یکون الغزل غرضاً من الأغراض الشعریة الذي بلغ ذروته في العصر الجاهلی. عندما نطالع دواوین الشعراء الجاهلیین نصل إلی هذه الحقیقة؛ لأن دواوین الشعراء أهم دلیل لضبط الوقانع والمفاهیم وأیضاً نجد الأغراض الأخری مثل الهجاء والمدح والرثاء والوصف وکانت هذه الأغراض تتصل بالغزل مثلاً الفخر الذی أنشده عنترة في معلقته لم یکن بعیداً عن روح الغزل، حیث نری الشاعر لم یکن یفتخر للفخر ولم یکن یتمدح للمتدح بل ملء قبله وذهنه علبة ودیارها وفي النهایة افتخر بقومه. فنستطیع أن نقول بأن الدافع الأصلی للشاعر یکون الغزل.
إن هذا البحث الذي يأتي على أساس منهج تحليلي توصيفي وبانتهاج منهج تاريخي يدور حول ظهور بعض المسائل من حيث البعد الزماني، يمثل خطوة باتجاه التعرف علي الغزل وانماطه في الجاهل
المقدمة:
إذا كان الحب عاطفة إنسانية يشترك بها الناس، فالبحث يقتضي تتبع طبيعة تعبير الشواعر عن هذه العاطفة، للوقوف على خصائص ذلك التعبير، فمن خلال تعبيرها، تتضح طبيعة نظرتها إلى الحب، وما إذا كانت تختلف عن نظرة الرجل.
منذ وعي الإنسان الحیاة والوجود، وأدرك منزلة المرأة وصلته بها، اکتشف فن التغزل بها، کتعبیر طبیعي عن أحاسیسه الشخصیة وعواطفه الإنسانیة. وعرف بالتالي أنها أهم موضوع وأبرزه، لأنها أعلق الفنون بالقلب والوجدان، وأقربها إلی فطریة الإنسان وطبیعته. وطالما أن المرأة تثیر الرجل بذاتها، وتزید من شجونه وشوقه، لأنوثتها وظرافتها، فإنّ الرجل لم یجد أفضل من الغزل وصلاً، کونه من جهة لغة العاطفة والمحبة التي تبعث الارتیاح والسعادة، ومصدر المشاعر القلبیة وأحاسیسها الجمیلة، التي یتوخی منها الإنسان والشاعر خاصة التقرب إلی المرأة المحبوبة، ومن جهة أخری مصدر المتناقضات الوجدانیة، وما یعتریه من شوق وحنان، ووصل وهجر، ووعد وأخلاق.
لقد شغلت المرأة وغزلها الآداب والفنون، واحتل الغزل حیّزاً کبیراً من اهتمام الشعراء. ولم یحفلوا بشيء احتفاءهم به، سواء کان صادراً من القلب حیث أفردت له القصائد والمقطوعات، أو کان تقلیداً نسج علی نهج أقرانه، وافتتحت به المطولات. وقد عادل ما کتب في هذا الفن، جمیع الأشعار التي قالها شعراء هذا العصر في بقیة الموضوعات. وربما عدّه بعضهم وسیلة یلجأ إلیها الشاعر لیشحذ قریحته، ویذکي شاعریته قبل أن ینفعل في موضوعه، أو بالأحری یتخذه إلهاماً روحیاً. كما يقول الدكتور حسن: «کیف تفعل إذا انقفل دونك الشعر؟ فقال: وکیف ینقفل الشعر دوني وعندي مفاتیحه» [حسن، حسین الحاج، أدب العرب في عصر الجاهلیة،1982م، ص141] من قول الغزل وذکر الأحباب. لکنّ هذا النهج سرعان ما أصبح تقلیداً عاماً لجمیع الشعراء، سواء بذکر هم للغزل مباشرة، أو بالحدیث عن الأدیار والأثار الباقیة.
من ینعم النظر في الغزل الجاهلي یجده –علی ائتلاف بواعثه وغایاته- مختلف الأشکال متعدّد الأنماط. وأبرز أنماطه أربعة: غزل المطالع المشوب بالوقوف علی الأطلال، والغزل العفیف المعنيّ بصور الجمال وسموّ الغریزة، والغزل الصریح المغموس في الشهوة، وغزل الکهول.
أجمع الباحثون على أن الغزل في العصر الجاهلي، قد إحتل الجزء الأكبر من تراثنا الأدبي، لأنهم لم يجدوا قصيدة، في أي غرض من الأغراض، إلا وفيها اتصال بالغزل، إن لم تكن مقتصرة عليه. لذلك نرى شكري فيصل يقول في كتابه “تطور الغزل بين الجاهلية والإسلام”: «إنّ الثروة الشعرية كالقطعة الذهبية ذات الوجهين: نقش الجاهليون على صفحتها الأولى عواطفهم التي ابتعثها فيهم الحب، وما يؤدي إليه هذا الحب من وصل أوهجر، ومن سعادة أو شقاء، ومن لذة أوغصة، وصوّروا هذه العواطف، وأفنوا في تصويرها ملكاتهم ومواهبهم.
أما الصفحة الأخرى، فقد جمعوا عليها أغراضهم الأخرى، ونثروا في أطرافهم كل الفنون والأغراض الثانية، كائنة ما كانت هذه الفنون والأغراض». [شكري، فيصل، تطور الغزل بین الجاهلیة والإسلام، لا تا، ص180] والغزل من أهم الأغراض وألصقها بالغریزة، أنماط الغزل في الجاهلیة (غزل المطالع، غزل المحاسن والمفاتن، الغزل الماجن، غزل الکهول).
أدرک شعراؤنا في العصر الجاهلي بالحسّ والحدس الصادقین، فضل الغزل علی الأغراض الأخری، فجعلوه مفتتح القصائد لیلفتوا إلیهم الأسماع، ولینفذوا من الأسماع إلی القلوب بلا عناء ولا استئنذان. وربطوا الطلل بالمحبوبة، فکان هذا الربط أصدق الأدلة علی وفائهم للوطن والسکن، وعلی جعلهم المرأة أقوی الوشائج التي تشدّهم إلی منابتهم في الحلّ والترحال.
مكانة المرأة في العرب والتغزّل بها
إذا کانت شعوب العالم التي عرفت الاستقرار قد ترجمت هذه الغریزة بصورة مرسومة علی ألواح، وبتماثیل منحوتة من حجارة، وبمسرحیات یحاکي فیها الممثّلون العشّاق، وینقل فیها الخلف تجارب السّلف. فإنّ العرب البُداة المترحلین بین جنبات الصحراء جمعوا الفنون کلّها في فنّ واحد وهو الشعر. یکون موضوع الغزل فی العصر الجاهلي المرأة التي کانت شیناً هاما في حیاة البادیة أثرت هذه البینة في طبع الشعراء وهم تحدثوا عن الوشاة والغزل والحب والفراق والطیف ولأطلال. یکون مفهوم الجمال متمثلاً بالمرأة مترکزاً فیها. ونجد أن الشاعر الجاهلي یصف من صاحبته شعرها وإشراق وجهها وحور عینیها وطول جیدها واعتدال قامتها وطیف رائحتها والشعراء الذین یسرف في ذلك هذا الإسراف نستطیع أن نقول أبیات النابغة أو أبیات امریءالقیس. [فیصل، شکري، تطور الغزل بین الجاهلیة والإسلام، لا تا، ص179]
یبین مکانة المرأة عند الشاعر الجاهلي، الذي أرضی نزعته الوجدانیة والغنیة بحدیثه عنها مباشرة وتغزله بها، أو غیر مباشرة عندما ذکر الدیار، وتکلم علی الأثار وما تبعثه في النفس من ألم وشوق. وباللطبع فقد أفاض الشاعر في تصویر المرأة المترفة –الصریحة والحرة- التي تعیش حیاة رغدة وناعمة، تفرغ لنفسها، وتعتني بجمالها. واعتبرها تمثال جمال، وأیة حسن وبهاء، ناضجة ومسؤولة عن حیاتها، ومالکة زمام أمورها. مثّلت المرأة في حیاة العربي بعامة والبدوي بخاصة، عنصر الاستقرار والاطمئنان، وکانت منذ بدایة الخلق ولا تزال أحبّ شيء إلی النفس البشریة. أو لیس خباؤها المأوی الذي یلجأ إلیه الوالهان، یبثّه حنانه وأمانیه وصدرها المکان الدافیء الذي یشعر المحبة والسعادة.
الحب للمرأة في الأدب عامة وفي الأدب العرب خاصة يتبلور في الأشعار من الجاهلي حتى الآن. والحب والعشق والنسيب والغزل لدى البدو وأهل القرى أوضح وأقوى وأشد تمكينا في القلب من أهل المدن بسبب عدم تلوّث النفس بجفاء المدينة وغربتها. وكذلك لتوافر مساحة الحرية الواسعة في العلاقة الظاهرية والاتصال بين الرجل والمرأة في المجتمع البدوي والقروي كونهم جميعا أبناء عشيرة واحدة أوقبيلة يتعارفون فيما بينهم وأكثر إطمئنانا للحب العذري.
والغزل هو ضرب من ضروب الخِفّة العاطفية لعوامل جنسية واستعداد نفسي فطري موروث فوق السيطرة لدى الذكر أو الأنثى على حد سواء وليس للبيئة دخل فيه فقد تجده في الأمِّي والمتعلم، الجاهل والمثقف، البدوي والبدوية، القروي والقروية، الحضري والحضرية، المراهق والكهل والعجوز.وأما طرائق الغزل مختلفة باختلاف البيئة والثقافة والجنس و….
والبدوي إذا تملكه الهوى مرض واصابته الحمى ولزم الفراش فيعرف أهله أنه عاشق وقد يصل به الأمر إلى الجنون أو الموت. وكذلك تصاب الفتاة الكاعب والمرأة البدوية بالأرق والذهول وينحل جسدها وتذبل وترفض الأكل وربما تموت بسبب الحب. على العكس من إنسان الحَضَـر بوجه عام حيث يكون أقدر على التماسك وتغليب العقل والموازنة بين الممكن والمستحيل والمنفعة المتبادلة متأثرا بمعطيات وقناعات الحياة المادية . فتجعله لا يمنح الحب كل قلبه ومشاعره.
وتكون للواقعية دور كبير في إنشاء حوائط الصد العاطفية لديه. وإذا رأينا بعض الشعراء يستهلون قصائدهم بالخمرة فإنهم لا يلبثون أن يعودوا إلى الغزل ليبثوا المرأة مشاعرهم وما يعانونه من عذاب الهجر وألم الفراق بكل صدق وأمانة، وهذا ما حمل شكري فيصل على القول «إن الأغراض الأخرى التي عرض لها الشعراء الجاهليون لم تكن، في كثير من الأحيان، مقصودا إليها قصدا، ولا متعمدة تعمدا. كانت روح الحب وعواطف الهوى هي التي تبتعثها وهي التي تكمن وراءها». [فیصل، شکري، تطور الغزل بین الجاهلیة والإسلام، لا تا، ص277]
ونظرا لجفاف الصحراء وضعف خيال الشاعر جاء غزلهم وصفا للجمال الخارجي: كجمال الوجه والجسم دون التعرض إلى الجمال النفسي والخلقي وكانوا يتفننون في رسم صورة هذا الجمال في العين وسائر الحواس دون أن يهتموا بما يتركه هذا الجمال من أثر في نفوسهم. لذلك بدا غزلهم غارقا في المادية النابعة من صميم الطبيعة الجاهلية. وقد علل يوسف حسين بكار هذه المزية بقوله: «والذي أراه أن أكثر الشعراء الجاهليين لم تتح لهم الفرص الكافية للعيش مع من يتغزلون فيهن أو التعرف عليهن من كثب وإنما كانت لقاءات عابرة ونظرات من بعيد وإلا لما اكتفوا بالأوصاف الخارجية للمرأة». [بکار، یوسف حسین، اتجاهات الغزل فی القرن الثانی الهجری، لا تا، ص183]
لذلك حفلت بها مختلف أنواع القصائد العربیة في الجاهلیة، الغزلیة والمدحیة، الفخریة والهجائیة وغیرها… وقد أحال بعض الکتاب، تعدیة الموضوعات في القصیدة الواحدة، إلی واقع الحیاة الجاهلیة وأغراضها المتنوعة من جهة، وإلی قدرة الشاعر وبراعته من جهة أخری، دلیلهم في ذلك معلقات کبار شعراء العصر الجاهلي، ذات الموضوعات المتعددة، التي اعتبرت نماذج أساسیة للشعر الجاهلي. ونتاج هذا الحب هو الغزل الذي إنعكس فيه كمال الحب وجمالها.
الغزل حسن المطلع في الأشعار الجاهلية
قال ابن قتیبة: «سمعت بعض أهل الأدب یذکر أنّ مقصّد القصید إنّما إبتدأ فیه بذکر الدیار والدّمن والآثار، فبکی وشکا، وخاطب الربع، واستوقف الرفیق لیجعل ذلك سبباً لذکر أهلها الظاعنین. إذا کانت نازلة العمد في الحلول والظعن علی خلاف ما علیه نازلة المدر لانتاجهم الکلأ، وانتقالهم من ماء إلی ماء، وتتبعهم مساقط الغیث حیث کان. ثم وصل ذلك بالنسیب، فشکا شدة الشوق، وألم الوجد والفراق، وفرط الصبابة، لیمیل نحوه القلوب. ویصرف إلیه الوجوه، ولیستدعي به إصغاء الأسماع إلیه». [الدينوري، ابن قتيبة، الشعر والشعراء، 1423هـ، ص254]
«یقوم أکثر الغزل الجاهلي علی الوصف والتشبیب؛ وأقله ما جاء قصصیاً یحمل ذکریات المغامرات الغرامیة یتخللها الحوار. ولیس الغزل عند شعراء الجاهلیین فنا مستقلاً برأسه، وإنما هو غرض من الأغراض المتعددة التي تشتمل علیها قصیدتهم، ولکن له حق الصدارة یستهل به ثم ینتهي منه الی غیره. ویکون الغزل في العصر الجاهلی بصورة البساطة والعبد عن التکلف وعلی رغم إکثار الشعراء في الغزل واشتهار هم لم یکن الغزل فنا مستقلا». [البستاني، بطرس، أدباء العرب في الجاهلیة وصدر الإسلام، 1989م، ص 65]
والغزل الذي نری في شعر الشعراء امتزج بالأغراض الأخری وفي مطلع القصائد الغرض الأول والأساسي یکون الغزل وفي النهایة نصل إلی الأغراض الأخری من الفخر والمدح والوصف أوالهجا وفقد جعل السبب في افتتاحیات القصائد الجاهلیة بالغزل، استمالة نفوس الناس وحسن إصغانهم. یکون موضوع الغزل فی العصر الجاهلي المرأة التي کانت شیناً هاما في حیاة البادیة أثرت هذه البینة في طبع الشعراء وهم تحدثوا عن الوشاة والغزل والحب والفراق والطیف ولأطلال. یکون مفهوم الجمال متمثلاً بالمرأة مترکزاً فیها. ونجد أن الشاعر الجاهلي یصف من صاحبته شعرها وإشراق وجهها وحور عینیها وطول جیدها واعتدال قامتها وطیف رائحتها.
موضوعات الغزل في العصر الجاهلي
تناول شعراء الجاهلیة موضوعات الحیاة العربیة، الغنائیة منها والاجتماعیة، وتحدثوا عن مظاهر هذا العصر ومعارفه من أخلاق وعادات ودیانات، ونظموا فنوناً فيالنسیب والفخر والمدح والهجاء والرثاء والوصف والحکمة … وأفاضوا في هذه الأغراض، ونوّعوا في صورها ومضامینها، وتمکنوا من أن یسجلوا ما وقع تحت حواسهم، وجال فيخواطرهم مما طبعته بیئتهم البدویة والحضریة في أنفسهم. ولعل موضوع الغزل من أهم الفنون الأدبیة، التي حلفت به مکتبة شعراء العربیة، الذین شغفوا به، وعبّروا عن مشاعرهم الوجدانیة، وعواطفهم الإنسانیة.[ معاليقي، منذر، أدب عرب الجاهلية والإسلام، 2012م، ص95]
انواع الغزل في العصر الجاهلي
يمكننا تصنيف الغزل الجاهلي في اتجاهين متناقضين؛ أولهما الاتجاه الحسي الفاحش أوالغزل الصريح وزعيمه امرؤالقيس صاحب المغامرات الليلية مع الحب إلى البنات والمرضعات؛ وثانيهما الاتجاه الحسي العفيف او الغزل العفيف الذي اشتهر في العصر الأموي وكانت نواته في الجاهلية. وكثيرون هم زعماء هذا الاتجاه وقد اقترنت أسماؤهم بأسماء محبوباتهم مثل: المرقش الأكبر وأسماء، والمرقش الأصغر وفاطمة، وعروة بن حزام وعفراء، وعنترة بن شداد وعبلة.
«یقوم أکثر الغزل الجاهلي علی الوصف والتشبیب؛ وأقله ما جاء قصصیاً یحمل ذکریات المغامرات الغرامیة یتخللها الحوار. ولیس الغزل عند شعراء الجاهلیین فنا مستقلاً برأسه، وإنما هو غرض من الأغراض المتعددة التي تشتمل علیها قصیدتهم، ولکن له حق الصدارة یستهل به ثم ینتهي منه الی غیره». [البستاني، بطرس، أدباء العرب في الجاهلیة وصدر الإسلام، 1989م، ص 65]
وإذا كان بعض الشعراء يعبرون عن لوعتهم وحبهم في أبيات تصور خلجات النفس وتأثرها بالحب فإن عدداً من شعراء الجاهلية يتعدون ذلك إلى وصف المرأة وصفاً كاملاً فيصفون وجهها وعينيها وقوامها ورقبتها وأسنانها وغير ذلك، ومن هؤلاء الأعشى وإمرؤالقيس بل إِن إمرأالقيس لا يتورع عن ذكر ما يجري بينه وبين المرأة. وغرض الغزل وإن كان يستدعي أسلوباً ليناً رقيقاً إلا أننا لانجد ذلك إِلا عند القليل من الشعراء الجاهليين. أما معظم شعراء الغزل في الجاهلية فأسلوبهم يتصف بالقوة والمتانة ولا يختلف عن أسلوب المدح أو غيره من الأغراض.
بواعث الغزل في الجاهلي
لقد تغزّل الإنسان لیعبر عن عاطفة الحب التي یکنّها للمرأة، وعن إعجابه بجمالها لیصور ما یعتلج به قلبه من أشواق ورغبات وما یعتریه من صبابة ومشاعر، لأن حب المرأة وجمالها، هما من بواعث الغزل وثمرة له، یندفع إلیه الإنسان بمیله الفني للتعبیر عما في نفسه من عواطف جیاشة، وانفعالات تصف حسنها؛ جسداً ونفساً. مثله کمثل الرسام الذي ینحت بإزمیله وألوانه الصورة، التي تجسّد أحساسیسه العاطفیة، أو الموسیقي الذي یحیل عاطفته إلی لحن مسموع، ونغم طروب، یأسر القلوب، ویذیب الأفئدة.
هذا الغزل لم یکن منذ بدایة الخلق وحتی یومنا هذا، حکراً علی فئة من الناس، أو طبقة معینة، بل هو علی العکس عرفه جمیعه البشر في جمیع أحوالهم وظروفهم، البدائیة منها أو المتخلّفة والمتقدمة، وزاوله جمیع الشعراء، من مختلف فئات المجتمع وطبقاته، کالأمراء أمثال امریء القیس، والحکماء کزهیر بن أبي سلمی، والأبطال کعنترة بن شداد، والمجان کالأعشی، والصعالیک کعروة بن الورد. فتّکوا معانیه، وتفنّنوا في ابتکار صوره ورموزه، علی الرغم من تقلید بعضهم ومحاکاتهم لأقوال الآخرین.[ معاليقي، منذر، أدب عرب الجاهلية، 2012م، ص96]
«یکون الغزل غرضاً من الأغراض الشعریة الذي بلغ ذروته في العصر الجاهلی. عندما نطالع دواوین الشعراء الجاهلیین نصل إلی هذه الحقیقة؛ لأن دواوین الشعراء أهم دلیل لضبط الوقانع والمفاهیم وأیضاً نجد الأغراض الأخری مثل الهجاء والمدح والرثاء والوصف وکانت هذه الأغراض تتصل بالغزل مثلاً الفخر الذی أنشده عنترة في معلقته لم یکن بعیداً عن روح الغزل، حیث نری الشاعر لم یکن یفتخر للفخر ولم یکن یتمدح للمتدح بل ملء قبله وذهنه علبة ودیارها وفي النهایة افتخر بقومه. فنستطیع أن نقول بأن الدافع الأصلی للشاعر یکون الغزل. ویکون الغزل في العصر الجاهلی بصورة البساطة والعبد عن التکلف وعلی رغم إکثار الشعراء في الغزل واشتهار هم لم یکن الغزل فنا مستقلا». [حسن، حسین الحاج ، أدب العرب في عصر الجاهلیة، 1982م، ص 151]
والغزل الذي نری في شعر الشعراء امتزج بالأغراض الأخری وفي مطلع القصائد الغرض الأول والأساسي یکون الغزل وفي النهایة نصل إلی الأغراض الأخری من الفخر والمدح والوصف أو الهجا وفقد جعل السبب في افتتاحیات القصائد الجاهلیة بالغزل، استمالة نفوس الناس وحسن إصغانهم.
«ویبدو أن معظم المحبین لاقوا معاناة ومرارة من قبل مجتمعاتهم، التي لسبب أو آخر، حالت دون المحبین وفرقت بینهم، فاضطهدوا وعُذّبوا، ولم یقبلوا بترکه وفك أواصره. فهذا مالك بن الصمصامة لا یفرّط بحبه، خوفاً من شقیق المحبوبة الذي أقسم أن یقتله إن تعرّض لها أو زارها». [معاليقي، منذر،أدب عرب الجاهلية، 2012م، ص97]
المراة الجاهلية والغزل
والواقع أن المجتمع الجاهلي عرف هذا القصاص حین رفض أهل المحبوبة زواجها ممن تغزل بها. لأن العرب غالباً «کانت لا تنکح الرجل امرأة شبب بها قبل خطبّه» [الإصبهاني، الأغاني، 1916م، ج ،20: ص181] فعنترة مثلاً حُرم زواج عبلة لأنه شبّب بها، وتغزّل بحبها. وهو لا یستطیع معاشرة محبوبته إذا لم یکن، إلی حد ما، علی وفاق مع قبیلتها. وقد تنقطع علاقة الشاعر مع المحبوبة ویکون الفصل بینهما، بسبب خصام العشیرتین، فتختفي شخصیة المحبوبة خلف إرادة القبیلة، وفي حال تجارب الشاعر مع تلك القبیلة، یتسع قلبه لیعشق أبکار الحي کافة. وهذا ما نراه المرقّش الأکبر في قول [ج. ل. فادیة، الغزل عند العرب، 1979م ،ص54]:
وفِي الْحَيّ أَبْکارٌ سَبِینَ فُؤادَهُ
عُلالةَ مَا زَوَّدْنَ وَالحُبُّ شاعِفِي
دَقاقُ الحُضورِ لَمْ تُعَفّر قُرونُها
لشجوٍ ولم یَحْضُرنّ حُمَّی المَزالِفِ
لکنّ هذا لا یمنع بعض العرب من قبول زواج من تحدّث عن صبوته، أمثال دُرید بن الصَمّة الذي تشبّب بتماضر –الخنساء- ولم یرفض ذووها طلبه، بسبب تغزله بها، بل علی العکس فإنّ أباها وأخاها وافقا علی خطبتها ورحّبا به، لکنّ الفتاة رفضته لکبر سنه ولم ترض به زوجاً [الحوفي، أحمد محمد، الغزل في العصر الجاهلي، 1972م، ص19]:
حَیّوا تُماضِرَ وَأَزْمَعُوا صَحْبِي
وَقِفَوا فَإِنّ وقوفَکُمْ حَسْبِي…
أَخْناسُ قَدْ هَامَ الفُؤادُ بِکُمْ
وَاَعتَادُهُ داءٌ مِن الْحَبِّ
ویلیه زهیر بن أبي سلمی وامرؤ القیس اللذان خرجا علی المألوف، عندما تغزلا بزوجتیهما، کأنهما یحاکیان المعشوقة. فزهیر تغزل بزوجته أم أوفی، وبدأ معلقته بها قائلاً [السقّا، مصطفی، مختار الشعر الجاهلي، لا تا، ص 227] :
أَمِنْ أُمِّ أَوْفَی دِمْنَةٌ لَمْ تَکَلَّمِ
بِحَوْمانَةِ الدُّرّاجِ فَالمُتثلّمِ
ویلیه امرؤ القیس في تشبیبه بزوجته أم جندب فیقول [السقّا، مصطفی، مختار الشعر الجاهلي، لا تا، ص42] :
خَلیلَيَّ مُرّا بِي عَلی أمُّ جَنْدَبِ
نَقضّ لَباناتِ الفُؤادِ الْمُعَذَّبِ
أَلَمْ تَرْیانِي کُلّمَا جِئْتُ طارِقاً
وَجَدْتُ بِها طَیّباً وَإِنْ لَمْ تَطَیّبِ
نعتقد أن الشاعر الجاهلي في حدیثه عن المرأة لم یکن یهدف في بدایة الأمر، إلی کشف مفاتنها، تعببراً عن رغبة في إظهار المحاسن الجسدیة، نظراً لخاصیة المجتمع الجاهلي وحیاته البدویة، التي أوجبت عند غالبیة القبائل الحرص علی کرامة المرأة وسمعتها، والتمنع عن التحرش بها. لکن التطور الذي طرأ علی حیاة البادیة، من إتصال بعض الشعراء بالدول المقیمة، علی أطراف الجزیرة العربیة –بلاد الروم والفرس- ومشاهدتهم جمال المرأة -القیان والجواري– في حوانیت الغناء ومجالس اللهو والخمر، أو في بلاط الأمراء، جعلهم یتعرفون إلی حیاة جدیدة، ویسجّلون بالتالي انطباعاتهم الشعریة عما یبعثه جمال المرأة من متعة ولذة ویتغزلون بأوصافها في صور واضحة. ویبدو أن صورة المرأة، ارتبطت عند شعراء الجاهلیة باتجاهین أو مقدمتین:
في الاتجاه الأول یتحدث عن الدیار الباقیة والآثار التي خلفتها الحبیبة، من دون أن یعرض لها ویشبب بها، محدداً في الوقت نفسه أسماء المنازل ورحلة الظعائن، کنسیب زهیر بن أبي سلمی في معلقته قبل أن یصل إلی غرضه الأصیل، وهو مدح الحارث بن عوف وهرم بن سنان علی صنیعهما بإیقاف الحرب وحقن الدماء، والتغني بالسلام. [معاليقي، منذر، أدب عرب الجاهلية، 2012م، صص101-102] فالشاعر فی حدیثه یفضل الحدیث عن رحلته، ویتابع خطاها المحفوفة بالخطر، بسبب الحرب المشتعلة آنذاك بین عبس وذبیان، قبل أن یصل إلی هدفه الرئیس في نشر السلام وإقامة الصلح. هذا الإتجاه استفاد منه الحارث بن حلزة في معلقته السیاسیة، فبیّن أن غرضه من التحدث عنه لم یکن تشبباً أو تغزلًا، بقدر ما کان سیاسیاً، برمز إلی علاقة المناذرة الجیدة مع قبائل عرب الشمال، بدلیل أن هنداً –لقب أطلق لقوم الشاعر. [زیان، بهي الدین، الشعر الجاهلي: تطوره وخصائصه الفنیة، 1982م، ص124]
والإتجاه الثاني مثّله طرفة بن العبد وعمرو بن کلثوم، والأعشی وزعیمه امرؤ القیس الذي أبداع في تجسید الغزل المادي، وتفنن في أوصاف جمال اللمحبوبة، حتی قیل عنه، أنه تعهّر في شعره. [معاليقي، منذر، أدب عرب الجاهلية، 2012م، صص101-102]
الغزل والجوانب النفسية والأخلاقية
تناول الشاعر الجاهلي الجوانب النفسية والأخلاقية عند المرأة وتغزّل بالقیم الإجتماعیة العالیة، والصفات الخلقیة، التي لم تخالطها قیم الحضارة الأجنبیة ومفاهیمها الجدیدة، واستحسن العفة والمنعة والحیاء والخفر، وأحبها عزیزة کریمة تصون نفسها من عادیات الزمان، وتحتشم بالرصانة والإتزان. وأکد أن الحدیث عن الجوانب الخلقیة والجمال النفسي، لا یقل أثراً في نفس الرجل، عن جمال الجسد، بل لعلّه أعمق منه وأقوی اجتذاباً. فالسلیك بن السلکة یری أن المرأة العفیفة والممتنعة، هي أکثر تفضیلاً في نظر الرجل، وأن القلب عادة یعاف المرأة المتبذلة، التي تجود بوصلها، فلنستمع إلیه وهو یتغزل بالمرأة المصونة، التي تحمي نفسها وذویها من العار [الأصبهاني، الأغاني، 1916م، ج 18: ص 135 ]:
مِنْ الخفزات لم تفضح أخاها
ولــــــم تــــــرفع لوالدها شنارا
یعافُ وصالَ ذاتِ البذلِ قلبي
ویتّبـــعُ المُمَنّعةَ الـــــنَوّار
والواقع أن حیاء المرأة وعفتها، من متممات المجتمع الجاهلي، الذي صان الکرامة، وعرف النخوة والمروءة. وکذلك الأعشی الذي شبّب بجمال المرأة ومحاسنها المادیة، نراه لا یخرج کلیّة عن مفاهیم مجتمعه، فتنثال قیمة عفویة غیر مصطنعة، تعبّر عن فطریة العصر الذي لم تفسده زخارف الحیاة المدنیة. ویراها قریبة للقلب غیر متکلّفة، یلذ معشرها وسماع أحادیثها، لا تعرف التواء أوکرها ونمیمة، کما لاتتسقط أخبار الناس، وتتسبّب في افتعال أزمات وفتن. یقول [الأعشی، دیوان، لا تا، ص 144]:
لَیستْ کَمَنْ یَکْرَة الجِیرانُ طلْعَتَها
وَلا ترَاها لِسِرّ الجَار تَخْتَتِلُ
والنابغة الذي یُشغل بأمور جلیلة فی حیاته، قلّ شعر الغزل في قصیده. لکنه حاکی أقرانه الشعراء في الحدیث عن المرأة في مطالع القصیدة، وامتاز شعره برقة العبارة ورصانة اللفظة ودقة التشبیهات الطریفة، الجدیدة والمستملحة. یقول [الدسوقي، عمر، النابغة الذبیاني، 1966م، ص237]:
بَیِضاءُ کالشّمْسِ وافَتْ یَومَ أسْعَدها
لَمْ تُؤذِ أهلاً ولم تُفحش علی جار…
أقولُ وَالنّجْمُ قَدْ مَالَتْ أواخِرُهُ
إلی المَغیبِ تُبیتُ نظرةً حارِ
أَلَمْحَةٌ مِنْ سَنا بَرْقٍ رَأی بَصَري
أمْ وَجْهُ نعمٍ بَدا لِي، أمْ سَنَا ناَرِ؟
بَلْ وَجُهُ نُعمٍ بَدا، وَالَّلیْلُ مُعْتَکرٌ
فَلاحَ مِنْ بَیْنِ أَثْوابٍ وَأَسْتارِ
وفي هذا المقام تغزل فرسان العرب، الذین قارعوا الأعداء وقاتلوهم، ذوداً عن کرامة قومهم، من أجل نیل رضی الحبیبة ، وطلب ودّها. وقد جاء کلامهم في شعر صادق أحاط بمعاني المروءة والشرف، ومُثل قيم المجتمع العليا.
وربط بعض الباحثين بين مقدمة القصيدة والحياة الاجتماعية لعرب الجاهلية. فعزالدين إسماعيل يفسّر وقفة الشاعر الجاهلي على الأطلال، بأنها كانت تعبيراً عن أزمة الإنسان في ذلك العصر، وعن موقفه من الكون، وخوفه من المجهول، أكثر مما كانت بكاءً على حبيبة غائبة أو سعادة زائلة. ويعيد ذلك إلى شعور الجاهليين بالقلق والحيرة وعدم الاستقرار. [إسماعيل، عزالدين، مجلة الشعر المصرية، النسيب في مقدمة القصيدة الجاهلية في ضوء التفسير النفسي، 1969م، ص3-4] ويرى محمد جابر الحيني أن مقدمة الطليلة كانت وثيقة الصلة في نشأتها بحياة العرب الاجتماعية في الجاهلية. [الحيني، محمد جابر، أنوار في دراسات وأبحاث، 1963م، ص43] لذلك فهي تعبّر بصدق عن واقعهم ومعاناتهم.
لقد کانت الأطلال –علی ما فیها من وحشة وکآبة– المدخل الذي يفضي منه الشاعر الجاهلي إلی الغزل لا رتباطها بأحبّته. ولمّا کان الطلل باب الغزل فقد کان الشاعر یحیّیه، وهو في حقیقة الأمر لا یحیّي إلاّ حبیبته، ویدعو له بالسلامة من الآفات، ولا یرید السلامة إلاّ لمن کانت تعمره.
وإذا کانت إنسانیة العاطفة المحكّ الذي تضرب علیه العواطف لیعرف صادقها من الکاذب فإنّ میل الرجل إلی المرأة من أقوی العواطف الإنسانیة، وأوسعها شمولاً، وأعلقها بالنفوس، وألصقها بالغرائز. یحسُّها شباب الشعراء وکهولهم، لکنّها في الشباب تزاداد عنفاً، وفي الکهولة تخبو ولا تنطفئ.
قال ابن قتیبة: «التشبیب قریب من النفوس، لائط بالقلوب، لما قد جعل الله في ترکیب العباد من محبة الغزل، وإلف النساء، فلا یکاد أحدٌ یخلو من أن یکون متعلّقاً منه بسبب، وضارباً فیه بسهم حلال». [الدينوري، ابن قتيبة، الشعر والشعراء،1423هـ، ص254]
النتيجة:
ومهما يكن من أمر فإن أهم ما ينطوي عليه الغزل الجاهلي هو تكرار المعاني وصدق العاطفة وإنسانيتها. فإن الشاعر عندما يذكر حبيبته ويبثها عواطفه، يشعر وكأن شعره تعبير عن عواطفنا رغم بعد المسافة الزمنية بيننا وبينه وذلك لما تحوي خلجات قلبه من شحنات عاطفية لا تعبر عن فرد أو جماعة في بيئة معينة وإنما تعبر عن قاسم مشترك لعواطف الناس أجمعين وإن تكلم الشاعر عن أمكنة معينة ومحددة بأسمائها ونباتها وحيوانها. أضف إلى ذلك المعاني البسيطة المأخوذة من الواقع الحسي القريب وما خبره الشاعر في حياته الاجتماعية، مصوغة بأسلوب جزل قوي وموجز، تنقصه الهندسة الفنية.