جمال الجلاصي مترجم مغامر ومهرّب قصص وأشعار من أدغال أفريقيا ومغاور المايا وأحياء بروكلين، وكذا من أفواه النشالين. ترجم لأستورياس وسنغور وبول أوستر وكتاب مجهولين، وكتب سيَر الثوار والكتاب والمخبرين.
وصفت روايتك الجديدة “باي العربان” بالسيرة الروائية لعلي بن غذاهم، فما الخيط الفاصل بين الرواية التاريخية والسيرة الروائية؟ وما الذي يجعل من هذه الشخصية المرجعية ممكنة روائيا؟
– ما جعل تحويل شخصية علي بن غذاهم إلى عمل روائي هو السياق الدرامي الذي عاشه، والتناقض الصارخ بين مبادئه وقيمه ونبل مراميه وبين المصير المأساوي الذي انتهى إليه بموته في محبسه بكراكة حلق الوادي.
أعتقد أن الرواية التاريخية بمفهومها الكلاسيكي تقوم على اعتماد حقبة تاريخية كإطار أو خلفية لأحداث متخيلة أو واقعية دون الغوص في الخصوصيات الحضارية والنفسية للشخوص، ودون بيان للعمق الإنساني وما يميز فترة تاريخية عن أخرى من ولادة الأمم ونموها وسقوطها المدوي.
الفرق بين كتابات جمال الغيطاني وجيلبير سينويه وروايتي “باي العربان” وبين كتابات حسنين بن عمو أو جورجي زيدان، هو الوعي بحركة التاريخ والغوص في نفسيات الشخوص والانتصار في ذات اللحظة للرواية كجنس أدبي، والعمل الدائم على إثرائه وتطويره والابتعاد عن قالب حكاية الجدات الكلاسيكي.
ما الذي يجمع مشروعك الروائي الذي بدأت تخطه من خلال اهتمامك بالمناضلين واختياراتك في الترجمة؟
– روايتي الأولى “الأوراق المالحة” هي رواية جيل التسعينيات في تونس، رواية تقدم ذاتها كذاكرة جمعية لجيل من الأدباء يرون أنفسهم ورثة ما وصلت إليه الإنسانية من ثراء إبداعي وثقافي، وأن دورهم قد حان للمساهمة في هذا الجهد الإنساني بمزيد تثوير المشهد الإبداعي وجعله أكثر إنسانية.
ثم بدأت أفكر في كتابة رواية التخييل السيري التي تعنى برموز وطنية أثْرَت تاريخ تونس الحديث والمعاصر بمواقفها ونضالاتها.
بدأتُ بسيرة علي بن غذاهم الثائر التونسي الذي قاد انتفاضة سلمية عام 1864 احتجاجا على مضاعفة الضريبة ولقب “باي العربان”، وقد نجح في تحقيق أهداف انتفاضته، وأثنى الباي على قراره.
ما يهمني في هذه الشخصية هو ما تمثله من مبادئ وقيم دافع عنها، وكذلك النسيج المجتمعي الذي أنبته. ومن خلاله نعبر القرن الـ19 بما فيه من إصلاحات وانتكاسات ودور جامع الزيتونة في نشر العلم والمعرفة والأدب.
وصَلنا أنك بدأت في مشروع سيري جديد؟
– نعم، أكتب سيرة روائية “محمد علي الحامي” مؤسس جامعة عموم عملة تونس عام 1924 ودوره في النضال النقابي والوطني ضد الاستعمار الفرنسي. تهمني الكتابة عن الحالمين بتغيير الواقع البشري وجعله أكثر عدالة وجمالا.
ومن هنا تأتي اختياراتي في الترجمة، فمن “إضراب الشحاذين” إلى “السيد الرئيس” مرورا بـ”الإله الصغير” و”قصائد مهربة” وصولا إلى الأعمال الكاملة لسنغور، هناك خيط رابط جلي لمن ينظر إلى الأعمال مجملة، فكلها “ملتزمة” بقضايا الإنسان الكبرى من فضح الاستبداد إلى تحقيق العدالة الاجتماعية إلى الدعوة للتسامح الديني والتعايش بين البشر ونبذ العنصرية.
تتنقل في مشروعك في الترجمة بين عوالم أدبية مختلفة من أدب أميركا اللاتينية إلى الأدب الأميركي إلى الأدب الفرنسي. لكن يبقى ولعك الأساسي بالأدب الأفريقي، فما الذي يشدك في هذا الأدب الذي ما زال مهمشا ويجعلك ترفعه إلى مرتبة المشروع؟
– جاءت التفاتتي إلى الأدب الأفريقي ضمن موقف من حركة الترجمة في العالم العربي التي تتجه شمالا طوال الوقت، وإن التفتت نحو الجنوب فهو جنوب القارة الأميركية من خلال الأدب اللاتيني. ولم تشفع جوائز نوبل ولا البوكر للأدب الأفريقي عند المترجمين العرب إلا ما ندر.
وقد انطلقت في مشروعي بترجمة رواية من روائع الأدب السنغالي وهي “إضراب الشحاذين” لأميناتا ساو فال، ثم ترجمت الأعمال الكاملة للشاعر السنغالي سنغور، واعتبرت أنه من العار أن يبقى شاعر بحجم سنغور غير مترجم للغة العربية.
ما سبب هذا التغييب حسب رأيك؟
– الثقافة المدرسية التي تلقيناها أحادية رغم ادعائها التنوع، فنحن ندرس الأدبين العربي والغربي متناسين أننا أفارقة حقا.
هل تترجم شيئا جديدا الآن؟
– أنغمس في “كراسات العودة إلى الوطن” لرفيق درب سنغور الشاعر المارتنيكي إيمي سيزار.
في ظل واقع الترجمة تحت الطلب، تذكّرنا أنت بالمشاريع الريادية القديمة. هل لهذا علاقة بشخصية جمال الجلاصي النقابي والشاعر الحالم؟
– الترجمة فعل حب ورسالة أقوم بها لأمنح النص المترجم جناحا إضافيا.. أنا لا أترجم بناء على طلب دار نشر، أنا أترجم ما أعشق، ولا أهتم بالاسم كبيرا كان أم صغيرا.. لا أهتم إن كان شعرا أو رواية أو قصة قصيرة.. أترجم ثم أبحث عن ناشر مجنون مثلي لننشر الكتاب ونقتسم الفرحة والخسارة.
ما ينقص الترجمة في العالم العربي هو المؤسسات الداعمة التي ترعى المترجمين وتوزع ترجماتهم.
هل ما زال المترجمون “خيول التنوير” كما وصفهم بوشكين، أم تحول بعضهم إلى مرتزقة؟
– سيظل المترجمون خيول التنوير وستظل الترجمة دبلوماسية الحضارات.. المترجمون هم مهربو أرواح إخوتهم البعيدين، والترجمة هي التي تخرج الإبداع من ضيق أنهار اللغات إلى محيط التواصل الإنساني الرحب. كان وسيظل هناك مرتزقة وسيظل هناك صانعو أجنحة ومترجمون هواة يفتحون لنا آفاقا أخرى عبر تهريب النصوص الإنسانية.
أرّخ أستورياس للدكتاتورية في روايته “السيد الرئيس”. صدرت هذه الترجمة الجديدة مع اشتعال فتيل الربيع العربي، وعمد الناشر إلى وضع صور رموز الدكتاتوريات المنهارة. هل ترى شبها بين الدكتاتوريات عندنا وتلك التي رواها ماركيز في “خريف البطريرك” وأستورياس في “السيد الرئيس” وماريو فارغاس يوسا في “عيد الفحل”؟
– الكتابة الخالية من فعل المقاومة بمعناها الإنساني الشامل -مقاومة الابتذال واستغلال الأفراد أو الشعوب- والتي تتخلى عن دورها في دعم قيم العدالة والخير والجمال، تتحول إلى لغو لفظي لا يقنع حتى قائله.
لقد حرصت على ترجمة “السيد الرئيس” لأنها الرواية الأكثر فضحا للدكتاتورية وتعرية لها، إضافة إلى قدرة الروائي الكبيرة على الاغتراف من تاريخ أمته من أسطورة وخيال وتوظيفها تقنيا في الكتابة، فالأفكار العظيمة وحدها والنوايا الحسنة لا تكفي لإنجاز أعمال راقية.
للدكتاتور وجه واحد في كل الحضارات، سواء ذاك الذي يدعي أنه ظل الله على الأرض، أو ذلك الذي يبدو إنسانا خارقا جامعا لكل صفات الكمال، أو ذلك الذي يحتمي بجيش من المرتزقة والوصوليين
لقد حرصت على ترجمة “السيد الرئيس” لأنها الرواية الأكثر فضحا للدكتاتورية وتعرية لها، إضافة إلى قدرة الروائي الكبيرة على الاغتراف من تاريخ أمته من أسطورة وخيال وتوظيفها تقنيا في الكتابة، فالأفكار العظيمة وحدها والنوايا الحسنة لا تكفي لإنجاز أعمال راقية.
في “إضراب الشحاذين” تقدم لنا مثالا عن ثورة البؤساء في أطرف صورها، فيُسقط المتسولون نظاما بإضرابهم. هذه الكوميديا السوداء تكشف هشاشة هذه الأنظمة المستنجدة بالخوارق والسحر والخرافة وأنها مهددة من أضعف الموجودات، ويكفي أن يتوحد الضعفاء حول موقف لكي يسقطوها. فهل يمكن في رأيك للأدب أن يسقط أنظمة؟
– الشحاذون قرروا الامتناع عن التسول نظرا للقمع الكبير والاحتقار الذي تعرضوا له، وكان ذلك نتيجة انهيار سلم الأخلاق وغياب الضمير، وقد نجحوا من خلال اتحادهم في تحقيق أهدافهم والسخرية بمن ألحق بهم الأذى.
يمكن للكتابة أن تغير أو على الأقل أن تساهم في التغيير السياسي والاجتماعي وفي بث الوعي. ولا ننسى أن الشعار المركزي للثورة التونسية كان بيت الشابي الشهير “إذا الشعب يوما أراد الحياة”..