صدرت للكاتب مجموعة شعرية بعنوان «درفتين ومدى» بالمحكية اللبنانية، يتحدث هذا الكتاب عن الشعر المحكي اللبناني، ويقدم الكاتب فيه إضافات جديدة في القسم الثاني منه، الذي يتعلق بنشأة هذا النوع من الشعر، ويقوم بمقارنة موضوعية ومفصلة مع الشعر العربي الفصيح، ثم يتطرق إلى نوع آخر وهو الزجل اللبناني، وعلاقة اللغة المحكية به، وكيف ولدت من رحمه، ليقدم بعد ذلك تجربته الجديدة وهي قصيدة عمودية تُكتب وتُقرأ باللغة العربية الفصحى وبالمحكية اللبنانية في الوقت ذاته. سأحاول التوسع قليلا في مضمون الكتاب…
بداية نجد أن الكاتب حاول من خلال التمهيد والاستهلال، أن يعبر عن رغبته ومحاولته استخراج الجمال من الشر كما قال بودلير، خاصة في ظل القبح الذي يكتسح عالمنا.
يتناول في القسم الأول الحديث عن الشعر وأهميته والشاعر والقصيدة، ويطرح أسئلة مهمة، محاولا بعد ذلك الإجابة عنها ومن هذه الأسئلة: هل يموت الشعر؟ لمن يكتب الشاعر ومتى وكيف؟ ليؤكد بعد ذلك أن هناك فرقا كبيرا بين الشهرة والإبداع، وأن الشهرة قد تطال الأغرب والأسوأ، ولا تطال دائما الأجمل والأفضل، ويوعز سبب ذلك إلى الارتباط بالتسويق، أو حتى العلاقات الشخصية، وقدم مثالا حول موضوع الشهرة فطرح اسمين لشاعرين من بلدته كفر زينا (لبنان الشمالي) وهما، وليم الفتى الذي لم يحظ بانتشار واسع، على الرغم من نظمه آلاف الأبيات الفصيحة وبعض المحكية، وألبير حرب، الذي أسس عصبة الشعر اللبناني، وكان عضوا في لجنة الحكم في «ليالي لبنان» ولم ينل الشهرة التي يستحقها، على حد تعبيره، ومن مجموعاته الشعرية «صبيع فوق الشمس» بالمحكية اللبنانية.
ثم ذكر مبدعين من العالم لم يعرفوا الشهرة إلا بعد موتهم كإميلي ديكنسون، فرانز كافكا، هنري دارجر. وعندما قام بالتفريق بين الشعر والقصيدة بسؤاله ما هو الشعر؟ قال إن الشعر أكبر من اللغة، هذه اللغة التي قال عنها مارتن هدغر: «إنها ليست أداة يُفصحُ بها الكائن الحي عن نفسهِ، بل هي مأوى الوجود». ليذكرنا بالعبارة ذاتها (مرة وفي أثناء بحثنا عن كيف يرى الشعراء الشعر؟) بقول للشاعر مردوك الشامي، في حوار معه في منتدى مجلة أقلام في 7/11/2005، «إن الشعر أكبر من اللغة، أكثر اتساعا من الحروف، لهذا مهمة الشاعر الاحتيال على الأبجدية لكي يختال فوقها». ربما هكذا هم الشعراء دائما ما ينظرون للشعر على أنه أكبر من اللغة، يتجاوزها، وأحيانا يحتضنها كأنها حبيبته يمسد شعرها، ويدللها لتتفتح على خديها أزرار الورود. ليعود الماحولي ويؤكد أن الشعر هو كالروح من الجسد، وبه تدب الحياة في القصيدة، أما عن القصيدة فهي من الشعر، كالقُبلة من الحب. ليتناول بعد ذلك أعمدة الجمال في القصيدة وأركانها وعناصرها مؤكدا على اللغة التي تعد الدعامة التي يتوسلها الكاتب ليعبر عما يجول في داخله، والصورة الشعرية التي يعتبر باشلار، أن لها قوة كبيرة في تجلي الوجود، بالإضافة للعاطفة والموسيقى والإيقاع والقافية والروي..
وفي القسم الثاني أجرى الكاتب مقارنة بين كل من الشعر الفصيح والمحكي اللبناني، ليتوسع بداية بالحديث عن الشعر المحكي اللبناني تعريفه ونشأته، خصائصه وأوزانه، حيث يعتمد بشكل أساسي على ثلاثة أوزان هي «المعنى والقصيد القصير وبشكل أقل القرادي»، قائلا إن معالم الشعر المحكي اللبناني لم تتوضح وتنضج تجربته إلا مع ميشال طراد، الذي أصدر ديوانه «جلنار» عام 1951، مميزا بين الشعر المحكي اللبناني والزجل اللبناني، من حيث الشكل والمضمون، وأورد قصيدتين بالمحكية تعتمدان على وحدة الوزن والشكل التقليدي والقافية من شعر مارون أبو شقرا:
على شعر، غمْق المدى بيساع
هالكون طفل زغير، هَزْهِزْلو
بيت الدني بلش هبيط، سْماع
أول حيطان الشرق كِف نِزلو
شَتتْ نفْط… لا قمح لا زوباع
والْ كان يزرع، هج، إبنو جاع…
فور عجين الروح، واخْبزْلوا
ومن شعر جرمانوس جرمانوس:
كتابَك دَرْفتَين وْمدا شوهَم
من دَرْفتَين الموهَبِة بَابك
ومِن دَرفتَين الزنبَق بيِنشَم
عُطرو وْلاد بْحارِة تيابَك
ومِش ضِفتين النهر فتح كِم
فتح دَرفتين وسِقي ترابك…
لينتهي في الفصل الثاني من القسم الثاني بإحصاء أوجه الاختلاف والتشابه بين الشعر الفصيح والشعر المحكي اللبناني قبل أن يورد في الفصل الثالث أنموذجا لقصيدته التي تُكتب وتُقرأ باللغة الفصحى والمحكية اللبنانية على حد سواء، ثم يليها آراء بعض الشعراء والنقاد حولها. القصيدة هي:
فوق المدى، شمسُ القصيدة حافيه
نَحتت ببالِ الريح أول قافية
شقت قميص الغيم وانسكبَت حِدى
نكزت نجوم الليل… كانت غافيه
انتِ القصيدة والغوى… والمبتدا
كوني الأنا، دقات قلبي كافيه
فكي «عراوي» الصوت من زر الصدى
وتحرري… شِعري: الخطايا صافيه
من دمعة العينين، إزميل الندى
صُبي بلَون الورد ريق الداليه
وبذلك نجد أن الكاتب حاول قدر الإمكان التعريف بالمحكية اللبنانية، مشيرا إلى أهمية الشاعرية كخاصية أساسية سواء في الشعر الفصيح، أو المحكية اللبنانية وأن هناك الكثير من الأشعار، حتى إن كانت ذات وزن وقافية قد تخلو من الشاعرية، وجاء هذا على لسان صلاح لبكي الذي قدم مثالا على ذلك أبيات للمتنبي وهي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
وتعظم في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين الكبير العظائمُ
حيث أشار بأنه لا قيمة لهذه الأبيات، حسب رأيه، سوى بالفكر الذي تعبر عنه.. فالشاعرية قد تكون في كلمة، في فكرة، في جملة، في بيت في قصيدة، حتى إن كانت خالية من الوزن، فمن الخطر دائما، بل من الوقاحة أن نشيد بقصيدة لأي سبب سوى ما فيها من شعر، كما قال سيسل دي لويس الروائي والناقد البريطاني، فهناك الكثير من الشعر الفصيح الخالي من مقومات الشعرية، فلا يأنسه القلب، ولا يدغدغ العواطف لأنه ليس نابعا من دواة الروح، ولا من ماء القلب ولم يُغمس بصدق اللحظة ولا بنقاء الوردة، وإن كان مزركشا بالأوزان والقوافي، وعلى العكس هناك الكثير من المحكي من الشعر، قد يحملك على أجنحة المدى لتصل إلى أعالي السماء ويقذف بك خارج المكان والزمان، مرفرفا على شفاه النسائم. الشاعرية كما سماها البعض هي ماء الشعر، هي الخيال والعاطفة والموسيقى والفكر، هي حالة إنسانية صادقة لا يتقنها إلا الشاعر الحقيقي الذي ينصهر وينعجن في موضوع قصيدته، فالشعر بعيد كل البعد عن التصنع والافتعال، هو «رقص باللغة.. رقص بكل أجزاء النفس، وبكل خلجاتها الواعية واللاواعية.. الشعراء يؤدون رقصة متوحشة، يتخطى فيها الراقص جسده، ويتجاوز الإيقاع الموضوع، ليصبح هو الإيقاع نفسه» كما قال نزار قباني. الشعر إذا موجود في كل تفاصيل حياتنا اليومية، حتى الإنسان كما قال هيدغر يقيم على الأرض بطريقة شاعرية.
والمحكية هي لغة الحياة اليومية قريبة من القلوب والعقول، ابنة الينابيع الصافية، ابنة السهول والجبال والتلال، فيها من الجمال والدهشة ما لا يقل عن غيرها، هي تحفة فنية إذا ما نحتها فنان بارع، وعجنها بعشق وشغف، هي ثوب مطرز ومزين بأجمل الحُلي إذا ما نُسجت بأنامل مبدعة من حرير، تستحق أن يُحتفى بها لما فيها من شعرية وحداثة وتجاوز. كانت لغته سلسة، سهلة وبسيطة وغير معقدة، كما أن الكاتب وثّق ما تضمنه كتابه من آراء وأقوال مستعينا بالكثير من المراجع والمصادر التي ساهمت في فهم طبيعة المحكية اللبنانية، وأضفت على مضمونه طابع الموضوعية والمصداقية راجيا في خاتمة الكتاب المحاولة للعبور من عبودية النظم إلى حرية الإبداع السلام. ولا بد من الإشارة إلى أن الكتب التي تعرضت للمحكية اللبنانية قليلة جدا، ولعل هذا الكتاب بمنهجيته وتفاصيله يكون وسيلة تعليم وفائدة للراغبين بمعرفة أوزان المحكية وأنواعها.