نشرت في صحيفة المثقف بتاريخ: 25 تشرين1/أكتوير 2009
وكلَّما فتَّشتُ عنهم لم أجد فيهم سوى نفسي الغريبةِ
محمود درويش
شيء من نبض البداية
يعدّ الشاعر الكبير محمود النجار من الأصوات العربية التي أسست منحاها المتفرد، فهو نورس الشعر العربي، يسافر فوق بساط الماء، يزرع أحداق الكون وردا جوريا، تكتبه الحروف همسا بمداد نرى من خلاله مرابض الشعر الكبرى تُنَصِّبُ خيامها، في لغة تشد إزارها، لتمشي قصيدته رشيقة فوق راحة المعاني الباسقة. حيث تصغي كل الكائنات لهذا النبض الوجودي الذي تعزفه حروفه، رافعا شراع الاختلاف لتبحر سفينته الإبداعية في عباب الحداثة.
العزف على أوتار التمزق والأنين
إن أي قارىء لشعره يقف مشدوها أمام نظامه الداخلي،فأي نافذة مفتوحة على العالم تلك التي من خلالها يوشوشنا أمانيه؟
يُمَشِّطُ محمود النجار شَعْرَ الأنغام المنسابة من وهج الكتابة،ف ِنْجَانُ حكيه موغل في تواريخ العروبة، تتحول أسئلة حلمه المسكونة بالنحيب، وانكسار الأماسي إلى قوس موغل في تضاريس الأرض، حيث يعانق من خلالها الوطن. لكنه اكتشف بأن ذلك مجرد وهم استوى في دياجي حكمته، يملأ أنينه هذا الفضاء الجريح؛ الذي تتحول ذراته إلى خناجر تخاتل ضلوعه الراعشة ..فما أصعب أن يحيا الإنسان بلا وطن !!
يقول في قصيدة: وطن:
قد كان حلم العمر
أن أحيا على أرض
يقال لها وطن
قالوا: بلاد الله واسعة
وفيها للغريب الدار متسع
ويمكن أن تكون له سكن
قالت ضلوعي الراعشات
من المهانة والوهن:
وهم ، فلم أشعر بدفء
منذ غادرت الوطن
تفيض أصابع هذا النص رَهَقًا تهدهده تشظيات نفسية، تعج بفوضى روح تحاول أن تجمع أشلاءها، و غربة وجدان هي خريطة نبض كل عربي لم يعرف طعم الاستقرار!!
ـ هل هي يد تتفيأ ظل الخسارات وتركب متن متاهات تدمن اليتم؟
ـ أم هي صرخة الفلسطيني في كل الأرض حيث تتناثر ذراته بين زفير النصوص؟ يحتمي فيها من غيب محشو بالرصاص والدماء؟
أم تراها بوصلة حدس كل شاعر عربي لا يجد ترياقا للدغة العدو على أراضيه، سوى أن يتفيأ بموسيقى نفسه، محاولا أن يقطع خيوط العنكبوت التي تهيمن على ظله؟
يفرش الشاعر محمود النجار دمه أمام غربة عميقة تفيض بها اهتزازات حروفه، يحمل فوق كتفيه صخرة الألم السيزيفية. يقول في قصيدته وحدي:
وحدي أواري كل عورات الذين أحبهم
وحدي ألملم جرحي
إن مت وحدي
من يواري عورتي؟!
من ذا يكفنني؟!
ويحفر قبري؟!
إن قمة الدرامية في شعر الشاعر ألغام تحاول اقتحام المحجوب، تشرب الوحدة من هواجسه، وتتمدد يَاءً في كف الصمت، فهو متأكد من وحدته القاتلة وهي تلف أشرطتها الخانقة حول حياته، و يحاول من خلال هذا الإحساس استقراء العماء الكوني الْمُنَقَّبِ بماء المجهول.
فلم كل هذه الصلاة فوق سجاد الغربة والوحدة القاتلة؟ حيث لا يرتدي غير معطف الأسى والخوف من الآتي، وقد ذكرني قوله هذا بشعر أحمد عبد المعطي حجازي إذ يقول:
يدحرجني امتداد طريق مقفر شاحب،
لآخر مقفر شاحب،
و يخنقني و في عيني …
سؤال طاف يستجدي
خيال صديق، تراب صديق
و يصرخ .. إنّني وحدي
و يا مصباح ! مثلك ساهر وحدي
فهل هي لعنة تصيب كل الشعراء؟
أم هو مجرد حزن عميق على وطن يرسف في عبودية لن تحرق صكوكها إلا بإعلان الحرية؟ تتحول ملامح الشاعر إلى جدائل ضوء تنبت فوق جدار الوطن، فلماذا انتدبت ذاته مكانا قصيا، تهز إليها بجذع الدمع فيعلو الطوفان طرقاته؟ .. حيث يقرأ هذا الجسد شفاه العمر الذي لا يحصد غير السديم. ولا يتنفس غير عقم الأماني التي تتوسد التراب. فلم يبق غير الدمع يخضب خَدَّ السماء.
يقول محمود النجار في قصيدته: ليس بعد..!!
كفكف دموعك وادخرها
ليس بعد
لم يئن بعد لك البكاء
ولم يحن ميعاد غد
فغدا يروق لك البكاء
ولا تجدْ
دمعا لغد..!!
يأخذ الشاعر صفة الآمر في هذا النص، إذ يبدأ بفعل الأمر “كفكفْ”، فمن منحه هذه السلطة؟ ولمن يوجه الخطاب؟! أهو شَرَكٌ ذكي منه ليبعدنا عن أنا المتكلم/ الذات الشاعرة ومعاناتها الفردية، والخروج من أفقها الضيق لمعانقة أرخبيلات إنسانية، حيث يتحول من خلال كلماته إلى حكيم يتوسد غيهب الأشياء، ويصبح بصيرا بما يحتويه جيب الريح من دمع مغموس في ذاكرة غد ضبابي.
هكذا تتفجر المشاهد في هذا النص الذي يتزر بمئزر من دخان،ويستعصم بكوخ يملأه العواء، حيث المخالب برق،والفخاخ إيقاعات تشرب نبيذ تفاصيله.
إنه تشاؤم يتهادى بين المعاني المكثفة، والمرسومة بصورة واضحة وأسلوب رشيق .. فمن خلال الحالة الوجدانية التي سيطرت على الزمن النفسي لشعره، تتوهج رؤيا الشاعر الذي يتنبأ بكارثة قادمة لا ينفع معها العويل والبكاء.
هل هي ملحمة إنسانية مرتبطة بالأرض ككيان واضح، للانعتاق من سلاسل الظلم والموت؟، يترصد الشاعر في أتونها إعادة بناء الزمان والمكان من خلال الوعي العميق باللغة، والتعامل مع الأشياء بحدس يوغل في أسرار الإنسان.
فما الذي تخفيه كلماته الشفيفة؟!!
إن محمود النجار شاعر كوني منفي داخل الكلمات، يقرأ بروية الجرح العربي النازف الذي يقض مضجعه. ويضعنا فوق مسرح الأحداث، حيث تتساقط أعضاؤه في تبئير سردي مفعم بالقلق والخيبة يقول في قصيدته: حدود:
ومسافر..
والدرب أعمى
والحدود محنطةْ
في كل شبر حاجزٌ
ودمىً غبيةْ
ويمر منها كل محتملٍ
من الأشياء دون تأخرٍ
إلا أنا وسميةْ..
فعلى قارعة الحدود الوهمية التي يعيشها الإنسان المقهور في الأراضي المغتصبة، ينقلنا الشاعر في صورة واضحة ترسم بفرشاة الألم مهزلة يعيشها الإنسان العربي في البلاد المحتلة، وهي حظر السفر على العديد من الناس. وقد جسدها الشاعر في صورة سينمائية تركز على لقطة مركزة على شابين يرغبان في السفر، لكن قوة الاحتلال منعتهما. رغم أنها سمحت بمرور أشياء لا تستحق الذكر.
هي قصة عشق مفتوحة على قراءات متعددة.. و أمل في مستقبل أفضل وَأَدَتْهُ أيدي الظلاميين.
وإني أخاله يقول مع الشاعر محمود درويش:
كل قلوب الناس… جنسيتي
فلتسقطوا عني جواز السفر
شيء من عشب النهاية:
إن غربة الروح في كل تجلياتها تهطل من جبين قصائده حبات عشق للوطن،حيث ينتقل الشاعر محمود النجار من منفى كبير داخلي مفعم بالخوف والتوتر والعزلة غير المرئية، نحو منفى خارجي يمثله الوطن الكسير.فحسه القومي والعربي هو الذي خلق حالة الشجن العميق في شعره، ومنحه هذه القدرة الهائلة في رصد ذبذباته النفسية، ورغم أن كل الأرض العربية أرضه، إلا أن الحنين يرميه بين شباك عميقة تقرأ كف وجوده، وحده يتلمس طريقها، ويعبر مسافاتها في ومضة جمالية أخاذة ترسمها عنه القصيدة.
.ويبقى الشاعر الكبير محمود النجار اسما عربيا ينير سماء القصيدة العربية المعاصرة. يغني للجمال والحرية وكل قيم الوجود البهية.
إحالات:
شاعر فلسطيني يقيم في الأردن
رئيس تجمع شعراء بلا حدود
وهذا التجمع ليس موقعا على شبكة الإنترنيت فقط، بقدر ما تحولت مشاريعه نحو أرض الواقع، وخير دليل على ذلك مؤتمره الثاني في القاهرة الذي سجل نجاحا منقطع النظير، سواء من حيث الفعاليات الثقافية التي حضرته، أو كثافة الجمهور الذي تابع أشغاله الذي احتفى بالقصيدة بجميع أثوابها..كما تابعته الصحافة المكتوبة والمرئية في عدد من الدول العربية
ورغم التحديات التي واجهها الشاعر محمود النجار، إلا أن طموحه في إنجاح هذا التجمع، سارع في وضع خطوات رصينة لخلق صرح ثقافي حضاري، يتكلم لغة إنسانية لا تعترف بالحدود الجغرافية.مما أعطى لاسمه مصداقية تلمع كما الثريا، وقد ساهم في إنجاح هذا الفضاء أعضاء المجلس الإداري ..