قد لا يبدو العنوان في هذه الرواية محكومًا بالفهم المسبق، أو أنه عتبة أولى، أو كما أسّميه بوابة الدخول الى مدينة الرواية… فهو عنوانٌ قد يكون ليس من الناحية الجمالية، بل من الناحية الدلالية أمر أريد له أن يكون كذلك، حتى لا يكشف عن أدواته مع البدايات الأولى للدخول الى مدينة الرواية، والدوران في شوارعها وأزقّتها. وهو أمرٌ قد يحسب للمنتج، كونه جعل من العنوان واحدًا من أماكن فكرة الرواية أكثر منه دليل الحكاية…..
وما أن تقرأ الاستهلال وتربطه مع المعرفة الشخصية لعمل المنتج، حتى تكون عملية البحث عن التأويل أقل حدّة… وتحال الانزياحات الى تلك المعرفة، ليكون التأويل أنها رواية سيرةٍ ذاتية لرجل يعمل بالصحافة، ولكن هكذا الأمر سنغادره بعد أن نغادر العنوان واسم المنتج وندخل في أروقة المكان والأسماء التونسية، كالنهج الذي يعني شارع، والنزل الذي يعني فندق. هو الأمر الذي يعني في عملية الربط بين المقدّمة التي وضعها كلوحٍ إعلاني مقدّمًا حتى على الإهداء في ترتيب الصفحات الروائية، حتى قبل الصفحة الإعلانية لمعلومات دار النشر، وكأن هذه المقدّمة هي المهاد الذي على المتلقّي أن يبقى في حيّزها المكاني الذي يشير بعد ذلك الى كلّ الأمكنة التي ترتبط سواء بالصراع مع الشخصيات أو صراع العمل أو الأماكن التي تسعى وترتبط وتطارد وتلاحق وتنتمي لها ثيمة الرواية وحبكتها. ( أدخلتني الصحافة إلى الأدب وفتح الأدب بصيرتي على عوالم جديدة لم يكن من السّهل إدراكها لولا التسلّح بالخلفيّة الصحفيّة التي تجعلك باستمرار قادرا على طرح السؤال). لذا فإن هذه المقدّمة مع أرقام الفصول دون عناوين، ستسير اللعبة التدوينية على وفق أنساقٍ ومستوياتٍ سرديةٍ تحاول الوصول الى العنوان، الذي يقبع في منتصف الحكاية التي تبقى هي الأساسية في غلبتها على الفكرة، من خلال تبويب الصراع المستمر وهو صراع شخصي يشير الى متاعب العمل الذي طرحه على شكل سؤال في مقدّمته.
الاستهلال ومنصات الحكي ..
يلعب الاستهلال لعبة البطل الأوّل في الرواية، في جناحيها المتن الحكائي والمبنى السردي الذي يرتبط بالفكرة، لكنه هنا يرتبط أيضا بالحكاية بدرجةٍ معقولةٍ وأكثر التصاقًا. ولأن الحكاية تعلن عن وجود شخصيةٍ تعمل في الصحافة التي يتبيّن بعدها في بعدها التاريخي، مذ كان طالبًا وقد سعى على أثر هذا الحب الى تأسيس جريدةٍ خاصة به في مدينته، والتي هي خارج العاصمة كما يوضّح لنا الراوي في الاستهلال الذي يتحدّث بصيغة الغائب، وهو راوٍ ينيب عن اثنين في هذا الرواية. فهو ينيب عن الروائي مثلما ينيب عن الشخصية المروي عنه. ليتبيّن أنه هو ذاته، جعل بينهما في عملية الحكي راوٍ ينتصر للأحداث وترتيبها. وهو الأمر الذي جعل الاستهلال المروي يبيّن عمليات البدء الأولى في السير نحو إعلان الصراع الذي سيكون في العاصمة، ما يعني تبيان أثر المكان وتعدّده وأسمائه، ليكون هذا الاستهلال في موازاة الصراع بين أشياءٍ عديدةٍ، جعلها أشبه بمنصات الانطلاق نحو ما سيكون وما سيأتي. أوّلًا: صراع الذات التي تريد الإثبات مع التحدّي في الانتقال من مكانٍ غير العاصمة الى العاصمة: (كعادته في كل مرة ينزل فيها إلى العاصمة لقضاء شأن من الشؤون أو لطباعة عدد جديد من المجلة التي يديرها ويرأس تحريرها بالمطبعة العصرية في آخر شارع جون جوراس) ثانيًا: المكان الذي ستنطلق منه الأحداث عبر التواجد في قلب المدينة / العاصمة من خلال نزل/ فندق: (أخذ أنور غرفته المطلة على النهج في نفس ذلك النزل العتيق الذي اعتاد أن يقيم فيه ليستريح قليلا ويزيل ما علق بجسمه من أتعاب السفر الطويل) ثالثًا: كون هذا الاستهلال سيعطي المعلومة الحكائية التي تسير بالذاكرة المرتبطة بالحالة السيرية التي ستكون هي المتوافقة والمرافقة والتابعة للأحداث ليست القادمة، بل الماضوية لأن السؤال والاستهلال يفضحان الزمن الذي بدأت بها الحكاية: (كان يفكر وهو مستلق على الفراش ويتساءل بينه وبين نفسه :إلى متى ستتواصل هذه الرحلة المضنية التي بدأت قبل أكثر من ربع قرن من الآن ومازالت مستمرة إلى اليوم ؟ )
رابعًا: إن هذا الاستهلال نبع من اللحظة الوجودية التي يفضحها استمرار الأسئلة التي جعلها رابيةً مرّة، أو أنها منطقة الصراع أو حتى لحظة الخوف من القادم الذي سيرويه، وليس الذي سيكون لأنه كشف أن الأمر كان قبل ربع قرن: (يغمض عينيه، ثم يفتحهما ويعيد طرح السؤال على نفسه. هل فعلا البلاد في حاجة إلى خدماته التي يقدمها من خلال إصداره مجلته الشهرية التي أخذت منه كل حياته ؟.. مرارا عديدة راودته فكرة الانقطاع عن مواصلة هذه الرحلة المضنية)
الواقع والمستوى الاخباري
لأن الرواية كما نكتشف بعد ذلك هي الأقرب الى السيرية، وكان الحكي فيها يعتمد على خزين الذاكرة وأن البطل (أنور) هو الراوي محمود. لذا كان المستوى الإخباري هو الذي تسيّد السرد، من أجل منح اللغة المحكية قدرتها على تصنيف الصراع والتحدّي الذي يواجهه البطل. إن هذا المستوى تحكّم باللعبة التدوينية وتنقّلات البطل في العاصمة وأماكنها المختلفة ورؤساء التحرير والمنتديات الثقافية وحتى اتحاد الأدباء وسيرة الأحداث التي مرّت بها تونس خلال سنوات عمله في الصحافة، حتى أنه يذكر أسماء الأدباء والمثقفين التوانسة بأسمائهم الصريحة لكي تكون الواقعية حاضرة في المتن الحكائي. إن هذه الواقعية فرضت عليه أن يكون أكثر دقّةٍ حتى في الواقع السياسي المتّصل بضرورة المضي بمشروعه الصحفي الذي يوصله الى الرئاسات، وتكون ذروة الواقعية هي التكريم الذي حصل عليه بوسام لإثبات صحّة الطريق الذي سلكه. وهنا تكون الفكرة التي انبنت عليها فعاليات المبنى السردي هي في تصاعدية الحدث الذي انفرش على سجادة 26 فصلًا، جميعها كانت بصيغة الراوي العليم والمتحدّث بطريقة الراوي الغائب.
إن علو كعب المستوى الإخباري، مع وجود قليلٍ للمستوى التصويري إلّا بما هو متّصل بالمكان والزمان يأتي لاعتبارات عديدة :
أوّلًا: إنه ناقل الخبر والفعاليات التي تدعم قرارات البطل وحيثيات اندفاعه لاستكمال مشروعه. لذا هو يريد إعطاء التكافل النصّي مكانته في الإخبار للوصول الى دليل المحتوى العام الذي تتّكئ عليه الحكاية: (استفاق من اغفاءاته القصيرة، وتذكر أن لديه موعدا مهما مع أحد المسؤولين وموعدا آخر مع مسؤول مالي عن شركة اقتصادية لمحاولة إقناعه بنشر الإعلانات والبلاغات التي تصدرها مؤسستة بمجلته لتخفيف الأعباء المالية التي تواجهها كل شهر) ص9.
ثانيًا: إنه المحرّك لعمليات الروي التي ينقلها الراوي من أجل عدم تبيان من هو الراوي وعلاقاته بالبطل، ولذا احتاج الى كميةٍ كبيرةٍ من عمليات الإخبار المتعلّقة بالعمل، وشبكة العلاقات التي لابد من وجودها. (عاد أنور إلى غرفته في النزل، بعد أن قضى كامل اليوم في المطبعة، عاد مرهقا لا يكاد يقوى على حمل نفسه.. كان في حاجة أكيدة إلى الراحة وإلى أن يتمدد على السرير ويغمض عينيه.. ولا يفكر في شيء، حتى الهاتف أغلقه..) ص31.
ثالثًا: إنه يمنحه حرية الانتقال لسرد الأحداث بحكاياتٍ أخرى، متّصلةً بالعمل، ومثلما هي متّصلة لاستكشاف العلاقات غير الشرعية مثلا إن صح التعبير، والتي تحفل بها بعض الأمكان. والتي يكون أحد طرفيها المرأة التي تكون هي الضحية في بعض الأحيان، وتكون هي المسبّبة في أحيانٍ أخرى: (لم يكن أمام نورهان من خيار سوى الرضوخ والاستجابة إلى رغبة عدنان رجل الأمن المتقاعد الذي طلب منها الانضمام إلى شبكة من المخبرين يعتمد عليهم في جمع ما يريده من معلومات عن شخصيات رسمية وأجانب.) ص99.
رابعًا: إنه المستوى الذي يجعله متمكّنًا من وصف المكان ووصف الحالة التي وصل اليها ، وخاصةً تلك المتعلّقة بالقصر الحكومي. حتى أنه يتحوّل صيغة الروي الى المخاطب في بداية الفصل الخاص بهذه الجزئية من الحكاية او السيرة : (ها أنت الآن يا أنور في قصر قرطاج.. في موكب مهيب.. مدعوا ليقلدك رئيس الجمهورية وساما رفيعا.. ما أجمل أن تعترف لك الدولة بقيمة ما بذلت من جهد، وأن يكون التكريم من قبل رئيس الجمهورية شخصيا..) ص 75
خامسًا: أنه يجعله متمكّنًا من إعطاء التوصيف للمكان، وكأنه يستكشفه لأوّل مرّةٍ، ثم يكون جزءًا منه، وهو المكان الذي يكون حاضرًا في الأحداث، سواء على مستوى البلاد أو المستوى الشخصي : ( كان على موعد مع أحد الأصدقاء في مقهى تونس المطل على شارع قرطاج من اليمين وعلى شارع الحبيب بورقيبة من اليسار.. ومقهى تونس في الصباح يكون قبلة المثقفين ورجال الاعلام، وعدد كبير من الشخصيات وإطارات الدولة،) ص14.
سادسًا: إنه يمكّنه من كشف القاع وما يحصل بسبب القمة، أو استغلال القمّة للقاع، من خلال عين الراوي الراصدة للأحدث، يحتاج الى رويٍ إخباريّ، يأخذ المستوى القصدي الذي يكون متواجدًا في مثل هذه الحالات بطريقةٍ مباشرة عبر ذات الصيغة في روي الغائب: ( كان كثيرا ما يتساءل بينه وبين نفسه، هل هؤلاء العاهرات هن ضحايا.. ما الذي يدفع بهن إلى طريق الرذيلة.. ألم يجدن عملا شريفا يكفل لهن العيش الكريم.. أفضل من بيع أجسادهن للعابرين) ص39.
سابعًا: إنه مستوى يجعل من الواقع محسوسًا وملموسًا للمتلقّي، حين يضعه المنتج بطريقة الواقع وهي أقرب الى الطريقة الصحفية، باعتبار أن البطل يمتهن الصحافة، حتى لو كان ذلك عن طريق التورية التي لا يراد أن تكون مباشرة، لكنها مفهومة الدلالة: (قال في قرارة نفسه علي أن أتأكد من قدوم المسمار، فله خبرة في القفز على الأسوار، ينط كالقطط داخل المنازل المغلقة ولا يترك أي أثر إن له قدرة عجيبة على القفز والتخفي) ص113.
ثامنًا: إنه المستوى الذي يمكّنه من جمع تفاصيل أخرى، يكشفها ويكتشفها لربط العلاقات الاجتماعية من جهةٍ، وربط المسكوت عنه الذي تمكّن من الوصول له من جهةٍ ثانية. ولهذا فإن اللغة الإخبارية هي مساوقة المكشوف مع الواقع : (عندما همّ بالخروج من باب المكتبة، لم يكن أبدا ينتظر أن تضع الصدفة في طريقه زميلته “أحلام” التي لم يرها منذ زمان.. ربما مرّ على آخر لقاء جمعهما أكثر من ثلاث سنوات.. عندما جمعهما سفر إلى إحدى دول الخليج.. تسمرت أحلام في مكانها) ص23 إنها رواية الواقع الذي حمل الإخبار عن كلّ شيء، من خلال عين صحافي يريد تحقيق أحلامه، ولذا فإن البناء الواقعي لم يكن كلاسيكيًا، بل بدأه بسؤالٍ عن الفائدة المرجوّة من كلّ هذا الذي عمله البطل، الذي كان هو محور الحكاية وصراعها.