شاركها
أولاً- التشكيل المورفولجي وخطية السرد.
الروشي لمحمد كمون، نص من 191، صفحة من القطع المتوسط، نص لا يتشكل من فصول وإنما من ثلاثة تواريخ، [شتاء 2015- صيف 2018- شتاء 2019]. لا تمثل فصولاً بل سيرورة زمنية، وكل تاريخ يشتمل ما دار فيه من أحداث. بنفس صوت الراوي العليم، مع تدخلات حوارية متقطعة. في نسق خطي أفقى لا تعرجات ولا انكسارات كبرى فيه. بل هناك عملية تعميق لنفس الإشكالية (متقاعد من الجيش يتعرض لمحنة عاطفية، يدفع ثمنها بالضرب والطرد من العاصمة ثم يعود للثأر لنفسه ولحبه). أي إن السرد الخطي يبدأ من الاعتداء على البطل وإبعاده عن حبيبته، وينتهي بثأره لنفسه لها على طريقة شبيهة إلى حد كبير بسيناريوهات أفلام التسعيانيات الفنتازية التي قدمت لنا نجوم من أمثال (س. ستيلوني/ ج.ك. فاندام/ أرنولد شوارزينيغر، وأنطونيو بانديراس.. وغيرهم).
ومن حيث الطابع الخطي للسرد، وانطلاقه من مشكلة واحدة في البداية، وحلها في النهاية (مشكلة لم يجري تعقيدها، بل يجري حلها فقط). هو ما جعل من النص بأسره حكاية مطولة بطريقة الراوي العليم، تم سرده بطريقة تسلسلية، دون أي تقسيم ولا فصول ولا أبواب، فاتخذ النص بناءً قصصياً، جعله أقرب في تجنيسه الدقيق إلى الحكاية المطولة منه إلى فن القصة، نظراً لكونه سيل خطي من الحكي المستمر من الألف إلى الياء، يسوقها حكواتي ينفرد بسرد الأحداث وقليلاً ما تم منح الحوار للشخصيات لتنويع الحكي. والأرجح أن هذا النص قد تمرد عن إرادة كاتبه الذي أراده رواية، لكن هيمنة الحكاية أزاحت جميع أسس السرد الروائي فيه. فلا هو قصة هرمية موحدة العقدة والبداية والنهاية (فيصنف قصة مطولة)، ولا هو رواية تتعدد فيها العقد وتتطور حول الشخصية الرئيسة عبر فصول تتناوب على تنويع السرد، والتعقيد وتطور الأحداث وحبكها حول مدار شخصياتها.
ثانياً – الأحداث والشخصيات
1-الشخصيات:
أبرزالشخصيات المحورية التي ترافق القارئ طوال هذا النص: أخمسة:
-البطل رمضان= أربعيني وعسكري متقاعد من قوات الصاعقة،
– عيسى لاجودان (المونشو)= صديق البطل رمضان، ووذراعه الأيمن زميله السابق في الخدمة العسكرية ومدير حالي لشركة حماية أمنية خاصة. يملكها نرال متقاعد.
– سي الطاهر= رجل أعمال خمسيني، وصاحب مقاولات تموين، ومالك بار الروشي،
– حياة- أرملة كمال (سائق لدى سي الطاهر)، عشيقة رمضان، وزوجة سي الطاهر لاحقاً.
– مزيان وحميد/ نادلان في بار الروشي، وعيينان من عيون سي الطاهر في كل ما يجول بمرتادي بار الروشي.
بينما نجد شخصيات هامشية ساهمت في تطوير الأحداث ومرافقة المغامرة منها: الطبيبة سعاد عيشقة عيسى لاجودان. وابنة سي الطاهر (أو النسخة الأنثوية منه، وحافظة أسرار مؤسساته).
الجنرال المتقاعد: بشير التلمساني صاحب الشركة الأمنية التي يسيرها (عيسى لاجودان- المونشو)
والمحافظ المرزوقي.
من هذه الشخصيات ثلاثة فقط حظيت بتأثيث داخلي (نفسي وعاطفي)، أدخلنا إلى عوالمها الباطنية، وهي البطل رمضان، وعشيقته حياة، وعدوهما سي الطاهر. أما عيسى (المونشو) فكان شخصية متحفظة جداً كأنه صندوق أسرار. لم يفتح، أما باقي الشخصيات فكانت مجرد ديكور لتلك الشخصيات الثلاثة المؤثثة داخلياً
2-الأحداث:
في هذا النص هناك فقط ثلاثة ِأحداث محورية أولها [العملية الإرهابية التي تقاعد على إثرها البطل رمضان من القوات الخاصة] وثانيها: [ تعرض البطل للضرب والطرد من العاصمة على يد غريمه سي الطاهر السطمبوليٍ]، وثالثها: [ثأر البطل من سبب نكبته ونكبة البلد: سي الطاهر السطمبولي في نهاية النص وبداية الحراك الشعبي]. وكانت هذه النقاط متتالية كما وردت هنا، احترمت الترتيب الزمني الذي كان (2015- 2018- 2019)، دون أي اشتغال على التركيب الفني بل ترك الزمن يتطور مع الأحداث خطياً: الأول بالأول، ولم يكن الرجوع إلى الخلف سوى عبر الاسترجاع بالتذكر. في الحوارات الباطنية والخارجية، أي لم يتغير نسق السرد، ولم يتم الاشتغال على التركيب الدرامي للأحداث، بل تم احترام خطها الزمني، ولم يكن في النص تعدد للعقد على مستوى الوظائف ولا الأفعال ولا الأحداث الخاصة بكل فصل، بل إن السرد خطي جعل النص قطعة مروية من الحياة، وأزال عنها كل الآليات الروائية الممكنة (وخاصة التعقيد الغائب الذي حلت بدله الحلول السحرية التي منعت العقدة من الظهور، وغياب التركيب درامي- بفعل الإفراط في الخطي مما عطل تفاعل فضائي الزمن والمكان- الكرونوتوب-) وهي عناصر سردية واضحة الغياب، كان من الممكن أن تدرج هذا العمل في خانة هذا الجنس السردي. لكن بغيابها، فقد أبقاه الكاتب في خانة الحكي لمشاهد كرونولوجية من واقع الحياة. وهذا بفعل قوة التركيز على الحكي لا على البناء الفني الروائي الغائب.
ثالثاً- ثيمة النص (مدار الموضوع الرئيس)
تحكي الرواية عن قصة رمضان أحد متقاعدي فرقة الصاعقة التي نجا فيها من كمين إرهابي في التسعينيات، برصاصة اخترقت بطنه، فتقاعد مسبقاً، وسكن العاصمة، ولازم بار الروشي الذي يملكه أحد أباطرة الفساد ومافيا النظام السياسي، ورجل الأعمال:” سي الطاهر”. الذي نفى البطل رمضان من العاصمة، بعد معاشرة هذا الأخير للفاتنة “حياة” محظية سي الطاهر ربان حانة الروشي، فغادر رمضان العاصمة بعد أن أبرحه رجال سي الطاهر ضرباً في شقته، وهددوه بقتل معشوقته التي سلب لبها، فأصرت على مرافقته لبيته لتقضي عنده ليلة من المتعة، لكن عيون الطاهر لاحقت مخدعهما، وقبض على رمضان، وأشبع ضرباً وتنكيلاً ليجد نفسه مجبراً على مغادرة العاصمة خوفاً على المعشوقة حياة، التي تركها تواجه قدرها مع سي الطاهر، وغادر إلى وهران لينتشله صديقه القديم في فرقة الصاعقة: “عيسى المونشو/ أو عيسى لاجودان، كما يحلو له تسميته”، هذا الأخير الدي صار مديراً لمؤسسة حماية أمنية خاصة يملكها أحد الجنرالات، الذي كان يشتغل عيسى المونشو عنده كسائق خاص، قبل أن يعمل في ملهى الجنينة بعيون الترك. وها هو يستقبل صديقه القديم (البطل رمضان) الذي لجأ إليه منفياً من العاصمة، مثقلاً بالهموم والكدمات. ودون عمل يحفظ كرامته.
وبالفعل كان الصديق عيسى المونشو الملاك المنقذ للبطل رمضان، حيث أسكنه في غرفة بالفندق، ثم منحه شقة، وشغله في شركته كحارس للشخصيات المرموقة، ولم يكن يبخل عليه بالوجبات والنقود التي يصبها في جيبه باستمرار، مما جعل من رمضان البطل الأكثر حظاً في هذا العالم.
حيث لم يدعه الروائي يواجه أي صعوبة، وما يكاد يظهر مشكل ولو صغير في طريقه، أو تعترضه عقبة حتى يتدخل الروائي بصناعة قدر ما ينقذ بطله. ويقف عيسى على رأس الملائكة المنقذين للبطل الذي لم يدعه يكابد أية صعوبة تذكر، إلا ووفر له وسائل التمكن المأوى الوثير والملجأ الحصين والمأكل الشهي والمشرب المفضل. وإدماجه في العمل (كعنصر في فريق حراسة الشخصيات) الذي كان جاهزاً له مسبقاً بحكم حياته العسكرية وتدريبه العالي في فرقة الصاعقة، وجسمه المعد لمثل هذه المهام.
بمعنى أننا نتابع بطلاً يمكن أن نسميه: [الفتى المدلل للقدر]، إذ تحرسه عين الرعاية أينما اتجه وحيثما مشى، تنبسط الحلول أمامه قبل الوقوع في المشاكل أصلاً، ولعل المشكلة الوحيدة التي عكرت صفوه هي معاشرته لحياة، وإبراحه ضرباً بسببها من طرف رجال سي الطاهر، الذي كان رحيما به ولم يقتله، بل وجهه للرحيل من العاصمة، أي إنه كان مساعداً له أيضا في إيجاد حل لمشكلتهما معاً. في صفقة مفادها (اترك العاصمة وحياة، ولك حريتك والأمان). وهذه الهدية ممن يفترض أنه عدو، هي التي مكنت البطل رمضان من إعداد العدة للثأر الذي حدث في النهاية والذي كان منتظراً منذ لحظة إطلاق سراحه. وهو الأمر الذي أفقد الحكاية وأخلاها من التعقيد أو العقد، وهي من أهم مكونات الرواية.
والسبب المباشر والواضح لخلو النص من أهم عناصر الرواية، هو تركيز اهتمام الكاتب بحكي قصة دون العناية أو الاهتمام ببناء شكل وهوية روائيين لنصه. لهذا ابتعد النص عن الجنس(الروائي) الذي يوحي الغلاف أنه ينتمي إليه.
رابعاً- ملاحظات فنية.
-ما يستوقف القارئ مراراً في هذا النص هو إشكالية المصائر غير المكتملة للشخصيات [الشخصيات المبتورة] ابنة سي الطاهر صاحب بار الروشي، تم تقديمها بشكل جيد في بداية النص، وب
حظيت بعناية فائقة من الوصف والتقديم، تبشر بأنه سيكون لها دور محوري في باقي الأحداث. لكن مباشرة بعد تقديمها تُمحى هذه الشخصية من المشهد وتختفي، كأنما تعرض النص إلى عملية قص أو بتر، مما يجعل السؤال مشروعاً حول جدوى وقيمة التقديم الدقيق السابق لهذه الشخصية إن كان سيتم التخلي عنها فيما بعد وإلغاء دورها من النص كلياً، ثم لا تظهر إلا في قلقها على مصير أبيها ومملكته في النهاية. لتكون الشخصية المعدمة فنياً، حظيت بتقديم عال في مستوى الشخصيات الرئيسية، ودور صفري سردياً؟ يلغي ما سبقه من تقديم. ذلك أن من بديهيات بناء الشخصيات، أنه يقتضي عند تقديم أية شخصية بأي شكل من الأشكال، أن تكون لها وظيفة تخولها لعب دور مؤثر على الأحداث، يكون في مستوى تقديمها. ما يعني أنه لا وجود لشخصية مجانية في السرد. وهو ما وقع مع هذه الرواية. فيما وجدنا شخصيات هامشية أو أكثر هامشية، لم يجر تقديمها لكن كان لها دور هام في مجريات الأحداث، مثل: نوادل البار، وحراس الملاهي في وهران الذين كانوا يوجهون حركة سير البطل، ويؤثرون على ما وقع له.. وهذا يدل على تفكك كبير في بناء المجتمع التمثيلي في شخصيات النص. التي كان معظمها مفرغ من محتواه ووظيفته. إي إن ظهورها كان عبئاً حقيقياً عن النص، ولعل غيابها أو حذفها من النص كان أفضل بكثير. لخدمة الأحداث وتناغم نسيج الشخصيات.
– إن طغيان إرادة القص، وهواجس إفراغ المحتوى الحكائي، وموضوعاته، على الذهن السارد، هي ما عطلت الاهتمام بالتقنيات المفصلية التي تقتضيها الرواية، وبخاصة (تشكيل الفصول الروائية، وبناء التعقيد بينها)، مما جعل السرد يخلو من العقدة تماماً، بسبب إفشالها المتسمر من طرف الكاتب، وهذا أيضاً بسبب طغيان إرادة الحكي على إرادة البناء الروائي الذي كان سبباُ في جميع المشكلات الفنية، بما فيها الشخصيات المبتورة والمفرغة من الوظيفة السردية.
– يلاحظ القارئ ذلك التوزيع غير المحايد، أو المتحيز للسارد، الذي ظهر جلياً تعاطفه وموقفه مع بعض القضايا وتجهيز شخصياتها، بينما تسبب تموقفه المناوئ لبعض القضايا في عدم الاهتمام ببناء شخصياتها.
– ويحسب لهذا النص تعبئة النموذج الإنساني في الشخصيات، رغم ضعف الوظائف السردي لمعظمها (حضور إنساني/ غياب فني).
– كما يحسب للنص أصالته الثقافية وتجذر قضاياه وخزانته الفنية في هويتها الجزائرية، التي أولاها السارد أهمية قصوى، فكان الاهتمام البالغ بالتأثيث الثقافي والحدثي للنص على حساب التأثيث التقني الغائب للجنس الروائي. فكان الحضور الطاغي للهوية الثقافية الجزائرية، سبباً مباشراً في التغييب (المعرفي) للهوية الروائية. في هذا النص. الممتع لمن يقرأه بشغف الحكاية.
وخارج موضوع البناء الفني والثيمات الثقافية، تبقى لهذا النص أبعاد فنية أخرى تستحق الدراسة والتقديم، نظراً لتعدد زواياه التي تستحق أكثر من دراسة وأكثر من مقال.