بمعطفه الجديد، وبشيء ما يتأبطه يلجُ العريف “أخميلوف” باحةَ السوق يتبعه شرطيٌّ ذو شعر أحمر، حاملاً ما صادراه من فاكهة.. الصمت يشيع في الأرجاء، وليست ثمّة حركة جلّية.. أبوابُ المحلات ونوافذها مواربةٌ علىَ سعتها مثل أفواه جائعة تحدّق بأسى لدنيا الله.
علىَ نحوٍ مباغت تُمزّق أستار الصمت صرخة: “هكذا تريد أن تعضّني أيها الكلب الملعون، هذا زمان ما عاد للكلاب حرّية عضّ الآخرين .. آه.. آه.. أوقفوه..
يندلع نباحٌ متواصل .. تتوجّه أنظار “أخميلوف” ناحيةَ الصوت.. هناك كلبٌ برجلٍ عرجاء يفرُّ هارباً من ناحية “مخزن أخشاب بنجوجن” ملاحَقاً مِن قبل رجلٍ ذي قميص أبيض يحاول الإمساك به فيتعثّر ساقطاً.. غير أنّه يفلح في القبض عليه من قائمتيه الخلفيّتين .. يعوي الكلبُ ومعه تستمرُ صيحاتُ الرجل.
وجوهُ بعيونٍ ناعسةٍ تطلُّ من نوافذ المحلات، تُطالع حشداً بشرياً التأم سريعاً كأنّه انبثقَ من ثنايا الأرض.
يحاور أخميلوف شرطيَّهُ..
“أتعتقد أنّ من الضروري توجيه اللوم والتوبيخ لتجمّعٍ غير مسموح به كهذا”؟
يستديرُ يساراً ويخطو باتجاه الحشد جوار الباب الرئيس لمخزن الأخشاب، يشاهد الرجلَ ذا القميص الأبيض يرفع يداً عارضاً على العيون المُبحلِقة إصبعاً مُدمّىَ فيما وجهه يشي بتعابيرِ رجلٍ شبه مخمور:
“انتظر.. سأجعلك تدفع الكثير مقابل هذا، أيها الشيطان”.
وسرعان ما يتعرّف أخميلوف على الرجل: إنّه “كريوكين”، كما شاهد الكلب سبب الجلبةِ يرتجفُ وسط الحشد وقائمتاه الأماميتان ممدودتان ..كلبٌ أبيض تُبقّع ظهرَه بقعةٌ صفراء، عيناه تمتلئان بتعابير القلق.
أخميلوف يتساءل، صانعاً طريقاً له وسط الحشد:
” ما الخَطب؟ لماذا تقف هنا؟ وما الذي جرىَ لإصبعك؟ ومن كان يصرخ؟”
– أنا .. لم أمَسَّ أحداً.. ينطقُ “كريوكين”، ثم يواصل: “كنت أتجول في غابة ديمتري ديمتريفتش، هناك عندما هاجمني هذا الكلب المتوحش وعضّ إصبعي.. ليس لديَّ يا سيدي غير هاتين اليدين أعمل بهما، وعضّةُ هذا الكلب ستوقفني عن العمل لفترةٍ لا تقل عن سبعة أيام، لهذا على صاحبه أن يدفع لي تعويضاً، ألا يوجد في القانون ما ينبغي تحمله من تبِعات مخاطر الحيوانات، لأنّه لو تُرِك لكلِّ حيوان حريةَ العضّ والفتك بالآخرين، فلن يبقى أحدٌ علىَ قيدِ الحياة في هـذا العالم”.
بصرامةٍ ظاهرة يرتفعُ حاجبا العريف أخميلوف ويهبطان:
مَن هو صاحب هذا الكلب؟ لن أسمح لمثل هكذا خروقات أن تحدث وتستمر، إنَّ على الجميع أن لا يتركوا كلابَهم طليقةً كما تشاء، لقد ولّى الزمن الذي يُترك فيه مَنْ لا يُطيع القوانين.. سأعاقب مالكَ هذا الكلب، وسأعُلِّمه من أنا..
يستدير إلى الشرطي المرافق:
يا يلديرين، تحرَّ عمّن يكون صاحب هذا الكلب.. هذا الكلب يجب أن يُقتل.. افعل ذلك سريعاً، فقد يكون مسعوراً.. على أي حال لمن هذا الكلب؟
ينطقُ واحدٌ من الحشد:
يبدو أنّه كلبٌ الجنرال ييجالوف..
– للجنرال ييجالوف؟ ها؟! يالديرين، اخلع معطفي.. ما هذا الحر الشديد؟! من المحتمل أن تمطر هذا اليوم.. يوجد ثمة شيء لا أفهمه كيف عضّك هذا الكلب؟
يتوجه العريف أخميلوف إلى “كريوكين” متساءلاً،”وكيف طال إصبعك، إنّه كلبٌ صغير بينما أنتَ رجلٌ كبير؟ ربّما فعلت ذلك بنفسك وأدّعيت جرحك.. من فعل هذا الكلب المسكين سعياً للحصول على مال.. أعرفكم أيها الشياطين!
يقول الشرطي يلديرين: لقد أطفأَ السيجارة في وجه الكلب، لكن الكلب ليس غبياً فعضّه، يا سيدي.
– تكَذٌب ! .. ما شاهد مثل هذا ، يا سيدي ما شاهد مطلقاً .. ولكنْ دعْ الحاكم يقررّ، القانون يؤكد بالمساواة بين الجميع في هذا العهد، ولي أخٌ يعمل في قسم الشرطة فإنْ لم..
– توقف !
يقول الشرطي يلديرين مُظهراً اهتماماً: “كلا! هذا ليس كلب الجنرال لا يملك الجنرال كلباً كهذا، هذا كلبٌ لا يمُت إلى كلابه بشيء”.
– أمتأكد من ذلك؟ يسأل العريف أخميلوف .
– نعم، كلّ التأكيد..
– وأنا متأكد أيضاً.. كلابُ الجنرال غالية الثمن، أما هذا الكلب فليس له شعر مقبول ولا شكل يُعتَد به.. لماذا يقتني الناس كلاباً قميئة.. لو كان في بطرسبورج أو موسكو مثل هذه الكلاب، هل تخمن ما يحدث؟ لن يجهدوا أنفسهم في البحث في فقرات القانون للتخلّص منها، بل يصنعون لها نهاية سريعة.. “يا كريوكين” لا شكّ أنك تعاني من ألم الجرح لذلك سوف لا أترك الأمرَ يجري عادياً، سألقّن مالكي هذه الكلاب درساً.. ولكن يبتسم أخميلوف مفكِّراً! أعتقد أنني شاهدتُ هذا الكلب في باحة الجنرال.
يأتي صوت من عمق الحشد:-“طبعاً، إنه كلب الجنرال”
– يالديرين، ساعدني.. ألبسني معطفي وخذ الكلب إلى الجنرال تأكد إن كان له أم لا، قل وجدته في الطريق فأتيت به، قدم لهم رجاءً، ارجوهم أن لا يتركوا الكلب في الشارع، لأنه كلب ثمين وقد يرتكب أحدهم حماقة فيطفئ سيجارة في خطمه فيتسبب في إيذائه، الكلب مخلوق رقيق.. وأنت أيها الغبي.. اخفضْ يدك فلا ضرورة لعرض إصبعك السخيف، إنها حماقتك..!
– ها هو طباخ الجنرال، دعونا نستفهم منه.. مرحباً بروخور تعال هنا للحظة، انظر هل هذا كلبكم؟!
– هذا؟! لم نقتن مثل هذه الكلاب في حياتنا مطلقا..
– هذا كلب لا يستحق السؤال عنه.. يتمتم أخميلوف.. متشردٌّ وينبغي قتله.
– كلا.. ليس لنا مطلقاً، بل هو عائد لأخ الجنرال الذي وصل إلى المدينة توّاً، سيدي لا يفضِّل هذه الأنواع، إنما أخوه من يرغبها.
– هكذا إذاً أخوه فلاديمير إيفانوفيتش وصل إلى هنا؟ “يتساءل أخميلوف بمحّياً مُشرق وابتسامة تغمر وجهه:”حسناً، حسناً، لم أكن أعرف ذلك، “إذاً هو في زيارة لمدينتنا؟
– نعم ، يا سيدي في زيارة، – حسناً ، حسناً وهذا هو كلبه ، أنا مسرور جداً خذه! يا لهُ من كلب صغير وبارع، سريعاً أمسكَ بإصبع هذا الرجل ها.. ها.. ها، لماذا ترتجف أيها الكلب الصغير؟ لم تفعل شيئاً يستحق الخوف، وهذا الرجل وغدٌ وشرير.. ينادي “بروخور” على الكــلب ويذهب به بينما يوجه أخميلوف تهديداتــــه إلى “كريوكين”. يحكم شدّ معطفه على جسده ثم يتخذ طريقه إلى داخل السوق يتبعه الشرطي يلدرين حاملاً الفاكهة المصادرة..