، الأطروحة التفكيكية في الرواية التاريخية، من التأثيث إلى الأسلبة.
أولاً- إشكالية الرواية
بعنوانها الرئيسي: “قرطار الرومي”، وعنوانها الفرعي: “ثورة الزنوج وفتنة الجواري كما لم يروها ابن جرير الطبري”.
يقدم الكاتب الجزائري ماسينيسه تيبلالي هذه الرواية التاريخية، وهي الثانية في مساره الروائي بعد روايته “تلمود نرت”. مواصلاً سيرورة السرد المعرفي، القائم على أطروحة تعيد قراءة الوقائع والمواضيع التاريخية التي يختارها بعناية، وفق توجه فكري يتكشف بوضوح من خلال الانتقاء النوعي للظواهر التاريخية والموضوعات المحددة التي يطرحها في مدونته الروائية.
وينطلق الكاتب ماسينيسه في تقديم أطروحته السردية التاريخية لقرائه من إشكالية معرفية تفكيكية للأنماط الإرسال والتلقي السائدة حول الخطاب التاريخي، وهي إشكالية تنبعث أمام القارئ في صورة مساءلات استنتاجية غير مباشرة، مفادها:
– هل أن ثورة الزنوج في نهاية العصر العباسي الثاني، كانت فعلاً زنجية؟ في تخطيطها وتنفيذها؟
-أم أنها تسمية مجازية فقط لكون الزنوجة فيها إنما كانت من حيث الأيادي التي نفذت والصدور التي واجهت سلاطين بني العباس باعتبارها دروعاً تحمي الأدمغة (البيضاء من الأمراء المهمشين الذين خططوا لها)، بينما اكتفى الزنجي بالتنفيذ في الميدان؟!
-أليست تسمية الزنوج دلالة بليغة على العبودية وخدمة الأسياد، بالأيدي والأجساد؟! وبالتالي صارت تسمية [ثورة الزنوج] مطابقة لوصفها التنفيذي، باعتبار الزنجي آلة تنفيذ مادية جسداً وعضلات، وخدمة وطاعة لأوامر الأسياد المخططين بأدمغتهم، لما سينفذه هو من عمل؟ وبالتالي فالتسمية مطابقة لمحتواها الوظيفي واقعاً تاريخاً؟
تحتمل الرواية إجابتين على هذه الإشكالية؟؟ إجابة بنعم هي ثورة زنجية (إن كان إنجاز الثورات ينسب للأيدي والأجساد التي نفذت الأوامر وواجهت النصر والهزيمة في الميدان)، ويلخصها مصير قرطاس الرومي في الصفحات الأخيرة. وإجابة معاكسة بلا، إن كان الإنجاز ينسب للعقل المدبر للثورة، والذي لم يكن زنجياً ولا يمكن له -في ذلك الظرف التاريخي تحديداً- أن يكون. وتحكم تلك الأسئلة قبضتها على خناق الأجوبة الظنينة، وتسقطان على أرض المعركة وتدوران حول بعضها، على امتداد 390 صفحة، تقف بها هذه الأطروحة الجدلية في مقابل أطروحات كلاسيكية أخرى تبغي تفكيكها، وعلى رأسها أطروحة تاريخ الطبري، الذي يراه الكاتب تاريخاً مسيساً وعاطفياً حول تلك المرحلة التي تعلق بها هذا المؤرخ، الذي – كغيره من مؤرخي السلف- لم يكن محايداً، ولم يكن يركز ويهمش إلا ما توافق مع رؤيته الفكرية وتطابق مع انتماءاته في ظل نظام الحكم الذي عاش تحت سلطانه.
وهو ما يجعل هذه الرواية مغامرة واجتهاداً في كتابة رواية أطروحية. يمكن أن تتسع مساءلة كاتبها خارج المجال الأدبي لأنها بالفعل تتجاوزه، إلى الفكر التاريخي والأنثروبولوجيا والإثنولوجيا، والنقد التاريخي، لكن في إطار روائي يتأثث بكل تلك المجالات الجانبية التي جعلها الكاتب روافد معرفية لنصه وقام بتسريدها بحصافة حتى وإن لم تكن سردية صرفة.
ثانياً- التجنيس والموضوع:
تندرج هذه الرواية أجناسياً، وبكل وضوح تحت الروائية التاريخية الأطروحية، أي إن مادتها وموضوعها الرئيسين ينطلقان من التاريخ وأحداثه، وتعودان إلى فن الرواية لكن بأطروحة تنتقد تارة ما ساقه المؤرخون القدامى في تلك المادة والموضوع التاريخيين. وتارة أخرى؛ تضعها موضع مساءلة واستفهام، ثم تقدم إبدالاتها، وتعيد بناء الحدث المطروح للنظر، بشكل مغاير أسلوباً وتشكيلاً، مع بعض المستجدات والمضافات المعرفية التي يستقيها الكاتب من مصادر عدة، ويتلقطها من مصنفات معظمها غير تاريخية، أتاحتها له مطالعاته الواسعة وأبحاثه المتعددة المشارب في تلك الوقائع التاريخية التي يولف بينها على اختلاف مراجعها، فتبدو منسجمة متعالقة. ما يعني أن الرواية تتخذ أيضاً المنحى المعرفي داخل تصنيفها الأجناسي، حيث تقوم على إبهار القارئ بتقديم كم هائل من المعلومات حول فترات منسية أو مسكوت عنها، أو حلقات مفقودة من التاريخ الثقافي البشري.
حيث تهتم هذه الرواية من خلال أسلوبها الاستقصائي والأطروحي، بتقديم المعلومة، وأصالة الخبر من مصادره، واستجلاب الوقائع المثبتة في روايات السلف، والتحديد الزمكاني للأحداث، والتعريف من منظور خارجي للشخصيات (وهي كثيرة جداً). وبعد هذا التوليف يصيغ بدائله إما بالاستنتاج، أو بصياغة حكاية مستجدة عن الطرح بلسان إحدى الشخصيات. وكل ذلك في نسق أسلوبي حاول الكاتب حبكه وفق تشكيل وتخييل روائيين، يطرحان بدورهما الكثير من النقاط الاستفهام. ويستحقان الوقوف عليهما وعرضهما للتدارس النقدي، دون أن يخفى جهد التجديد والتجريب في السرد التاريخي، بواسطة الوسائل الاستقصائية والتحقيقية وطرائق الصياغة الأسلوبية للمحكيات.
أما موضوع الرواية فهو كما يوضحه العنوان: ثورة الزنوج التي قامت في العراق بن فئة الرقيق بكل أطيافها، مدعومين بآل البيت الطامحين لاستعادة الحكم، وبين سلطة بني العباس في عهد المتوكل ومن تلاه، في العصر العباسي الثاني؛ بداية من أسبابها مروراً بذروة احتدامها، وانتهاءً بنتائجها، معرجاً باستفاضة على ظاهرة الرق في التاريخ العربي، وتحديداً في أواسط المائة الثالثة للهجرة، وتبرز أهمية هذا الموضوع بداية من العنوان الفرعي للرواية (ثورة الزنوج، وفتنة الجواري، كما لم يروها أبن جرير الطبري). وهي العبارة التي تكشف المنحى الأطروحي النقدي الذي يحمله النص إزاء تاريخ هذه الظاهرة (الرق والعبودية في التاريخ العربي) ومؤرخيها وأبرزهم الطبري صاحب كتاب التاريخ الشهير في التراث. ولكي يكون عملة أكثر تركيزاً اتخذ الكاتب لهذا الموضوع مدخلاً شخوصياً، أي إن المدخل الأكبر الذي افتتحه الكاتب نحو الموضوع هو إحدى الشخصيات التاريخية الإشكالية في الفترة العباسية من التاريخ العربي، وهي شخصية مستعبدة اتخذ الكاتب منها نموذجاً أعاد إحيائه في صورة العبد الخصي “قرطاس الرومي” واسمه الحقيقي “قسطنطين” أصغر أيناء آمالا القيصرانية، ليصبح بعد استرقاقه وبيعه في سوق النخاسة غلاماً لفرج بنت أبي محمد الكوفي المدعوة أمي المؤمنين البصرية التي اشترته من مالكه النخاس “الأوقص الأزدي”. وتتتيع الرواية رحلة هذا الغلام الرومي الخصي، من سوق سفالا بأواسط إفريقياً إلى البصرة، حيث صار محظياً لسيدة الأعمال الشهيرة [فرج أمي المؤمنين]. ليكون بطلا للرواية وراويها الأبرز الذي نرى تقلبات تلك الفترة من الصراعات والمكائد السياسية والاقتصادية والثقافية بعينيه. حيث عايش ورأى مالم تروه لنا كتب التاريخ، وما سكت عنه المؤرخون أو غاب عنهم أو غيبه التاريخ في تقلباته العنيفة، والعنف هنا ليس فقط في وقائع الاغتيالات وجلسات الخصي والتعذيب والخوزقة، والمكائد والانقلابات والمحارق، بل حتى في طبيعة المعرفة التي تدحض الأخبار والمعلومات المقدمة بعضها بعضاً، فيقضي الخبر الجديد على الوقائع القديمة، وتسحق المعرفة سابقتها، لدى المجتمع الروائي ومجتمع القراء على السواء.
ثالثاً- الشخصيات مدخلاً لسرد الوقائع التاريخية:
من بين ما تقدمه رواية قرطاس الرومي لقارئها، مداخلها الاحتمالية العديدة، التي يمكن للقارئ أن يلج من خلالها إلى الموضوع، لكن المدخل الأبرز والأقرب والأوضح مسلكاً هو المدخل الشخصيات. حيث إن نحن تعرفنا هوية ووظيفى وعلاقات كل شخصية، نكون قد استوعبنا مساراتها وفككنها تعقيدها وحبكها وموضوعها. والمقصود بمدخل الشخصيات، هو الشخصيات الرئيسية والمحورية فقط. والتي من أهم خصائصها -فضلاً عن أن كل منها يعتبر مدخلاً جانبياً من مداخل النص المتسع- أن لكل شخصية عقدتها الخاصة، وتمثل مجموعة عقد تلك الشخصيات حبكة تغذي الأحداث التاريخية الكبرى التي يقوم عليها معمار الرواية. وهذا في حد ذاته يعتبر تجريباً وتجديداً في السرد التاريخي، حين استلهم الكاتب الحبكة الكلية أحداثه من تلك الحبكات الجزئية المكونة من لفيف عقد شخصياته الرئيسية والمحورية التي سنقف عند أكثرها تأثيراً لنلحظ هذه التجربة والإضافة الفنية التي شكلت خصوصية هذه الرواية. ومدار بعدها التجريبي الذي ينضاف إلى تجارب وإسهامات الرواية الجزائرية في حقل السرد التاريخي.
1- الغلام قرطاس الرومي: وهو الشخصية الرئيسية الوحيدة
واسمه الأصلي “قسطنطين” في مسقط رأسه (قصريانة بصقلية): هو بطل الرواية وراويها والشخصية الرئيسية الوحيدة فيها. (كون الرواية من حيث بنائها لا تحتمل أكثر من بطل، لأن باقي الشخصيات البارزة تكون محورية عادة)، فتى من الطبقة النبيلة تنسب إلى أسرة باطرياركية من قصريانة في صقلية، وهو في الواقع ابن غير شرعي من أم تدعى أمالا القصريانية. كان محظياً مع أمه (أمالا القصريانية) لدى العباس بن الفضل قائد جيش المسلمين الذي هزم جيوش صقلية وأسقط قصريانة، وسرقسطة، وعاش الولد قسطنطين، مع أمه مقربين من العباس بن الفضل في دولة الأندلس. ولما ضاق بهم الحال أرسلهم العباس إلى إفريقيا وأوصى بهما هناك، فعاشا هناك في رغد إلى أن توفي العباس في الأندلس، فانقلبت حياة الأسرة. وبيع الفتى قسطنطين الرومي، وأمه في سوق سفالاً بأقاصي إفريقيا، واشتراه كبير النخاسين الأزديين من العراق، واسمه الأوقص الأزدي، ورحله في سفينته إلى البصرة حيث تم إخصاؤه هناك (سحق إحدى خصيتيه، فهو نصف خصي)، وباعه إلى إحدى نبيلات البصرة وهي فرج المدعوة “أمي المؤمنين” بنت أبي بكر الكوفي زوجة أبو المظفر. حيث كان قوادها الخاص. وأقرب مقربيها حتى في الفراش. أما خارج بيت مولاته في البصرة، فقد اشتغل بالوراقة وكان له دكان في شارع الوراقين فأتقن مهنة الكتابة والنسخ، حتى صار وراقاً لكبار أدباء البصرة ومنهم أبو عثمان الجاحظ، وهناك حيث سمي قرطاساً الرومي، نسبة إلى مهنته تلك. لينخرط بعد ذلك في مبايعة أحد أعدى أعداء دولة بني العباس وهو: علي بن محمد (صاحب العبيد) أو محرر العبيد وقائد ثورة الزنج في العصر العباسي الثاني الذي سمي أمير المؤمنين. فصار قرطاساً على يديه من قادة ثورة الزنوج ومن أخطر الثوار وقادة الانقلاب على دولة بني العباس، حتى قضي على هذه الثورة وقتل رؤوسها، ونهاية تمردها على يد الأميرين: الموفق وأخيه أبي العباس المعتمد، ولدا جعفر المتوكل ابن المعتصم بن هارون الرشيد.
– عقدته: يعاني قرطاس الرومية من عقد عديدة، أسرت وجوده، وتظافرت لتشكل شخصيته الإشكالية، وأبرز هذه العقد هي عقدة الهوية: التي جعلته مجهول النسب طوال حياته، التي عاشها ممزقاً بين أصله الأميري البطراركي الرومي الشريف المنسوب إلى قصريانة بصقلية (وهو لا يعلم ذلك سوى في آخر أيامه). والتناقض الأكبر في حياته أنه منحدر من أنبل أسر الروم وسليل نبلاء بطارقتها إلا أنه ابن غير شرعي لهؤلاء نتيجة زنى أمه من شماس شاب تعلقت به في الكنيسة التابعة لزوجها البطريارك.
وعقدة عبوديته التي جعلته غلاماً عند سادة وسيدات العرب في البصرة، وعقدة فراق أمه نتيجة هذا الاستعباد، والتي بيعت هي الأخرى، لتكون محظية الجواري في قصر الخلافة لدى الخليفة أبو جعفر المتوكل. وعقدة بيولوجية تمثلت في عجزه الجنسي النسبي بعد إخصائه، والتي لازمته طول حياته، فصار ينادى بالغلام الخصي، (وهو لا يعلم أنه نصف خصي، وليس خصياً كاملاً، ويمكنه الجماع وإراقة الماء). وعقدة تحرره التي قادته لإعلان ولائه للمنشق على حكم بني العباس: علي بن أحمد قائد ثورة الزنوج، التي تعد طريقه الوحيد للانتقام لعبوديته التي رهنت حياته لدى النخاسين وأهل المال والأعمال وشتتت شمل أسرته وأضاعت أصله النبيل وسببت شقاء وعيه الأبدي.
وأخيراً عقدة حبه للجارية إستبرق التي كانت معه في نفس القصر وصيفة لأمي المؤمنين (فرج بنت أبي بكر الكوفي)، ثم بيعت للقاضي أبي سعيد، الذي صار خصماً أبدياً لقرطاس بسبب شراء حيبيبته استبرق.
فعاش قرطاساً أسير هذه العقد، لا يتصرف إلى وفق دوافعها، ولا يتحرك إلا بإيعاز من إحداها ليتجاوزها. فكانت تلك العقد هي السر في جل نجاحاته وتفوقه وإنجازاته وما بلغه من مراتب وما عاناه من مصائب.
2– أمالا القصريانية وهي شخصية محورية لها بالغ الأثر في حياة ومسيرة البطل قرطاس،: (لكونها أمه)، وهي ابنة أكبر بطارقة قصريانة، وزوجة (سرية) لبطريارك آخر لكنها خانته مع شماس شاب (خادم الكنيسة) في صقلية، وحملت بابنها (قرطاس الرومي بطل الرواية).
– وعقدة هذه الأم مركبة أيضاً، شطرها الأول أنها من أصل بطرياركي نبيل في بلدها الأصلي قصريانة. لكن سقوط مدينتها على يد جيوش المسلمين في الفتوحات الأندلسية شتت أسرتها، وجعلها مملوكة لعتاة النخاسين، يبيعونها لأرباب المال والسياسة. ومن هنا جاء الشطر الثاني من عقدتها وهو: عبوديتها وفقدان مكانتها النبيلة والتي تسعى إلى استرجاعها بكل الوسائل، وفعلاً تمكنت من ذلك حين انتصرت في حروبها النسوية على كل جواري القصر وزوجات المتوكل وملكت هي جسده وعقله، وزمام الرأي والتحكم في إدارة شؤون الخلافة. ومن ثم صارت تطمح لتنصيب ابنها قرطاس على عرش الخلافة لتستعيد معه مليكة عرشهما الضائع وأصبهما النبيل ولو في ممالك العرب. ولم لا إخضاعهم لحكم روما من جديد. وتحرير بلاد العجم من قبضتهم.
3- الأوقص الأزدي: شخصية محورية ثانية وهو من كبار النخاسين، بل سيدهم على الإطلاق، وهو من مؤسسي سوق سفالة لتوريد الرقيق من سودان إفريقيا إلى العراق. وهو -من دون أن يدري- أحد ممولي ثورة أولئك الزنوج الذين رحلتهم قوافل سفنه بالآلاف إلى شبه الجزيرة. وهو من اشترى رقبة قسطنطين الرومي و(أمه أمالا) وخالته (إيرين) وابن خالته تيودور (سمج الغلام)، وهو من قام بإخصاء الولدين (قسطنطين وابن خالته تيودور). أي قرطاس الرومي وابن خالته سمج الغلام. وباع الأم (أمالا) للخليفة المتوكل، وابنها قسطنطين أو قرطاس إلى فرج (أمي المؤمنين) بالبصرة، وباع ابن خالته تيودور لزوجها (ابن المظفر) بالعراق.
– وعقدة الأوقص الأزدي النخاس في إخضاع أمراء بني العباس بأنقى سلالات الجواري الحسان وأندر المحظيين من الغلمان. ونيل مراده منهم مالاً وجاها وعلاقات. وإخضاع عتاة النخاسين في الشرق والغرب من خلال ابتزازهم.
لكن عقدته الكبرى كيف يحافظ على تلك المسافة الخطيرة التي اختلقها، بين استرضاء قصر الخلافة بالغلمان والجواري، واسترضاء ملوك السودان برهن أنبل أبنائهم، من جهة وكبح جماح ثورة السودان بإخضاع أسيادهم مثل (قاقويه بن مكلنجلو) زعيم السودان في إفريقيا. والذي ظل يخفيه في العراق كمفتاح لإخضاع بني جلدته. ونيل رضا أمراء بني العباس، لكن مسافة الأمان بين الطرفين اسمرت بالضيق حول عنقه، حتى ثارت ثورة الزنوج واشتعلت الحرب بينهم وبين أمراء بني العباس. وفي قمة اشتعال الثورة وإحراق الزنوج لمدن العراق الواحدة تلو الأخرى، يوصلنا الكاتب إلى مشهد يعثر فيه قرطاس الرومي على مخبأ الأوقص النخاس الذي شتت شمله وباعه وأمه والعالم بكل أسئلته وموطن حل جميع عقده.. فقال الأوقص وقد أيقن بنهاية مسيرته وهو بين يدي أقدم مطارديه.. مخاطباً الغلام قرطاس الرومي الذي صار يناديه باسمه الأصلي الآن: “قسطنطين: خذ لك مقعداً، واجلس هنا نتحادث يا بني، ولنشاهد معاً ماذا تفعله بديار الإسلام كل هذه الدواب التي أتيت بها من أتعس أمصار المعمورة” (الرواية ص197). وشخصية الأوقص هي من افتتحت الرواية برهن أول أمير من أمراء زنوج إفريقيا (قاقويه بن مكلنجلو) كعربون من أبيه نظير سلفة مالية لهذا الأخير، وهي التي اختتمت الرواية بإعادة هذا الأخير إلى موطنه سفالة بأقاصي إفريقيا.
4- الجارية إستبرق: شخصية محورية ثالثة: ويمكن أن نسميها (الورقة العاطفية التي تستعبد بطل الرواية) وهي عشيقة البطل قرطاس الرومي، وأحد أمتن الخيوط التي تحركه، لكنها تتحكم فيه من عواطفه وقلبه، وقد ملكته واستعبدته بطريقتها الخاصة، وهي جارية معه أول الأمر في قصر سيدتهما (فرج أمي المؤمين) إحدى أثرى نساء الأعمال بالبصرة. وتبدأ خيوط انقياد قرطاس في أحابيلها يوم بيعت إلى القاضي أبي سعيد البصري، حيث عرف قرطاس في معاداته لهذا الرجل النبيل أشقى أيام حياته.. فكانت الجارية إستبرق هي من تستعبد الجميع بما فيهم سيدها القاضي، ولم يتمكن أحد منها إلا إن أرادت هي ذلك، وبلغت غاية تكسر فيها هامة أعتى الرجال، والكل مأسور بجمالها منقاد لسطوتها الأنثوية الشرسة. التي قضى فيها عشاقها على بعضهم البعض وأبزهم قرطاس الذي قتل وحارب من أجلها كل من حاول الدنو منها من قريب أو بعيد. ولم يكن في النهاية سوى قواداً لها تستغله كيف تشاء.
– أما عقدة إستبرق فهي تفوها الجمالي الذي صيرته وسيلة لتحقيق أغراضها في الاتصال بنبلاء البلاطات من جهة، وهاجسها عدم الوقوع في زلات نظيراتها من الجواري في قصور الأمراء من السلاطين. عقدة أفقدتها قلب الأنثى، وألبستها فكراً رجولياً وقسوة طبع، ينطلقان من وعيها بأنها إحدى قادة ثورة الزنوج رفقة عشيقها قرطاس. حيث يقاتل هو على صعيد الرجال، وتقاتل هي في عالم موازي قد يكون أكثر شراسة وتأثيراً في قلب موازين الحكم والحرب، وهو عالم الجواري اللاتي يخضن المعركة الأشرس في دهاليز ومقصورات وأسرة السلاطين والأمراء.
5- قاقويه أمير الزنوج من سودان إفريقيا. شخصية محورية رابعة، وتعتبر هذه الشخصية محركة جميع أحداث الرواية، كون الزنجي “قاقويه” أول من افتتحت الرواية بقصة رهنه عربوناً لدى الأوقص الأزدي النخاس الذي استلمه من يدي أبيه (مكلنجلو) ملك الزنوج السودان بإفريقيا، فكان هذا الغلام الأمير رهينة بيد الأوقص مقابل مالا يعيره لأبيه، فقام الأوقص ببيعه بأبهظ الأثمان على الإطلاق، حيث اجتمع في تدبير سعره 15 رجل وامرأة أعمال من العراق، من بينهم فرج أمي المؤمنين سيدة قرطاس وزوجها. ولا نستغرب ثمنه الخرافي إن علمنا بأن أمة الزنوج والعبيد كلها تدين لحكم هذا الأمير وأبيه الملك، فمن ملكه مَلك رقاب كل عبيد العراق، فكان أحد مفاتيح التحكم في ثورة الزنوج الأفارقة ومن والاهم من عبيد، على أسيادهم العرب. فارتبط تحريره باشتعالها واستعباده أو رحيله بإخمادها. وكان هذا الغلام الأمير لعنة حقيقية على كل من تشارك في شرائه من أمراء وسادة بغداد والبصرة، حيث كان هدفاً لقادة ثورة الزنوج لأنه تحريره هو صك حريتهم الأبدية من الاستعباد، ومأزقاً لملاكه الذين زجوا ببعضهم في المحاكم وتقاتلوا في سبيل من يملكه ومن يضمن حياته وإخفائه عن الأعين. ليقع هذا الكنز الملعون في نهاية الرواية بين يدي قرطاس الرومي المناصر لثورة الزنج، ثم يتحرر من قبضته ليعود إلى بائعه الأول وراهن رقبته كبير النخاسين الأوقص الأزدي. الذي أعاد هذه الورطة المتنقلة إلى أرضه وموطنه بإفريقيا، لتحل عقدة العقد في الرواية.
لكن “قاقويه” هذا لم تكن له أية عقدة داخلية. كونه شخصية سلبية خادمة لمن يملكها، لكنه من حيث البناء السردي كل عقدة جميع شخصيات الرواية ومحركيها وأحداثها التي لم تهدأ ولم تخمد ثورتها إلا بعودته لموطنه. بعد أن تكسب منه الجميع. وذاق ويلات لعنته الجميع. وتصدق عليه بحق تسمية الشخصية اللعينة.
نلاحظ في عرضنا للعقد المرتبطة بالشخصيات أننا نفكك التعقيد في هذه الرواية. وأننا كلما تعرفنا إلى هوية ووظيفة، إنما نتعرف على مسار حبكة أحداث الرواية في الوقت نفسه، لهذا فإن نوعية البناء القائم على المدخل الشخوصي للرواية. يعتبر الإضافة الحقيقية للسرد الروائي القائم على الدخول للعالم السردي التاريخي وأحداثه، وعقده من خلال منفذ شخصياته. التي إن نحن أحطنا بعوالمها الداخلية والخارجية نكون قد استوعبنا المغامرة السردية، ودانت لنا في قراءتها كل مداخلها الفرعية الأخرى.
رابعاً- ملاحظات:
– تعتمد الرواية في بنائها على التأليف أكثر منها على الكتابة، لكونها عبارة عن مجموعة من الأخبار والروايات الملتقطة من عدة مصادر تاريخية وأدبية تراثية وحديثة، حول فترة زمنية واحدة امتدت بين سنتي: (255 و272) هـ. ثم سردها بشكل قصصي منسجم عبر 14 فصلاً. كل فصل بعنوان يعكس محتواه، وفكرته العامة. ويحافظ على منطق التسلسل في التصعيد الدرامي للحدث والتعقيد.
– الرواية لا تعرف الإيجاز ولا الحذف في أي بنية خطابية أو نصية من بنياتها، فهي تسهب في كل شيء، وخاصة الوصف الذي قد يجد فيه القارئ مساحات تفوق الأربع والخمس صفحات في وصف فضاء معماري لبناية أو ساحة أو تصوير جغرافي لمنطقة ما (ص 267-269).
– زمنياً لم يستعمل الكاتب في سرد الأحداث لم يستعمل الكاتب أية تقنيات سدية، سوى الكرونولوجيا الخطية التأريخية، متبعاً خطا تسلسلياً احترم تواريخه التي تدرجت عبر فصور الرواية من (255 و272).
– غلب على سرد الرواية منطق الحجاج والاستدلال (l’argumentation)، حتى غلب التوثيق على السرد من كثرة النصوص المنقولة حرفياً والشواهد المستمدة من كتب التراث، والتي أجبرت الكاتب على وضع فهرس للهوامش في نهاية الرواية، بحجم 9 صفحات كاملة، احتوت على: 269 بين حاشية لتوثيق المعلومات من مصادرها وهامش لشرح غريب الكلمات التراثية والدخيلة والمهجورة. التي كانت تتحدث بها شخصيات الرواية.
وهذا أمر مجهد للقارئ الذي عليه في كل صفحة تقريباً أن يعود إلى الهوامش في آخر صفحات الرواية ليطلع على شرح كلمة في أول أو وسط الرواية.. ولو كانت الهوامش في كل صفحة لكان أيسر على القارئ، وهذا أمر شائع ومتاح في الروايات التاريخية، حين يريد كاتبها توثيق معلومة أو شرح تفصيل سردي.
– وما يؤخذ على الرواية في هذا الجانب، هو أن الرواية التاريخية باعتبارها رواية تخييلية في المقام الأول، ليس عليها أن تبرهن على شيء، أو تحاجج على إثبات صحته لقرائها، وتشرع فتسوق الاستدلال والرد على ما سبقها من كتب التاريخ التي تناولت نفس الوقائع، لأنها ستخرج هنا من إطار الرواية وتدخل في الوثائقية الصرفة والتحقيق التاريخي الذي لا علاقة له بالسرد الروائي، حتى لئن خيط الرواية هنا يبدو رفيعاً أمام سماكة حبال الاستدلال والبرهنة في توثيق الأخبار والوقائع المنقولة، ومحاولة الروائي إثبات صحتها خلاف ما وردت عليه في كتب التاريخ، ولعل هذا يبدو واضحاً في العنوان الفرعي للرواية الذي يؤكد فيه الروائي مخالفته لما رواه الطبري من أحداث: [كما لم يروها أبن جرير الطبري].
– تنقسم الرؤية السردية في الرواية إلى قسمين، أو بالأحرى إلى تنقيتين: متواترتين بشكل غير منتظم، حيث نتابع الأحداث تارة بعين وصوت الراوي المدمج. الذي أسند للبطل/ السارد: قرطاس الرومي. (وهنا يستعمل تقنية الرؤية مع) حيث يروي لنا قرطاس الرومي الأحداث بضمير المتكلم. وتارة ثانية يستخدم تقنية (الرؤية من الخارج)، حيث يوظف راوي مستقل عن الشخصيات، وهو الراوي العليم. حيث يروي عن قرطاس (الذي كان راو قبله) بضمير الغائب.
– هناك حشو ملحوظ في إيراد الكثير من القصص والأخبار المنقولة حرفياً من مؤلفات القدماء كرسائل الجاحظ وغيرها. دون أن تكون لتلك القصص التي احتلت صفحات عديدة أية أضافة أو أهمية في النص، حيث تشعر أن الكاتب أصر على دمجها دون مبرر ولا مكان طبيعي لها، مما عرقل سيرورة السرد، وأكثر عدد الصفحات دون طائل. فضلاً عن كثرة الاستطرادات وتنوع الأخبار، ثم يدرك الكاتب نفسه –على لسان قرطاس-أنه قد تاه عن خطه السردي، فيستدرك: “تباً ما بي هكذا أهذي…” (ص90). مما جعل كل تلك العوامل مجتمعة تقطع أوصال الحبكة وتمزق حبل السرد وحبكته. ولو تم حذف تلك الزوائد والاستطرادات القصصية، لظهر النص بصيغة أخف وأبلغ وأكثر تماسكاً.
– هناك لازمة وصفية مستغربة في الرواية، وهي أنه كلما تم ذكر ذوي البشرة السمراء في الرواية إلا ووصفوا بالدواب والبهائم والعلوج، من طرف جميع الشخصيات التي لا تنتمي إلى طبقتهم، وقد صارت هذه الأوصاف ظاهرة بارزة لفرط تكرارها على جميع الألسنة، وعلى سبيل المثال لا الحصر، ما قاله الوكيل الشاطر وهو يصحب قرطاساً الروكي في رحلة بحرية على زورق: “أن العمل وسط هذه البهائم السوداء أمر غاية في الخطورة، فهم همج وحثالة، قد ينقضون عليك في أية لحظة، ليسوا يفقهون شيئاً سوى الكدح كالبغال ليل نهار، وهم مع ذلك متقاعسون متخاذلون” (ص94)، والكثير من الأوصاف المشينة التي تصنف ضمن السباب والتقبيح أكثر منها وصف لشخصيات في الرواية. حتى وإن كانت على لسان شخصيات أخرى معها.
– التقنية الفائقة عبر سائر حالات النص وتحولاته، هي منطقه السردي الذي يتبنى فكرة [اللامنطق] بما يقدمه من شعرية خاصة لسيرورة المكائد، والتقلبات الفجائية، إذ لا دوام لملك شريف، ولا لعبودية وضيع، ولا ثبات لطبقة في موضعها، ولا راحة لقاتل، فسيد العبيد هنا قتيلهم بعد صفحات، هناك، والمستعبد المملوك هنا، حر وحاكم بزمام الأسياد هناك، والحر هنا، عبد هناك، يقول قرطاس الرومي في كلمة تعتبر المنطق الثابت الذي يحكم هذه الرواية وهو التحول والانقلاب: “لا أدري ماذا فعلت، ما الذي سأفعله، أو ماذا سيُفعل بي.. بعد هنيهة.” (ص102). وهذه نظرية تسير على باقي الشخصيات مهما كانت طبقتها وقيمتها ومستواها، وهذا ما يجعل عالم هذه الرواية (كما الفترة المتقلبة للمماليك التي تغوص في تعاريجها) عالماً متصدعاً ومتفتحاً على كل التوقعات..