الأحد: يقرعُ صوتُهُ أجراسَ الكنائس، مُعلِناً قُدومَهُ إلى العمل، عندما يرسلُ لها ‘صباح الخير’ عبر هاتفه. يقودُ سيارتَهُ بحذر، ويترفَّعُ عن ‘ألواحٍ’ من البشرِ تمرُّ أمامَهُ؛ مُتنبِّهاً إلى ضرورةِ مُراقبةِ الطريق جيداً، كي لا تطأ عجلاتُ سيارتِهِ أقدامَ المارَّة في الطريقِ المُكتظّ. تمرُّ ساعاتُ العملِ بتعجُّلٍ ملحوظ، ويُسرعُ خارجاً من أسوارِ المكانِ تاركاً لهفَتَها عليهِ خلفَهُ.
الاثنين: يغيبُ بوعيٍ عن عملِهِ ودون وعيٍ عنها. ينزلُ الدَّرجاتِ المؤدية إلى ‘السوبرماركت’ أسفل منزله بتثاقلٍ واضح لشراء السَّجائر تلبيةً لرغبةٍ مُلِحَّة. يرنُّ هاتفُهُ، يتعمَّدُ تجاهُلَ الاتصال إلّا أنَّ تاءَ المُتَّصلةِ المربوطة تُجبرُهُ على الرَّدِّ. إنَّها رفيقةٌ تدَّعي صُحبتَهُ، أمّا هو فلا يزالُ يُمرِّنُ أذنَهُ على صوتِها. ‘نلتقي’ هكذا يَعِدُها قبلَ أنْ يُغلقَ الخطَّ، يشتري السَّجائر، ثمَّ يصعدُ الدَّرج. المصعدُ مليءٌ بأثاثِ الجيران القديم. سيرحلون قريباً، هكذا عرف من زوجته. أشعلَ سيجارةً في عتمةِ حجرةِ نومِهِ، وفكَّر. فكَّرَ طويلاً. فعَّل حاسوبَهُ وأرسَلَ لها: ‘لن نلتقي’ بتبريرٍ وشرحٍ مُقتضبَيْن. ثمَّ غفا.
الثلاثاء: يصلُ عملَهُ مُتأخراً فلا تلمَحُهُ. ويغادره باكراً فلا تلمَحُهُ، أيضاً.
الأربعاء: يختفي تماماً خلفَ زكامِهِ واحتقانِ حلقِهِ. يُداومُ على شُربِ القهوةِ على الرَّغم من ذلك. ولا ينامُ باكراً، لفرط التفكير. تُثيرُهُ نكتةٌ ماكرة بعثها له أحدُ أصدقائِهِ. يُرسلُها لها عبرَ رسالة نصية. يُطفئُ هاتفَهُ موقِناً أنَّها قرأَتْ مُستهلَّها فقط، ولَمْ تُكملْ لفرطِ الخجل!
الخميس (قبل ساعةٍ من اللقاء): تُباغتُهُ باتصالٍ سرعان ما يُجيبه. يأسِرُهُ صوتُها الدَّفّاق حينَ تقفزُ كُلُّها إلى أذنِهِ عبرَ سمّاعةِ الهاتفِ مُعلِنَةً بغُنجٍ وصَخَب أنَّه وبحسبِ ما تقولُهُ حضارةُ المايا: غداً بدايةُ النهاية! لذا ينبغي أن تلتقيه مرَّة أخيرة قبل بدءِ المرحلةِ الجديدة! يُثيرُهُ ذلك دون أن يُصرِّح.
لقاءُ الخميس: تصلُ قبلَه رغمَ أنَّهُ وَعَدَها بِوُصولٍ مُبكِّر. يلتقيان في المكان نفسه: ‘كشكُ قهوتِهِ وفطائرِها.’ الجوُّ عاصف، هكذا يلاحظان لحظة التقيا! ألأنَّها نهايةُ مرحلة؟ فكَّرا دون صوت. أرادَتْ أنْ تخبرَهُ أنَّ غيابَهُ فاقَ كلَّ فجائعِ العالَم! وأنَّ ‘الفانيلّة الرَّماديَّة’ التي يظهرُ طرَفُها، على غيرِ العادة، مِنْ تحتِ ‘كنزته’ أثارَتْ حفيظَتَها وشهوتَها في الوقتِ نفسه! ولكنه بدلاً مِنْ أنْ يُصغيَ لما تحكيهِ عيناها أسرَّ لها بشيءٍ دافئ لَمْ يَقُلْهُ صراحةً. أصرَّ على دفعِ الحسابِ هذه المرَّة، تماماً كما في كلِّ مرَّة، وهو لا يدري أنها لو امتلكَتْ قدرةَ تحنيطِ الطعامِ الذي يشتريهِ لها لفعلَتْ دونَ خجلٍ أو تردُّد! تواعدا على اللقاء مُجدَّداً عندما ينتهي العالمُ ويبدأ آخرُ جديد، ثم افترقا والرّيحُ تعصف.
ليلُ الخميس: ترسلُ لهُ كلمة ‘:ريحانة:’ فيُرسلُ لها أيقونة ‘:غمزة:’. يَمضي وقتٌ طويلٌ على مُكوثها في الفِراش. ويَمضي وقتٌ طويلٌ على مكوثه في الفِراش. تتمنّى لو أنَّ جُبنَها يتلاشى قليلاً هذه الليلة فقط ليطلعَ صوتُها حاملاً شوقَها المُغطَّسَ بالأَرَق. تبدأ بِعَدِّ الخِرفان كما العادة، وتودُّ لو تجرؤ على سؤالِهِ: ‘هلّا عَدَدْتَ الخِرفان معي هذه الليلة؟’
نهارُ الجمعة: يمرُّ الوقتُ بطيئاً ومُمِلّاً إلّا من صورةِ خيطٍ أسودَ يتدلّى من زِرٍّ يسكنُ الكُمَّ الأيمنَ لمعطفِهِ الأسْوَد. تتذكَّرُ كم اشتهَتْ شمَّهُ؛ لطالما آمنَتْ بوُجوبِ الرّائحةِ للجماداتِ وكلِّ الأحياءِ على حدٍّ سواء، وكيفَ لا يكونُ هذا صحيحاً وهو يرتدي معطفَهُ والخيطُ يتدلّى منهُ بسوادٍ يثيرُ ولا يهدأ! ودَّتْ لو تقصّ لهُ الخيطَ بنفْسِها لتحتفظَ برائحتِهِ الَّتي لا تشكُّ مُطلقاً في أنَّها إن قُدِّرَ لها ستكونُ عطراً تتحلّى به بينَ رفيقاتِها. تتوقَّفُ لبُرهة وتُنصتُ لوقعِ الفكرة عليها، ثمَّ تُسائلُ نفسَها: ‘ألهذا الحدِّ….؟’ ولا تُكمل.
ليلُ الجُمعة: غابَ عنها طويلاً هذه المرَّة. وعندما حَلَّ الليل، ولم تتمكَّن من النَّوم، بدأَتْ بِعَدِّ خِرفِانها كالعادة، لكنَّها ألبَسَتْ كُلّاً منها معطَفاً بحسبِ تصميم معطِفِه ولونِهِ. تضحكُ في سرِّها لأنَّها حَرِصَتْ على أن يكونَ هناك خيطٌ يتدلّى من كُلِّ المعاطف التي ألبَسَتْها للخِرفان. تُرى، هل يعي أنَّها دلفَتْ للتو، عبرَ خيالِها، خزانةَ ملابِسِهِ وقامَتْ بتفقُّدِ مُحتوياتِها؟ تشكُّ في الأمر، فهو يعتقدُ أنَّها أجبنُ مِنْ أَنْ تقومَ بذلك.
السَّبت: يُطيلُ الغيابَ، فيبردُ فِراشُها أكثر. تنامُ فيهِ على وقعِ نقراتِ فرحٍ صغيرةٍ تسمَعُها كلَّما تذكَّرَتْ ‘فانيلَّتَهُ الرَّماديَّة’، والخيطَ المُتدلِّيَ من معطفه. تنامُ في فِراشِها البارِدِ وَحْدَها دونَ أن تعلمَ أنَّهُ يَعُدُّ خِرفَانها واحداً تلوَ الآخر ويلعبُ معها لعبة الحبل. تنامُ في فِراشِها البارِدِ وحدَها مُردِّدَةً مَعَهُ دونَ أن يدري: شهيقٌ فقط!