أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ.
أُحِبُّ النّارَ التي تُدْفِئُ وتُنْضِجُ.
أُحِبُّ النّارَ التي لا تَبْرَحُ القَلْبَ أَبَداً.
أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ الغابَةَ،
أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ القُدْسَ وتَعاليمَ إِبْراهيمَ،
أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ الأَمْواتَ البوذِيّينَ وحُقولَ العائِلَةِ،
أَكْرَهَ النّارَ التي تَلْتَهِمُ ما كَتَبَ ابْنُ رُشْدٍ،
أَكْرَهُ النّارَ التي في قُلوبِ المومْياواتِ
وهُنَّ يَخْرُجْنَ مِنَ المَتاحِفِ عارِياتٍ كالعارِ.
أُحِبُّ النّارَ التي تُدْفِئُ البَدَنَ المَقْرورَ.
أُحِبُّ النّارَ التي تُنْضِجُ الطَّعامَ في مَوْقِدِ جَدَّتي.
أُحِبُّ النّارَ التي لا تُؤْذي مِزْهَرِيَّةَ حَبيبَتي.
أُحِبُّ النّارَ التي لا نارَ فيها.
لا أُحِبُّ النّارَ،
أُحِبُّ النّارَ!
في قِبابِ البَرْلَمانِ،
لا وُجودَ لِمُحَمَّدٍ ولا عيسى ولا موسى.
في قِبابِ البَرْلَمانِ،
عَناكِبُ ودُمىً وأَراجيزُ ونارٌ لا تُدْفِئُ ولا تُنْضِجُ.
في قِبابِ البَرْلَمانِ،
باعَةٌ وسَماسِرَةٌ وكومَةُ تِبْنٍ قَديمٍ يَبْتَلِعُها الضُّيوفُ.
أَنْتَ لَسْتَ مِنَ الضُّيوفِ.
أَنا لَسْتُ مِنَ الضُّيوفِ.
كِلانا، أَنا وأَنْتَ،
لا نُصَدِّقُ الرُّعاةَ الذينَ يَقودونَنا إِلى الجَنَّةِ.
لا أَحَدَ يَمْلِكُ مَفاتيحَ الجَنَّةِ.
لا أَحَدَ صاحٍ والآخَرونَ نِيامٌ،
لا أَحَدَ يَرى أَفْضَلَ مِنَ الآخَرِ،
لِذَلِكَ فَالجَنَّةُ لَيْسَتْ هِيَ الغابَةَ.
الغابَةُ حَريقٌ تَنْفُخُ فيهِ الغيلانُ.
الغابَةُ اسْتِعارَةٌ لِجَحيمٍ ما.
الجَنَّةُ دِفْءٌ تَجودُ بِهِ المَلائِكَةُ!
لا أَحَدَ أَكْبَرُ مِنْ أَحَدٍ.
الصِّراطُ أَمامَنا وأَحْذِيَةُ الجُنودِ على رُؤوسِنا.
مِنْ أَيِّ قَرْيَةٍ جِئْتَ؟
الدَّمُ في الصِّراطِ والأَحْذِيَةِ والغَسَقِ.
وفي مَكانٍ ما يَزْحَفُ البِطْريقُ على البَطْنِ.
دَمٌ في الثَّلْجِ وفي رِجْلِ البِطْريقِ وفي القُدْسِ وفي الغابَةِ،
وفي الوَرَقِ الأَبْيَضِ لِتِلْميذَةٍ سَقَطَتْ فَوْقَها قَذيفَةٌ.
التِّلْميذَةُ تَتَّجِهُ تارَةً صَوْبَ الصِّراطِ،
وتارَةً أُخْرى صَوْبَ الجَنَّةِ.
المَلائِكَةُ يَمْسَحونَ الدَّمَ مِنْ رِجْلِ البِطْريقِ.
المَلائِكَةُ يَمْسَحونَ الدَّمَ مِنْ جَسَدِ التِّلْميذَةِ.
الوَرَقُ الأَبْيَضُ يَغْسِلُهُ مَطَرٌ.
المَطَرُ يَأْكُلُهُ جوعُ التُّرابِ واللهُ يَأْمُرُ بِمَطَرٍ آخَرَ.
البَياضُ يَتَدَلّى كَغُصْنٍ.
البَياضُ شَفَةُ عاشِقٍ تولَجُ في شَفَةِ عاشِقَةٍ.
البَياضُ ما قَلَّ ودَلَّ مِنْ شَهَواتِ المِزْهَرِيَّةِ.
البَياضُ عُشُّ الخَيالِ.
البَياضُ شُعاعٌ يَتَرَبَّصُ بِهِ القَنّاصُ،
لَكِنَّهُ يَتَخَلَّصُ مِنَ الأَسْرِ ويَتَسَرَّبُ مِنْ عُيونِ الغِرْبالِ.
البَياضُ يَغْمُرُ التِّلْميذَةَ التي تُنَظِّفُ النُّجومَ مِنَ الغُبارِ.
البَياضُ البَياضُ البَياضُ.
هَلْ كانَ بَياضَ الثَّلْجِ أَمِ الكَفَنِ أَمِ الوَرَقِ أَمِ الجَنَّةِ؟!
أُحِبُّ النّارَ التي تُنْضِجُ التّينَ،
وتَجْعَلُ الصُّبّارَ عَريضاً مِثْلَ أُذُنَيْ فيلٍ إِفْريقِيٍّ.
أَكْرَهُ النّارَ التي في البُنْدُقِيَّةِ والبُرْكانِ وفَمِ التِّنّينِ،
ورُعاةِ البَرْلَمانِ العُراةِ كَظَهيرَةٍ شِرّيرَةٍ.
لا أَقْرَأُ الأُجْرومِيَّةَ ولا أَلْفِيَةَ ابْنِ مالِكٍ،
لَكِنَّني لا أَرْفَعُ الذِّئْبَ ولا أَجُرُّ الشّاعِرَ إِلى الجَحيمِ.
بَسيطٌ مِثْلَ بُسْتانِيٍّ مُتَقاعِدٍ،
راضٍ مِثْلَ نَهْرٍ ناءٍ لا تَغْتَسِلُ فيهِ الأَميرَةُ.
لَنْ يَنْقُصَني شَيْءٌ إِذا كُنْتُ نَهْراً،
تَغْسِلُ فِيَّ العَجائِزُ صُوفَ الماعِزِ الجَبَلِيِّ.
في كِلْتا الحالَتَيْنِ سَأَظَلُّ النَّهْرَ.
لا فَرْقَ بَيْنَ شَعْرِ الأَميرَةِ وبَيْنَ صوفِ الماعِزِ.
أَخيراً سَيَكونُ لي مَصَبٌّ في البَحْرِ.
صارَ لي مَصَبٌّ في البَحْرِ.
صِرْتُ ابْنَ البَحْرِ.
يَشيخُ البَحْرُ فَيَموتُ، والأَمْواجُ اليَتيمَةُ تَموتُ.
ولأَنَّني الوَريثُ الوَحيدُ أَصيرُ البَحْرَ!
وُلِدْتُ مِنْ أَبٍ يُرَبّي الأَنْعامَ،
ويَقُصُّ أَصْوافَ صِغارِها في الصَّيْفِ،
ويَبيعُ الخَضْراواتِ في السّوقِ الأُسْبوعِيِّ،
ويَهَبُ التّينَ المُجَفَّفَ لِصِبْيانِ المَقْبَرَةِ.
ومِنْ أُمٍّ تَبْني الفَزّاعَاتِ لطَرْدِ البُومِ،
وتُخَضِّبُ كَفَّيَّ الصَّغيرَتَيْنِ بِحِنّاءِ العيدِ،
ولأَنَّني كُنْتُ أَحْسِبُ الحِنّاءَ دَماً،
كُنْتُ أَهْرُبُ وأَحْتَمي بِتَشابُكِ أَغْصانِ الصُّبّارِ،
وحينَ كَبُرْتُ عَلِمْتُ أَنَّ الزَّمَنَ،
أَقْسى مِنَ الدَّمِ ومِنَ الصُّبّارِ..
الزَّمَنُ نارٌ تَتَّقِدُ يَوْمِيّاً.
لا تَحْتاجُ حَطَباً أَوْ وَبَرَ الحَميرِ،
لا تَحْتاجُ ذُؤابَةً أَوْ عودَ ثِقابٍ،
لا تَحْتاجُ سيقانَ الذُّرَةِ ولا الأَعْشابَ الطُّفَيْلِيَّةَ،
لا تَحْتاجُ رَجُلاً بِدائِيّاً يَحُكُّ حَجَرَيْنِ،
الزَّمَنُ يَشْتَعِلُ تِلْقائِيّاً،
يَشْتَعِلُ ولا يَنْطَفِئُ بَعْدَ ذَلِكَ،
لأَنَّ لُحومَنا المُلْتَهِبَةَ أَضْحَتْ حَطَباً وُجودِيّاً،
وأَضْحى مَوْتُنا ميلودْراما في المَسْرَحِيَّةِ الأَخيرَةِ.
وُلِدْتُ قُرْبَ الفُرْنِ. في صَباحٍ ماطِرٍ.
أَبي نَشَرَ الخَبَرَ. جَدَّتي حَمَلَتْ حَطَباً.
الكَلْبَةُ نَبَحَتْ. الجارَةُ زَغْرَدَتْ.
ذُبِحُ ديكٌ. رُبَّما ديكانِ. صارَ لي اسْمٌ.
وعِنْدَما كَبُرْتُ لَمْ يَعُدْ لي اسْمٌ.
غَريبٌ في سَدومَ، غَريبٌ في عَمّورِيَّةَ،
غَريبٌ في مَدْيَنَ، غَريبٌ في أُورْشَليمَ،
غَريبٌ في أَثينا، غَريبٌ في إِسْبارْطَةَ،
غَريبٌ في بابِلَ، غَريبٌ في بَرْشيدَ..
دَمُ الشَّمالِ وَطَني،
أَمْ خَيالُ البِطْريقِ أَمْ مَصَبُّ البَحْرِ أَمِ الغابَةُ أَمِ الجَنَّةُ؟
لا أَعْلَمُ. لا أَعْلَمُ.
كُلٌّ ما أُدْرِكُهُ أَنَّني أَكْرَهُ النّارَ التي تُحْرِقُ الأَعْشابَ.
أُحِبُّ النّارَ التي هِيَ النّورُ.
لا يَتَعَلَّقُ الأَمْرُ بِحادِثَةٍ بَلاغِيَّةٍ في مُلْتَقى المَجازِ.
لا يَتَعَلَّقُ الأَمْرُ بِجِناسٍ لَفْظِيٍّ لَطيفٍ.
لا يَتَعَلَّقُ الأَمْرُ بِمَعْنى لَقيطٍ يَحْمِلُهُ التَّأْويلُ.
أَعْرِفُ ما أَقولُ.
أُحِبُّ النّارَ التي لا تُؤْذي النّورَ.
أُحِبُّ النّارَ التي هِيَ النّورُ!
أَنا لَسْتُ ابْنَ اللهِ.
أَنْتَ شَبيهٌ ولَسْتَ الأَصْلَ.
الجيناتُ والرَّحِمُ والبُوَيْضَةُ وخُروجُ الصَّرْخَةِ مِنَ الفوهَةِ.
هَلْ كُنْتُ قَبْلَئِذٍ؟
أَيْنَ عُشُّ العَنْكَبوتِ الذي كانَ في كوخِ جَدّي مِنْ أُمّي؟
ماتَ جَدّي ماتَ العَنْكَبوتُ ماتَ النَّهارُ.
في الغَبَشِ الخَفيفِ رَأَيْتُ أَنَّ القِبابَ قَريبَةٌ.
سَمِعْتُ الباعَةَ المُتَجَوِّلينَ يَبيعونَنا في المَزادِ.
في قِبابِ البَرْلَمانِ النّارُ.
لا وُجودَ للنّورِ.
الغابَةُ هُناكَ والنَّسْناسُ ومالِكٌ الحَزينُ،
والبَبَّغاواتُ يُكَرِّرْنَ ما يَقولُهُ العَبَثُ.
أَنا لَسْتُ ابْنَ اللهِ، لَكِنْ يَحِقُّ لي أَنْ أَعيشَ.
لِماذا أُباعُ مِثْلَ أَيِّ شَيْءٍ؟
لَسْتُ شَيْئاً. لَسْتُ أَيَّ شَيْءٍ.
لِماذا تَصيرُ جَذوعُ الأَشْجارِ صُلْباناً،
وتَصيرُ خَيوطُ الكَمَاناتِ مَشانِقَ؟!
أَكْرَهُ الذُّبابَ والبَعوضَ ولُغَةَ المُعَلَّقاتِ،
على عَكْسِ أَصْدِقائي.
أَكْرَهُ المَرْأَةَ التي تَتْرُكُني أَنْتَظِرُ في الحَديقَةِ،
وتَهْرَعُ لاسْتِقْبالِ ثَعْلَبٍ جاءَ تَوّاً مِنَ الغابَةِ.
أَكْرَهُ الرُّمّانَةَ البَدينَةَ التي تَفْتَحُها
فَتَجِدُ حَبّاتٍ حَمْراواتٍ مِنَ الرَّصاصِ.
أَكْرَهُ الماءَ المِزاجِيَّ؛
فَمَرَّةً يَكونُ بُحَيْرَةً ومَرَّةً يَكونُ طوفاناً.
أَكْرَهُ كَذَلِكَ الدَّمَ الذي سالَ بَيْنَ العُمَرَيْنِ:
ابْنِ كَلْثومَ وابْنِ هِنْدٍ.
لا فَرْقَ بَيْنَ ذَلِكَ الدَّمِ البَشَرِيِّ،
وبَيْنَ الدّمِ الذي يَسيلُ بَيْنَ حِمارٍ وَحْشِيٍّ وضَبُعٍ.
أُحِبُّ الجَواميسَ الصّامِدَةَ،
وهْيَ تَغْرِسُ قُرونَها في أَجْسامِ اللَّبوءاتِ،
فَلَيْسَ عَدْلاً أَنْ يَظَلَّ الأَسَدُ مَلِكاً.
أَكْرَهُ الغابَةَ لأَنّها دَوْلَةٌ نازِيَّةٌ وعِرْقِيَّةٌ،
وأُحِبُّ الحُقولَ والوِدْيانَ لأَنَّها ديمُقْراطِيَّةٌ.
وأَميلُ، عاطِفِيّاً، إِلى الفراشاتِ، لأَنّهُ لا وَزْنَ لَها،
وعلى الرَّغْمِ مِنْ ذَلِكَ،
تَسْتَطيعُ أَنْ تَصْعَدَ فَوْقَ الأَغْصانِ العاليَةِ،
بَيْنَما الضَّفادِعُ تَنْزِلُ إِلى المُسْتَنْقَعاتِ،
كَما تَصْنَعُ طَيّاراتُ الوَرَقِ المَثْقوبَةُ،
أَوْ كَما يَصْنَعُ البَرْلَمانِيّونَ في آخِرِ حَياتِهِمْ!
أُحِبُّ الحَيَواناتِ الصَّغيرَةَ. أَكْرَهُ الأَسَدَ.
لا أَعْرِفُ لِماذا. أُحِبُّ الفيلَ رَغْمَ أَنَّهُ كَبيرٌ.
الفيلُ كَالزَّمَنِ يَمُرُّ ولا أَحَدَ يَقْتَرِبُ مِنْهُ.
الأَسَدُ نارٌ وكَراهِيَتُهُ نورٌ.
القِرَدَةُ أَنانِيَةٌ. الذُّبابُ حَقيرٌ.
الفَراشاتُ أَخَفُّ مِنْ وُجودِها.
الوُجودُ الفَراشِيُّ هُلامِيٌّ.
الغُدْرانُ دَفّاقَةٌ كالنّورِ. البَحْرُ لَيْسَ نوراً.
الأَمْواجُ تِيارٌ كَهْرَبائِيٌّ.
الدَّلافينُ أَفْكارٌ تَقْليدِيَّةٌ.
الدَّمُ لَمْ يَبْقَ في الشَّمالِ.
الثَّلْجُ والبِطْريقُ وبَياضُ الوَرَقَةِ وبَياضُ التِّلْميذَةِ.
لا وُجودَ للقَذيفَةِ.
القُدْسُ تَخْرُجُ مِنَ الغابَةِ.
غانْدي يلَوّحُ والجِنِرالُ يَتَجَمَّدُ.
تَعاليمُ غانْدي لا تَموتُ،
والجِنِرالُ يَموتُ.
لا يُمْكِنُ أَنْ تَنْهَزِمَ البَشَرِيَّةُ في الحَرْبِ الإلِكْترونِيَّةِ،
لا بُدَّ مِنْ غابَةٍ تُزْهِرُ ونَهْرٍ يَتَدَفَّقُ وثَدْيٍ يُرْضِعُ طِفْلاً.
لا بُدَّ مِنْ طَريقٍ،
طَريقٍ حُرَّةٍ مِثْلَ مومِسٍ،
فالقافِلَةِ تَتَأَهَّبُ للهِجْرَةِ إلى قِمَّةِ الجَبَلِ؛
الجَبَلِ الذي لا يَميدُ ولا يَتَحَرَّكُ أَمامَ العاصِفَةِ؛
الجَبَلِ الذي غَرَسَ اللهُ في قِمَّتِهِ رايَةً بَيْضاءَ،
إِشارَةً مِنْهُ بِأَنَّ الحَرْبَ انْتَهَتْ..
قَدْ لا أَكونُ ابْنَ اللهِ.
أَنا حَقّاً لَسْتُ ابْنَ اللهِ،
لَكِنَّني سَأُغادِرُ الغابَةَ وأَعْتَزِلُ نارَها،
سَأَبْحَثُ عَنِ النّارِ التي هِيَ النّورُ!
عاد موسى ولم يجد رمسيس
الأَفْكارُ يُزَجُّ بِها في السِّجْنِ،
والذي لا يُفَكِّرُ لا خَوْفَ عَلَيْهِ ولا هُوَ يَحْزَنُ،
والمومْياواتُ الفارِغَةُ تَجوبُ الغابَةَ طَليقَةً!
المُفَكِّرُ يُصْلَبُ.
المومْياءُ تُتَوَّجُ.
عادَ موسى ولَمْ يَجِدْ رَمْسيسَ. صارَ مُومْياءَ.
حَمَلَ عَصاهُ وعادَ إِلى أُورْشَليمَ.
عَيْبٌ أَنْ نُحارِبَ خَيالاً مُحَنَّطاً في صُنْدوقٍ مِنْ خَشَبٍ!
عادَ المُزارِعُ بَعْدَ سَنَواتٍ،
ولَمْ يَجِدِ المَرْأَةَ ذاتَ العَيْنَيْنِ القُرْمُزِيَّتَيْنِ في الكوخِ.
كانَتْ حَماتُهُ تُوقِدُ النّارَ في الفُرْنِ الحَجَرِيِّ.
عادَ الغريبُ مِنْ وَراءِ البَحْرِ ولَمْ يَجِدْ أُمَّهُ،
لَقَدْ أَكَلَها الطّاعونُ.
عادَ الجُنْدِيُّ مِنَ الثَّكَنَةِ ولَمْ يَجِدِ الماضِيَ،
لَقَدْ أَطْلَقَ النّارَ عَلَيْهِ أَحَدٌ في مَكانٍ ما.
النّارُ اشْتَعَلَتْ في الفُرْنِ،
والمَرْأَةُ ذاتُ العَيْنَيْنِ القُرْمُزِيَّتَيْنِ،
تَمْسَحُ الغُبارَ المَنْثورَ فَوْقَ مُسَدَّسِ الجُنْدِيِّ.
الغَريبُ ذَهَبَ إِلى المَقْبَرَةِ للزِّيارَةِ.
والمُزارِعُ أَلْقَى بِنَفْسِهِ في النَّهْرِ.
والجُنْدِيُّ يَأْكُلُ العَيْنَيْنِ القُرْمُزِيَّتَيْنِ في القَبْوِ.
والسّارِدُ لا يَكْتَرِثُ لِما يَحْدُثُ،
لِذَلِكَ فَهُوَ طَليقٌ مِثْلَ حَمامٍ،
فارِغٌ مِثْلَ ضَبابٍ،
مُمْتَلِئٌ مِثْلَ قَبْرٍ،
سادِيٌّ مِثْلَ إِبْرَةِ في يَدِ خَيّاطٍ،
طُفولِيٌّ مِثْلَ قِناعِ بَهْلَوانٍ،
لا يُفَكِّرُ أَبَداً،
لأَنَّهُ مُدْرِكٌ أَنَّ الأَفْكارَ سَيُزَجُّ بِها في السِّجْنِ!
مِثْلَ خُفّاشٍ حَقيقِيٍّ،
أَنْتَظِرُ اللَّيْلَ لأَخْتَبِئَ مِنَ النَّهارِ،
مِثْلَ طَلْقَةٍ نَفَدَ صَبْرُها،
أَنْتَظِرُ خُروجَ جَسَدٍ عَدُوٍّ لأَسْكُنَهُ.
مِثْلَ صَنّارَةٍ سادِيَّةٍ،
أَنْتَظِرُ سَمَكَةً ضالَّةً كَيْ أَحْتَجِزَها.
مِثْلَ حَيَوانٍ مازوشِيٍّ،
أَنْتَظِرُ حَيَواناً آخَرَ أَكْبَرَ مِنّي لِيَقْتُلَني.
مِثْلَ مُتَصَوِّفٍ قَديمٍ،
أَنْتَظِرُ الشَّمْسَ لأُجَفِّفَ أَفْكاري..
عادَ المَسيحُ ولَمْ يَجِدِ الحَوارِيّينَ.
عادَ السّارِدُ ولَمْ يَجِدِ الثَّعْلَبَ.
عادَ الثَّعْلَبُ ولَمْ يَجِدْ مالِكاً الحَزينَ.
عادَ مالِكٌ الحَزينُ ولَمْ يَجِدِ الحَمامَةَ.
عادَتِ الحَمامَةُ ولَمْ تَجِدِ العُشَّ.
العُشُّ لَمْ يَجِدِ الغُصْنَ.
الغُصْنُ لَمْ يَجِدِ الشَّجَرَةَ.
الشَّجَرَةُ لَمْ تَجِدِ المَكانَ.
المَكانُ لَمْ يَجِدِ السّارِدَ.
أَنا لَمْ أَجِدْني!
لا أَحَدَ يَجِدُ أَحَداً، الوُجودُ غِيابٌ آخَرُ،
المَعْنى كِسْرَةُ خُبْزٍ في فَمِ كَلْبَةِ.
النُّباحُ هُوَ الإيقاعُ الذي تَنْفَرِدُ بِعَزْفِهِ الأَحْراشُ.
لا أَحَدَ يُفَكِّرُ في أَحَدٍ.
التَّفْكيرُ صَدَأٌ في المِحْراثِ،
التَّفْكيرُ فَخٌّ في الرَّبْوَةِ مُغَطًّى بِالأَعْشابِ،
التَّفْكيرُ قَفَصٌ وتابوتٌ بَيْنَهُما دَمُ وَرْدَةٍ،
التَّفْكيرُ بُرْكانٌ نائِمٌ فَوْقَ هَضَبَةٍ في العَقْلِ،
التَّفْكيرُ غِرْبالٌ تَتَساقَطُ مِنْ عُيونِهِ حَبّاتُ العَدَمِ،
التَّفْكيرُ هُوَ الإِقامَةُ الدّائِمَةُ بِجِوارِ الإِعْصارِ..
اللهُ خَلَقَ الأَرْضَ على الشّاكِلَةِ التي تَعْرِفونَ،
وهُوَ قادِرٌ على إِنْشائِها مِنْ جَديدٍ على شاكِلَةٍ أُخْرى.
وغَضِبَ اللهُ غَضَباً شَديداً.
دَمُ المَرْأَةِ ذاتِ العَيْنَيْنِ القُرْمُزِيَّتَيْنِ،
يُخَضِّبُ الفِراشَ والمُسَدَّسَ والسَّتائِرَ،
وغِطاءَ المائِدَةِ وصوفَ الزَّرْبِيَّةِ وأَسْنانَ الجُنْدِيِّ والظِّلَّ.
والمُزارِعُ عادَ مِنَ المَقْبَرَةِ فَأَلْقَتْهُ حَماتُهُ في النّارِ.
والجُنْدِيُّ صارَ خُفّاشاً. وأَنا في مَكانٍ ما.
ولَكِنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقِ الكُهوفَ بَعْدُ.
كانَتِ الأَرْضُ مُنْبَسِطَةً مِثْلَ سَجّادَةٍ.
وكانَتِ السَّماءُ زُرْقَةً سادِيَةً تَأْكُلُ الفَراغَ.
وكانَتِ الشَّياطينُ عاجِزَةً عَنِ الوُصولِ إِلى قَوْسِ قُزَحٍ.
وكانَ المَلائِكَةُ نوراً جائِعاً يَبْتَلِعُ الأَلْوانَ،
ما عَدا الأَبْيَضَ الذي في المَلَكوتِ؛
الأَبْيَضَ المُحايِدَ كَموسى الحِلاقَةِ؛
الأَبْيَضَ الحادَّ كَصِراطٍ مُسْتَقيمٍ؛
الأَبْيَضَ الذي يَغْتالُ العَتَمَةَ كَفارِسٍ حَقيقِيٍّ؛
الأَبْيَضَ الذي يَنْشُبُ أَظْفارَهُ في اللَّيْلِ؛
الأَبْيَضَ المُتَحَفِّزَ للانْقِضاضِ على ما حَوْلَهُ.
لا أَحَدَ بِمَقْرُبَةٍ مِنَ الأَبْيَضِ سِوايَ.
أَنا الأَبْيَضُ الشَّبيهُ، الأَبْيَضُ الاِسْتِعارَةُ،
أَنا النُّسْخَةُ الثّانِيَةُ؛ النُّسْخَةُ التي لَمْ تُنَقَّحْ بَعْدُ،
النُّسْخَةُ البِكْرُ التي لَمْ يَمْسَسْها رَجُلٌ،
أَمّا النُّسْخَةُ الأُولى مِنَ البَياضِ الجَوْهَرِيِّ،
فَلا أَحَدَ يَمْلِكُها إِلاّ اللهُ!
عادَ المُؤَرِّخُ مِنَ الماضي ولَمْ يَجِدِ ”ابْنَ زَيْدونَ“.
لَمْ يَكُنْ في الأَنْدَلُسِ: لا في إِشْبيلْيَةَ،
لا في غَرْناطَةَ، لا في قَصْرِ الحَمْراءِ..
كانَ يُقيمُ بِقَلْبِ ”وَلاّدَةَ بِنْتِ المُسْتَكْفي“!
وقَبْلَ الزَّمَنِ الجْيولوجِيِّ الثّاني،
غَضِبَ رَبّي غَضَباً شَديداً،
فأَمَرَ الأَرْضَ أَنْ تَتَمَدَّدَ مِثْلَ أَفْعى.
لا عُلُوَّ لا انْحِدارَ. لا جِهاتٍ لا جُغْرافِيا.
وأمَرَ السَّماءَ أَنْ تَظَلَّ في مَكانِها،
سَقْفاً أَزْرَقَ رَيْثَما يَكْتَمِلُ الخَلْقُ.
وأَمَرَ نَهْرَ الأَبَدِيَّةِ أَنْ يُقَسِّمَها شَطْرَيْنِ:
ضِفَّتُهُ اليُمْنى جِبالٌ بِها كُهوفٌ،
وضِفَّتُهُ اليُسْرى مُسْتَنْقَعاتٌ بِها وَحَلٌ.
وأَمَرَ الرِّجالَ فَصاروا خَفافيشَ،
وأَمَرَ النِّساءَ فَصِرْنَ ضَفادعِ،
وشاءَتْ مَشيئَتُهُ أَنْ يُقيمَ كُلُّ خُفّاشٍ بِكَهْفٍ،
وكُلُّ ضِفْدَعَةٍ بِمُسْتَنْقَعٍ،
وكُلُّ امْتِلاءٍ جائِعٍ بِفَراغٍ كَريمٍ،
ولا وُجودَ لِبَشَرِيٍّ على الأَرْضِ،
ولا وُجودَ لأَرْضٍ على الأَرْضِ،
ولا وُجودَ لِوُجودٍ خارِجَ المَأْلوفِ المُلْتَبِسِ..
هَلْ أَنا المُفَكِّرُ خارِجَ العادَةِ؟
أَمْ أَنا اللاّمُفَكَّرُ فِيَّ؟
هَلْ أَنا الفِكْرَةُ؟
أَمِ التَّفْكيرُ الذي تاهَ في الغابَةِ؟
أَمِ الغابَةُ التي تاهَتْ في التَّفْكيرِ؟
أَمْ أَنا عَجَلَةٌ تَدوسُ الفِكْرَةَ وتَهْرُبُ؟
وحينَ تَخْتَفي العَجَلَةُ في الغُروبِ،
مَنْ يَكونُ قَدْ ماتَ:
الحَشَرَةُ أَمْ أَنا أَمِ الفِكْرَةُ أَمِ الشَّبيهُ؟!
ولأَنَّني لَمْ أَكُنْ جُنْدِيّاً، ولا غَريباً، ولا مُزارِعاً،
فَقَدْ أَمَرَ اللهُ أَنْ أَصيرَ النَّهْرَ.
الكُهوفُ عَنْ يَميني والمُسْتَنْقَعاتُ عَنْ شِمالي.
كانَتِ الخَفافيشُ تَخْرُجُ لَيْلاً بَحْثاً عَنِ الضَّفادِعِ،
لَكِنَّني كُنْتُ أَمْنَعُ هَذا اللِّقاءَ.
لا وُجودَ للشَّهْوَةِ في مَمْلَكَةِ اللهِ.
لا وُجودَ للأَفْكارِ في الجاهِزِ المُطْلَقِ.
لا وُجودَ لِوُجودٍ آخَرَ يُمْليهِ شَغَفُ الحاسَّةِ.
كُنْتُ أَسْمَحُ فَقَطْ بِالرَّغْبَةِ تَخْرُجُ؛
تَخْرُجُ مِنَ الصَّدْرِ عارِيَةً مِثْلَ سُقوطِ الثَّلْجِ،
وأَسْمَحُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالمَناديلِ تُرْفَعُ،
والآهاتِ تَتَسَرَّبُ،
والجَسَدَ يَتَصالَحُ مع الرُّمْحِ الذي يَخْتَرِقُهُ،
والشَّهَواتِ تُغادِرُ الشَّرْنَقاتِ اليابِسَةَ،
والقُبُلاتِ الجائِعَةَ تُرْمى في الهَواءِ..
عادَ ”غُودُو“ ولَمْ يَجِدْ ”صَمْويلْ بيكيتْ“.
عادَتْ ”زَرْقاءُ اليَمامَةِ“ ولَمْ تَجِدِ السّارِدَ.
عادَ ”كُلَيْبٌ“ ولَمْ يَجِدِ ”البَسوسَ“.
عادَ أَبي ولَمْ يَجِدْ أُمّي.
عادَتْ أُمّي ولَمْ تَجِدْ أَبي.
عادَ الأَمْواتُ لَكِنَّهُمْ وَجَدوا الأَفْكارَ،
قَدْ زُجَّ بِها في السِّجْنِ الوَطَنِيِّ..
وانْتَهَتِ العُقوبَةُ،
وأُطْلِقَ سَراحُ المُتَّهَمينَ،
وتَمَّ العَفْوُ على كَثيرٍ مِنَ الأَفْكارِ التي لا خَوْفَ مِنْها،
وأَنْشَأَ اللهُ الأَرْضَ على الشّاكِلَةِ الأُولى.
وانْفَصَلَتِ المُحيطاتُ عَنِ اليابِسَةِ،
والكُهوفُ ابْتَعَدَتْ عَنِ النَّهْرِ،
وأَنا لَمْ أُعاقَبْ يَوْمَئِذٍ،
لأَنَّني السّارِدُ الذي لا خَوْفَ عَلَيْهِ ولا هُوَ يَحْزَنُ،
السّارِدُ الأَبْيَضُ كَقَلْبِ حَمامَةٍ داخِلَ لَوْحَةٍ تَجْريدِيَّةٍ،
أَمّا السَّماءُ فَظَلَّتْ في مَكانِها سَقْفاً أَزْرَقَ.
والمَلائِكَةُ مُقيمونَ في المَلَكوتِ.
واللَّوْحُ والقَلَمُ لَمْ يَبْرَحا مَكانَهُما..
وأَمَرَ اللهُ وأَمْرُهُ مُطاعٌ،
فَصارَتِ الخَفافيشُ رِجالاً،
وصارَتِ الضَّفادِعُ نِساءً.
وبَعَثَ اللهُ المَرْأَةَ ذاتَ العَيْنَيْنِ القُرْمُزِيَّتَيْنِ،
في صورَةٍ أَجْمَلَ،
وحَمَلَها المُزارِعُ على الأَتانِ ومَشَى بِها في اتِّجاهِ قَلْبِهِ.
وأَحْيا اللهُ أُمَّ الغَريبِ وكانَتْ مِنْ قَبْلُ رَميماً،
وأَمَرَ المَطَرَ فانْسَكَبَ في عَطَشِ الحَواسِّ،
وأَمَرَ القُرى جَميعَها،
فَزَرَعَ فِتْيانُها أَكْثَرَ مِنْ قَمَرٍ في لَيْلِها.
وعاقَبَ الجُنْدِيَّ والحَماةَ كِلَيْهِما،
فَصارا فَزّاعَتَيْنِ لا تُخيفانِ أَحَداً..
ومَرَّتِ الأَيّامُ،
فَبَنى النّاسُ ضَريحاً لِلْجُنْدِيِّ وآخَرَ لِلْحَماةِ.
وصارُوا يَتَبَرَّكونَ بِهِما، ويُشْعِلونَ الشُّموعَ
ويُقَدِّمونَ القَرابينَ. وقَبْلَ أَنْ يَغْضَبَ اللهُ غَضَباً شَديداً،
دَعَوْتُهُ لأَصيرَ نَهْرَ الأَبَدِيَّةِ العَظيمَ،
وحينَ بَلَّلَتْني الأَفْكارُ،
مِثْلَ إِسْفَنْجَةٍ تَتَمَدَّدُ تَحْتَ صُنْبورٍ،
عَلِمْتُ بِأَنَّني أُمِرْتُ مِنْ عَلُ؛
ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ اسْتَجابَ لي..
الفِرْعَوْنُ يُحِبُّ العَروسَ. العَروسُ تُحِبُّ النّيلَ.
النّيلُ لا يُحِبُّ الفِرْعَوْنَ. الفِرْعَوْنُ لا يُحِبُّ القُرْبانَ.
السّارِدُ يُحِبُّ النّيلَ والعَروسَ، ولا يُحِبُّ الفِرْعَوْنَ.
أَنا صَلْصالٌ نُفِخَتْ فِيَّ روحٌ.
لَسْتُ فِرْعَوْناً ولَسْتُ مِنْ سَدَنَةِ الْمَعْبَدِ.
أَنا مُجَرَّدُ فِكْرَةٍ زُجَّ بِها في سِجْنِ القَلْعَةِ العَتيقَةِ،
بِتُهْمَةِ الاقْتِرابِ مِنَ الأَزْهارِ المَلَكِيَّةِ،
والتَّحَرُّشِ بِعُطورِها العَذْراءِ..
لَمْ أَكُنْ جاسوساً،
ولا عَشيقاً سِرِّيّاً للخادِمِ البَدينَةِ في القَلْعَةِ،
وصِلَتي بما حَدَثَ هِيَ أَنَّني رَأَيْتُ الفَتاةَ تَغْرَقُ في النَّهْرِ،
فانْدَفَعْتُ لإِنْقاذِها مِنَ المَوْتِ الوَشيكِ،
أَبوها أَطْلَقَ عَلَيَّ الرَّصاصَ،
وأَنا نَجَوْتُ بِأُعْجوبَةٍ،
والفَتاةُ تَبِعَتْني عارِيَةً كَسَحابَةٍ شَتْوِيَّةٍ،
وأَنا خَلَعْتُ روحي وغَطَّيْتُها بِها!
عادَ المَسيحُ ولَمْ يَجِدِ الحَواريّينَ.
عُدْتُ أَنا فَلَمْ أَجِدِ الضَّريحَيْنِ.
صِرْتُ نَهْراً.
عَنْ يَميني كُهوفٌ وعَنْ يَساري مُسْتَنْقَعاتٌ.
الرِّجالُ صاروا خَفافيشَ والنِّساءُ صِرْنَ ضَفادِعَ..
صِرْتُ نَهْراً وكُنْتُ مُطيعاً لِتَعاليمِ اللهِ.
لَنْ أَسْمَحَ لِخُفّاشٍ ولا لِضِفْدَعَةٍ بِالسِّباحَةِ.
لَنْ أَسْمَحَ بالجَمْعِ بَيْنَ العَطَشِ والماءِ.
لَنْ أَسْمَحَ لأَحَدٍ مِنَ العالَمينَ،
بِالخُروجِ عَنِ الطّاعَةِ وارْتِكابِ المَعْصِيَةِ.
الغَريبُ والمُزارِعُ والسّارِدُ،
لا يُقيمونَ في كَهْفٍ ولا مُسْتَنْقَعٍ.
كانوا فَراشاتٍ مُلَوَّنَةً يَمْرُرْنَ مِنْ فَوْقي ويُلْقينَ التَّحِيَّةَ،
وقَبْلَ أَنْ تَبْتَعِدَ الفَراشاتُ وتَنْأَى،
أَحْتَجِزُ ظِلالَها في قَلْبي..
أَخافُ أَنْ أَعودَ يَوْماً.
أَقْتُلُ حارِسَ السِّجْنِ بِالقَلْعَةِ،
أَوْ أُقْنِعُهُ بِأَنَّني لَسْتُ لِصّاً في سوقٍ أُسْبوعِيٍّ،
بَلْ إِنَّني فِكْرَةٌ تُحِبُّ النُّسورَ والسُّحُبَ،
فَإِذا اقْتَنَعَ وجَنَحَ للمُسالَمَةِ فَتَحَ البابَ فَخَرَجْتُ،
وإِذا قاوَمَ قَتَلْتُهُ ورَمَيْتُهُ في بُحَيْرَةِ التَّماسيحِ،
تِلْكَ التي في رُكْنٍ ما داخِلَ أَسْوارِ القَلْعَةِ،
وأَنا في كِلْتا الحالَتَيْنِ هارِبٌ لا مَحالَةَ،
وأَخافُ أَنْ أَعودَ بَشَرِيّاً، فَأَرْتَكِبَ الخَطيئَةَ.
أَعْشَقُ ضِفْدَعَةً..
يَغْضَبُ اللهُ غَضَباً شَديداً..
يَأْمُرُني – وأَمْرُهُ مُطاعٌ – فَأَصيرُ خُفّاشاً!
الله لَيْسَ مُرْتَفِعاً. اللهُ لَيْسَ مُنْخَفِضاً.
اللهُ فَوْقَ الأَمْكِنَةِ والجِهاتِ.
الضَّفادِعُ أَرْضِيَّةٌ والخَطاطيفُ سَماوِيَّةٌ.
اللهُ لا أَرْضِيٌّ لا سَماوِيٌّ.
اللهُ لا زَمانِيٌّ لا مَكانِيٌّ. اللهُ مُطْلَقٌ.
أَنا لَسْتُ خُفّاشاً.
أَنْتَ لَسْتَ خُفّاشاً.
الصَّدَأُ لَنْ يَصيرَ ذَهَباً،
والتّابوتُ لَنْ يَصيرَ مِزْهَرِيَّةً،
وما دامَ الأَمْرُ كَذَلِكَ،
فَلْنُحاوِلْ أَنْ نَكونَ رومانْسِيّينَ قَليلاً،
فَالثَّلْجُ لَيْسَ ضَرورِيّاً أَنْ يُشْبِهَ الكَفَنَ،
يُمْكِنُهُ أَنْ يُشْبِهَ وِلادَةَ فَجْرٍ مِنْ وَراءِ الهَضَبَةِ.
أَنا لَسْتُ خُفّاشاً.
أَنْتَ لَسْتَ خُفّاشاً.
هُوَ لَيْسَ خُفّاشاً.
الآخَرونَ بِإِمْكانِهِمْ أَنْ يَغْمُرَهُمْ بَياضُ اللهِ،
فلا يَصيرونَ خَفافيشَ قَطُّ.
نَحْتاجُ إِلى خُبْزَةِ مَحَبَّةٍ نَأْكُلُها مَعاً في الطَّريقِ؛
الطَّريقِ إِلى اللهِ..