجهة النظر الأمريكية- وإثارة مواضيع رائجة في وسائل الإعلام الغربية مثل: التسامح القائم على الاعتراف بالهولوكوست واحتضان الساميةـ بداية من معاداة النازية، وتبدو هذه النزوعات جلية في روايات (واسيني لعرج (أصابع لوليتا، مملكة الفراشة، سوناتا لأشباح القدس)، ياسمينة خضرة (الصدمة، سنونوات كابول، سيرينيات بغداد)، كمال داود- بوعلام صنصال، وغيرهم ممن جعلوا من تلك التيمات ذات الرواج الواسع في الإعلام الغربي، إعلاناً لحسن النوايا المتبنية لجميع وجهات نظر تلك القطبية الترويجية والخطوط الافتتاحية لمراكزها الغربية. دون نقاش أو تحوير فني، اعتقاداً بأن تلك المواضيع لها حساسية وحظوة في لمراكز القرار الغربية ومنابرها الإعلامية، التي تمتلك أدوات الترويج والتكريس؛ باعتبارها مطية يراها الكاتب العربي اللاجئ، لترويج نصوصه هناك، مطيةً مثلى لترجمة محتملة أو غاية ترويجية لبلوغ العالمية المستهدفة من وراء ذلك التهافت المعلن والصريح على التيمات المهيمنة، أو الطافية على سطح وسائل الإعلام الغربية. بشكل لم يعد خفياً في الكثير من العناوين والمتون السردية العربية؛ مما جعل النص السردي لدى العديد من الروائيين الاستغرابيين، مطية وصول ووسيلة عبور، أكثر منه غاية فنية في حد ذاتها. ولن يبذل القارئ العربي ولا الغربي جهداً في إدراك هذه الغائية الخارج/ أدبية إن قرأ عناوين هذه الفئة من الروائيين المذكورين.
4- الشخصيات وأزمة الهوية والهجنة:
لعل أولى الملاحظات التي يسجلها القارئ لهذا النص، أن الشخصية البطلة فيه عربية الأصل والاسم الأصلي (جلال) وأجنبية الكنية (جيل)، يعني هي شخصية مزدوجة التسمية (أصل الاسم عربي وبديله غربي)، وهذه الظاهرة نجدها تتكرر بشكل متكرر ولافت في جل الروايات الأخيرة لواسيني، وبالخصوص في (أصابع لوليتا ومملكة الفراشة).
كما تتماثل هذه الرواية مع نظيراتها الأخيرة من نصوص واسيني في كون شخصياتها العربية مُجتثة من أصولها، لكنها ترتبط بذلك الأصل بخيط رفيع يشير إليه اسمها، وأصولها، أو مهن رف أسلافها وتاريخهم، لكن يبقى هذا الأصل العربي هو مصدر مأساتها، ومشاكلها، ومصدر النظرة النابذة لها من طرف بقية الشخصيات الغربية المحيطة بها. بالإضافة إلى وجه شبه آخر ماثل في افتقاد الشخصيات العربية المسيخة أو المُقنّعة في رواية سويت أميركا (تماماً كما في روايات واسيني)، لعنصر الهوية، التي تبدو فاقدة لها، كونها مُجتثة من أصولها ومغروسة بشكل هجين في ثقافة وحضارة يبدو انسجامها معها مصطنعاً وزائفاً إلى أبعد الحدود، وهذا في حد ذاته اشتغال من منظور تفكيكي على الهوية، أو ما يمكن أن نسميه: أزمة هوية تفتقدها الشخصيات باطنياً، وتشتغل عليها النصوص ظاهرياً، باعتبارها مصدر التأزم، ومثار الوعي الشقي لدى تلك الشخصيات الهجينة التشكيل والبناء والأزمة.
أي إن الاشتغال الروائي على الهوية كان باعتبارها اجتثاثاُ وليس تأصيلاً وتجذراً.
فالشخصية البطلة (في رواية سويت أمريكا) جيل (جلال) عربي الأصل، مسيحي الديانة، من أصول شامية، مختص في ترميم المعابد والكنائس القديمة. زوجته (كايا) من أصول يهودية هندية، وابنتاه بالتبني (يامي من أصول أفغانية مسلمة) و(نويمي من أصول يمنية يهودية) والاثنان تم انتشالهما من حربي أفغانستان واليمن وتبنيهما من طرف الزوجين جيل وكايا. ليتشكل لنا الهيكل التسامحي لهذه الأسرة والمتمثل في أسرة من أربعة أشخاص، من أربعة أصول عرقية (شامية/ هندية/ أفغانية/يمنية) وأصول دينية ثلاث: (مسيحي، ومسلمة ويهوديتان). لكن الأصل في جميع العلاقات ليست الهويات المرجعية العرقية أو الدينية، بقدر ما هو الاجتثاث منها، لتصب كلها في بوتقة واحدة هي التسامح المسيحي، وجنسية واحدة جامعة هي الجنسية الأمريكية؛ حيث يصرح جيل في الرواية بأنه ليس عربياً بل أمريكياً، وأن اسمه جيل وليس جلال(ص:218)، وأنه مسيحي وليس مسلماً، كما تدفن الطفلة ذات الأصول الإسلامية (يامي) في مقبرة مسيحية، ويقام لها قداس مسيحي، وتقرأ أناشيد القداس اختها نويمي ذات الأصول اليهودية، لتصبح مسيحية بدورها، وتنتهي الرواية باحتفالات إعادة ترميم كنيسة المدينة من طرف جيل، وسط قداس أعظم يحتضن الجميع. وهو ما يجعل من النص بأسره احتفالاً سردياً بالروح المسيحية، وتعاليمها السمحة، من بدايته إلى نهايته، ومن بناء شخصياته إلى حبكة أحداثه، وما الأصول الإسلامية للبطل (جيل) سوى وهم، يكذب تسميته بـ “مسلم فريلاند” كما يدعوه المتطرفون العنصريون. ليثبت أنه مسيحي المنشأ والمآل، وما الأصول الإسلامية واليهودية لابنتيه، سوى غشاء رفيع سرعان ما يتلاشى على إيقاع المبادئ المسيحية التي تحتوي الجميع في نهاية الرواية. راسمة بمنحى إيديولوجي مسيحي فكراً وتعاليم ومبادئ وبعداً أخلاقياً ورسائلياً لهذا النص. وتبدو النهاية القداسية لهذا النص متماثلة تماماً مع نهاية رواية كتاب الأمير التي انتهت بقداس ملائكي للمونسنيور ديبوش، حيث احتفلت مثلها بمبادئ التسامح المسيحي، مع اختلاف بسيط، هو أن الأولى تغرس تلك المبادئ في سكان الجزائر وهم يشيعون القس الفرنسي (ديبوش) بالورود والدموع، ويتبعون القداس الملائكي المهيب (وهو مالم يحدث تاريخياً بل فقط في المخيال الروائي للكاتب). وهذه الرواية (سويت أمريكا) تفعل الشيء نفسه مع تشييع الفتاة (يامي) شهيدة التطرف والعنصرية، وبقداس ثانِ أكثر زخماً، عند افتتاح الكنيسة التي بدأت الرواية بترميمها من طرف البطل جيل وانتهت بتدشينها في قداس رسمي مهيب. وهنا تتماهى ثقافة التسامح المسيحي مع الروح والهوية الأمريكية التي يأوي إليها الجميع على اختلاف معتقداتهم وأصولهم وقناعاتهم. وهذا هو شاطئ الأمان الذي انتهت إليه الرواية. وفكت به عقدتها بتفكيك شمل سائر الجماعات المتطرفة التي صنعت تراجيديا العنصرية وثقافة الكراهية.
ثانياً – التأثيث الثقافي للنص (الخزانة الثقافية).
1- نسق الأغاني الأمريكية:
لا تتأثث الرواية إلا بكل ما هو غربي، ثقافة وحضارة وإطاراً معرفياً، فحين تنفتح خزانتها أمام القارئ، تتدفق عليه في الصفحات المئة الأولى جملة من الأنساق الثقافية الأصيلة في منشأها الغربي، والمتجهة إليه، وأول نسق يلاقيه القارئ، هو: ستة أبيات من أغنية لويس أمسترونغ [I see of green]،(ص 15) ثم تتلوها خمسة أبيات من أغنية “إنها أمريكا This is América” لشيلديش غامبينو [Shildish Gambino]، (ص27) وتتلوه في الصفحة الموالية أربعة أبيات لكيني روجرس في أغنية: “ليدي Lady”. (ص28)، ثم أغنية دون ويليامز “if I needed you, would you come to me” (ص59). ثم ثلاثة أبيات من أغنية “Everything i do it for you”، ل بريان آدامز (121)، وتتلوها في الصفحة الموالية ثمانية أبيات من أغنية “The power of love”، للمطربة جبنيفر روش.. وتختتم الرواية بثمانية أبيات للمطربة الأمريكية أريتا فرانكلين: في أغنيتها رأيت حلماً (There was a time when men were kind)…
ويستمر التدفق المتتالي للأغاني والأنساق الثقافية الأمريكية، حتى ليثار السؤال من تلقاء نفسه: لئن كانت الرواية تمدح أمريكا في عنوانها، وتتأثث بأغاني هذا البلد وشعاراته من خطابات العنصرية والتطرف إلى مقولات مارتن لوثر كينغ، ومواقف إبراهام لنكولن في التسامح والمساواة، في متنها، فأي غاية جمالية وفنيه يبتغيها الكاتب من وراء هذا التأثيث الموجه بفعل التراكم الكمي لتلك الأنساق الثقافية؟ وهل هي طريق فعلي إلى بلوغ العالمية؟ إن توجه الروائي للأمريكيين بمدح بلادهم في عنوان روايته والتغني بأغانيهم وشعاراتهم ورموزهم الثقافية في متنها؟ أي هل يتحقق ذلك إن رددت عليهم أغانيهم التي حفظوها وتغنوا بها منذ أجيال؟ إن الإفراط في حشو الرواية بكل ما هو أمريكي من أغاني وأنساق ثقافية يثير أكثر من سؤال حول الغاية الفنية من تلك التعبئة المثخنة بكل ما هو ثقافة أمريكية، والتي لم تفصح سوى عن توجهها خطابياً لجمهور الأمريكيين وإيديولوجياً إلى الفئة المسيحية منهم. وإن كانت موجهة للجمهور العربي. فهو توجه اجتثاثي بشكل جذري لكل هوية عربية -أو غير أمريكية بالأحرى- في بناء شخصياتها وخطاباتها وحواراتها؟؟ وتبقى هذه الأسئلة المحتملة معلقة في ذهن أي قارئ للرواية عربياً كان أم غربياً.. خاصة إن تأملنا الشعارات الإيديولوجية، والأنساق الثقافية المحمولة على الخطابات واللوحات والمقولات التي تتأثث بها الرواية في شقها الفكري أو الإيديولوجي. الموجه.
2- نسق ثقافة الكراهية- اللافتات والشعارات.
اتساقاً مع ثيمتها التي تتناول الظواهر العنصرية، وثقافة كراهية الأجانب في المجتمع الأمريكي، نجد بأن الرواية تتأثث منذ بدايتها بجملة من الشعارات العنصرية المنبوذة التي تحاول فيها الكاتبة رسم صورة العنصري الأمريكي، خاصة وهي تركز بشكل لافت على الجماعات متطرفة من قبيل [KKK أو Ku-Klux- Klan]، أو [white spirit]، أو [Skeen heads].
وشعارات كره المسلمين: [أخرجوا من مدينتنا أيها الغرباء] [لا نريد مسلين في فريلاند] [التنوع رمز لإبادة البيض]، [حربنا المقدسة بدأت]-وخطابات حوارية بين هؤلاء المتطرفين من قبيل: [لا أفهم ولا أستوعب كيف تباع أملاكنا للإرهابيين العرب ونحن هنا نتفرج]، [نريد زرع الرعب في قلب جلال المتخفي، وقلب عائلته]، [سنغرق بيته بالأزبال والفضلات، حتى يتعلم كيف يفكر قبل الإقدام على السكن في مدينة تكرهه وتكره من يشبهه]. [بدل رمي القمامة خارج المدينة، نكلف بعض الشاحنات برميها هناك في حديقة بيته التي بدأ بتصليحها. ربما حسسه العفن أنه يشبهه وأنه غير مرغوب فيه] (ص48-49)- واللافتة المعلقة على مقهى “لايت كافي” في المدينة تقول: [ممنوع على العرب والمسلمين والقطط والكلاب والسود] (ص177).
كل هذه الشعارات والخطابات تنسبها الكاتبة إلى جماعات أمريكية متطرفة تجتمع في مقهى لايت كافي بمدينة فريلاند.. والغريب أن هذه الجماعات صارت تفكر بمنطق قبلي ( أقرب إلى النعرة القبلية العربية منه إلى الذهنية العنصرية الأمريكية).
وتنسب جميع صور الانغلاق والتقوقع للمتطرف الأمريكي وكأن الساكن الغريب في المدينة، انتهك حرمة بيته المغلق عليه. ثم وبسهولة يتم تكليف شاحنات البلدية لتفرغ القمامة أمام بيت الساكن الجديد في المدينة.(ص49-162).
إن هذا المنطق القبلي المغلق ذهنياً يصعب تقبل وجوده حتى لدى أدنى المجتمعات القبلية المغلقة على ذاتها، فكيف بوقوعه في مدينة أمريكية هي عنوان التفتح والتعدد، حتى إن كانت عنصرية؛ فالعنصرية هنا لا تعني الانغلاق والتقوقع كما حاولت الروائية تصويره.
ذلك أن العنصرية أمر مشاع في كل دول العالم ومنذ فجر التاريخ، لكنها لا تعني مطلقا العزلة والانفصال، كما لا يعقل شعبياً ولا مدنياً ولا حتى تخيلياً أن تسخر لممارساتها المتطرفة والعنيفة تجاه الآخر إمكانيات الدولة وشاحنات البلدية والأملاك العمومية بهذا الشكل الفج، كإفراغ القمامة أمام بيت أو حديقة أحد السكان، في بلد يغرم فيه من رمى بقايا سيجارة في طريق عام..
وفق ما ورد في هذه الشعارات واللافتات والحوارات، يبدو أن الروائية تقدم للقارئ صورة لا تتطابق مع أي مجتمع قبلي في العالم مهما كانت درجة تخلفه، كما لا تتطابق مع أي نظام دولة ممثلا في إمكانات البلدية التي تسخر للمتطرفين شاحناتها لإفراغ القمامة أمام بيوت وحدائق الساكنة، وهو أمر غير ممكن الوقوع حتى في دوار أو قبيلة مهما بلغت ذروة تخلفها وتقوقعها، فما بالك أن يحدث ذلك في بلدة أمريكية. تقدس القانون. وقد تخترقه لكن بصورة غير مباشرة. ووسائل خفية وملتوية وليس بهذه البلادة والتخلف في التصرف بين المواطن وأجهزة الدولة. وهو خطأ منطقي في السرد أكثر منه معرفي في تقديم صورة عن ثقافات الشعوب.
أعتقد أن مثل هذه الأخطاء في منطق السرد، ومقاربته للواقع، ناتج عن حالتين كثيرتي الانتشار عند الكتاب المبتدئين خاصة:
-إما عجز الكاتب عن تصوير واقع آخر غير واقعه. فسبب ذلك البعد عن المنطق، أو أن ذلك ناتج عن الاندفاع والتسرع في تصوير واقع بلد لمّا يعرفه الكاتب بعد بشكل كاف، أو لم يكوّن عنه معرفة كافية، وهذا من الناحية الأدبية والفنية يسمى الخطأ المعرفي الناتج عن انعدام المعايشة للفضاءات المسرودة، وما تقتضيه من استيعاب للثقافة المحلية والمعرفة التفصيلية للحالات الحضارية والتاريخية التي تؤثث خزانة النص الثقافية. والتي عادة ما تسبب هفوات منطقية، تنشأ عنها مثل هذه المغالطات التي لا يحتملها الواقع ولا الخيال. وبخاصة في تلك النصوص التي يحاول فيها الُكتاب تصوير أماكن وفضاءات ثقافية وحضارية لا يعرفونها. فكيف يعايش القارئ نصوصاً ومشاهد لم يستوعبها كاتبها معرفياً ؟
3- نسق ثقافة التسامح – التماثل السردي
تضع الرواية عدة خطوط كبرى كعناوين للتسامح، منها ما هو ماثل في شخصيات حاملة للواء التسامح الديني، وعلى رأسها القس “مالكوم”: حامي المغتربين والضعفاء، من بطش العنصريين المتطرفين الذين يلاحقونهم، حيث يوفر لهم في كنيسته، بمدينة ويست فريلاند، مخبأ وملجأ، ومأوى مؤقتا، أو مركز عبور للنجاة، حتى يتسنى لهم الهرب أو التخفي بهويات محلية، أو يوفر مأوى لصغارهم الذين خلفوهم وراءهم. وكان من نتاج أفعاله، أن تم اغتياله رفقة بعض أنصاره، ودفن رفاتهم داخل حديقة الكنيسة، التي ستسمى لاحقاً باسمه، وهي الكنيسة التي يعكف البطل “جيل/ جلال” على ترميمها وتسميتها باسم القس مالكوم حامي المستضعفين واللاجئين. وهو صورة شبيهة في رمزيتها التسامحية الطاغية على الرواية، بطغيان السمة التسامحية لشخصية القس مونسينيور ديبوش في رواية كتاب الأمير لواسيني الأعرج، هذا من حيث رمزية الهالة التقديسية لمكون التسامح المسيحي على النص التي أصبغت على النصين المتماثلين رغم اختلاف التوظيف والسياقات السردية.
ولعل الملاحظ أن الكاتبة تستعمل في بناء خطابَي الكراهية والتسامح، مصطلحات [الحرب الصليبية]، [النازيون الجدد]، [الغزو الإسلامي اليهودي]، واضعة الأديان (المسيحية واليهودية والإسلام) جنباً إلى جنب في إخاء تام، في مقابل الهمجية العنصرية لجماعات التطرف في مدينة ويست فريلاند. التي ترهن المدينة وتحرقها ليل نهار، من أجل حمايتها من [الغزاة المسلمين واليهود]، كما ورد في الرواية (ص135). ليذكر هذا المشهد المتحاورين في الرواية بقصة حرق نيرون لروما في القرن الأول للميلاد. حينما تسلم المدن مقاليدها للمجانين.
وتبقى دائرة التسامح والكراهية تتسع في دوامة متنامية في خطابات المتحاورين كلما تقدمنا في المغامرة، حتى تصبح كل شخصية من شخصيات النص (مواطنون، أجانب، شرطة، لاجئون) معنية كلها بهذه المسألة وتقدم مبررات وجودها في أحد القطبين المتناحرين. وتدخل جميعها في حوارات حول التطرف والعنصرية والتسامح والانتماء.
ولعل هذا التطور الجدلي للقضية الشبيه بالدوامة التي تبدأ بأثر رفيف جناح فراشة في بداية الرواية، وتنتهي بإعصار أو تسونامي يجرف الجميع، ويلقي بهم في جحيم من العنف الذي لا قعر له، في نهايتها، هو أبرع تصوير للبناء المشهدي الذي تقدمه هذه الرواية، لكن اشتغال هذه الدوامة المتنامية كان على مستوى الخطاب أكثر منه في الفعل السردي.
ثالثاً: ملاحظات ختامية:
– على مستوى التشخيص، يبدو أن الكاتبة قد اختارت لشخصيات روايتها أسماء قد أشكلت عليها هي نفسها، حيث تسمي ابنتي البطل جيل بـ : يامي ونويمي.. لكن بمرور الصفحات والأحداث تنساهما، فتصبح يامي (مايا) ص176، وتصبح نويمي (ناومي) ص244، وظاهرة نسيان أسماء الشخصيات واختلاطها على كاتبها، دلالة أخرى على تأثيرات كثرة الكولاج وعدم التحكم فيه، والنشاز في الأسماء الملصقة للشخصيات على غير نماذجها البشرية المناسبة، وكذا على هجنة النص بين يدي كاتبه، وعدم ألفته ومعرفته للبيئة الغيرية التي يقتحمها، ومأزق وقوعه في نسيان وخلط الأسماء بين شخصياته عامل من عوامل الهجنة والغربة التي يعانيها النص تجاه فضائه السردي، وهو يقتحم فضاءً غربياً يؤكد المستوى المعرفي للكتابة غربته عنه.
ومن بين مؤشرات الهجنة النصية في أسلوب الكتابة، نجد خليطاً من اللهجات المغاربية والمشرقية في خطاب الشخصية الواحدة. على الرغم من أن الرواية بعيدة كل البعد عن البيئة الجزائرية.
فنسمع البطل جيل يخاطب ابنته يامي بلهجة جزائرية: [مالاكنش].. (ص193)، وهي كلمة تعني: من دون “لكن”.
ونسمع شخصية كايا، زوجته وأم ابنتيه بالتبني تقول: [إذا ما في إزعاج]. (ص191)، وهي لهجة شامية.
بينما تتكلم ابنتهما يامي (ذات الأصول الأفغانية) باللهجة المصرية، فتقول: [عجلات السيارة خربانة].
ثم نجد الشخصية نفسها(يامي) تتحدث باللهجة المغاربية، وتحديداً الجزائرية حين تقول لأبيها [فهمت يا بابا معليهش] ص200.
وتارة أخرى يستعمل البطل جيل قاموساً فرنسياً بحتا، حين يقول في الصفحة 93، [والكنيسة تحولت إلى SDF]، والأغرب من ذلك أن الكاتبة نفسها تترجم هذا الاختصار في الهامش بالفرنسية وليس بالإنجليزية، فتكتب شارحة هذا المصطلح بالفرنسية [Sans Domicile Fix بلا مأوى]؟!
فكيف تتحدث الفتاة الأمريكية ذات الأصول الأفغانية باللهجة المصرية ثم اللهجة الجزائرية؟ وأبوها بالتبني يرد بالفرنسية وزوجته اليهودية الهندية تتكلم بالشامية في خليط لهجي لا يتوافق مع أي منطق للفهم.
وما زاد الأمر نشازاً، هو أن جميع الشخصيات تعيش في فضاء مدينة ويست فريلاند الأمريكية.. فلا يدري القارئ، أي علاقة لهذا الخليط من اللهجات المغاربية والمشرقية والفرنسية التي تتحدث بها شخصيات تنتمي إلى أسرة واحدة في الرواية؟ الشيء الذي شوه الخطاب، وكرس هجنته ونشاز ذلك الإلصاق الفج للمسميات والخطابات على شخصيات غير متطابقة من منطوقها ولا مع أسمائها، مما انعكس على أدوارها ووظائفها السردية وقيمتها كنماذج بشرية في نص روائي استغرابيّ العنوان والبيئة والشخصيات، لكن دون الخطاب. مما يطرح أكثر من سؤال حول أزمة النص الاستغرابي الهجين في الرواية العربية..
– لقد تم تجفيف لغة الخطاب في النص باعتماد عدة عوامل، منها: الاعتماد المفرط على الخطاب التقريري، في اللوحات المعلنة للعنوان والغلاف، كما في الاعتماد شبه الكلي لخطاب الحوار الخارجي هو خطاب تقريري بطبيعته، وكذا التوظيف التكراري المفرط لبعض الوجوه التاريخية الأمريكية ذات الصلة المباشرة بموضوع الرواية، كمارتن لوثر كينغ، ولينكولن، وكذا طغيان تقنية الكولاج التي ضاعفت من أسلوب التصنع والتكلف النصي مثلما نراه في الملاحظة الختامية الآتية:
– والملاحظة الأخيرة التي نسجلها على النص، هي المثالية المفرطة والتصنع المبالغ فيه في علاقات شخصيات الأسرة الواحدة، وهي مثالية عمقت من هجنة النص وزادته بعداً عن الإيهام بالواقع والتخييل معاً.
إذ تقدم لنا الرواية أسرة كاملة ومثالية في انسجامها وتلاحمها، فلا تقع بينها أية مشكلة داخلية، بل إن ما يقع لها من مشاكل تأتيها فقط من الخارج. وجدير بالذكر أن ظاهرة الأسرة المثالية في الانسجام والتي لا تعرف في علاقاتها الداخلية سوى التغازل والتمادح البيني المثالي، هي ظاهرة نمطية مميزة لروايات واسيي الأعرج. الذي طالما قدم في روايته (خاصة تلك التي تلت سيدة المقام) أسراً وعائلات مثالية نمطية في تعاملها الراقي وانسجام كامل في علاقتها الداخلية الممنوعة من المشاكل ومعصومة من الصراع العائلي. وتتعمق هذه المثالية والعصمة والكمال في العلاقات الأسرية كلما اقتربنا من محيط البطل الروائي. وهذا ما تجسده حرفياً عائلة جيل في رواية سويت أمريكا لزينب الأعوج، بنفس النمطية المثالية، حيث يمنع عن بطلها وعن أسرته حدوث أي خلافات بينية بشرية، أو صراعات داخلية يومية، كأنما هي عائلات ملائكة لا تعرف المشاكل والصراعات العائلية إليها سبيلا، بل إنها هي المصدر الدائم لإشعاع السلام والأمان نحو المدينة، وأن كل ما تحياه هذه العائلة من أزمات ومشاكل في النص يأتيها كاعتداء من الخارج فقط، كفعل إرهابي أو عدواني أو استهداف من قوى الشر الخارجية. أما علاقاتها الداخلية فلا تعرف سوى المدح والغزل والتعاطف المثالي كأسرة منزهة ومتسامية على المشاكل الداخلية للأسر البشرية. وقد تسببت هذه المثالية والعصمة من الصراع العائلي والغارقة في التكلف والمجاملات البينية، الغارقة بهالة من عبارات الحب والمدح والإطراء المتبادل، في مضاعفة صبغة التصنع والهجنة النصية، والبعد عن مواضعات المجتمع الروائي والإنساني واقعياً وتخييلياً. مما جعل الموضوع بهذا الطرح المثالي، أقرب إلى موضوعات الخيال العلمي التي تقابل الخير المثالي بالشر المثالي، والفرق الوحيد أن هذا الرواية، ذات تأثيث واقعي وليس خيالباً إلا في نمط العلاقات ببن أفراد عائلة البطل. المعصومة من أبسط خطأ بشري.
– ويحسب فنياُ لهذا النص أن بناءه روائي بامتياز، ومكتمل الأركان في تأصيله ضمن هذا الجنس. ووضعه لحالات جدلية لصراع والحوار بين مواقع الشخصيات ومواقفها بشكل إنساني عميق وجذري، يجعل من تلك الذوات وخطاباتها. نماذج إنسانية تصنع تقبلها لدى أي قارئ، مهما كان مستواه، وفي متناول أية ترجمة لأية لغة.