في مصادفة ذات دلالة، حلت ذكرى الشاعر المصري أمل دنقل في الحادي والعشرين من مايو، بينما يستعيد الشعب الفلسطيني روح قصائده في القدس وغزة والضفة والداخل المحتل. عرف دنقل بأمير شعراء الرفض، اتساقا مع روح شعره الثائرة، وقصائده المعادية للسلام مع إسرائيل، تلك التي صادفت هوى عربيا واضحا بعد كامب ديفيد بالذات.
وإذا كانت قصيدته الأشهر “لا تصالح” قد لقيت من التفاعل النقدي والاجتماعي ما يجعل تناولها نقديا الآن أمرا شائكا، لكثرة ما نالته من حفاوة وشهرة، بحيث يصعب إيجاد رؤية تحليلية جديدة لم يطرقها آخرون.. إذا كان الأمر كذلك، فربما يطيب لي أن أتأمل علاقة أمل بفلسطين من منظور مختلف. وأول ما أحب توضيحه أنني لن أحيط بهذه القضية كاملة، لأنها أكبر من أن يحيط بها مقال واحد، لذلك اخترت الاكتفاء بزاوية محددة: سأتأمل قصيدتين شهيرتين لأمل عن فلسطين، بين صدور كل منهما أكثر من ست سنوات، وهي فترة تسمح بتأمل التطور الذي حل في شعر أمل.
معلوم أن ثورية أمل كانت ذات طابع يساري وثوري وقومي في آن معا. فقد جمع بين الانحياز الصريح للفقراء والمهمشين، كما أنه حمل الهم القومي الذي كان عاما وقتها، حيث تكافح الشعوب العربية لنيل استقلالها التام ومواجهة الاستعمار الأوروبي والاحتلال الإسرائيلي في آن معا. لذا فإنه يمكننا الاعتقاد بأن إيمانه بحقوق الفقراء يتسق تماما مع تغنيه بموجة التحرر العربي القوية، التي حطمتها هزيمة 67 النكراء.
مع ذلك، أحب أن أتأمل التطور الفني الذي مرت به تجربته الشعرية، عبر النظر في قصيدتيه “البكاء بين يدي زرقاء اليمامة” التي اقتبس عنوانها لديوانه الأول، الصادر سنة 1969 فيما بدا صيحة غضب عارم على نكسة 67، ثم تأمل قصيدته الفاتنة، وإن كانت أقل شهرة من سالفتها، “سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس”، المنشورة في ديوان “العهد الآتي” سنة 1975.
في القصيدة الأولى ثمة انفعال جارف، يعبر عنه النص بأكثر من ملمح، أولها المباشرة عالية الصوت، التي قد تصل لنوع من الصراخ الهادر، والاتكاء على القوافي القوية ذات الصوت الجهوري، مثلما يستند إلى رموز التراث العربي المشهورة. يقول أمل:
أسأل يا زرقاءْ..
عن فمكِ الياقوتِ عن، نبوءة العذراءْ
عن ساعدي المقطوع.. وهْو ما يزال ممسكاً بالراية المنكَّسة
عن صور الأطفال في الخوذات.. ملقاةً على الصحراء
عن جاريَ الذي يَهُمُّ بارتشاف الماء..
فيثقب الرصاصُ رأسَه.. في لحظة الملامسة!
عن الفم المحشوِّ بالرمال والدماء!
أسأل يا زرقاء..
عن وقفتي العزلاء بين السيف.. والجدارْ!
عن صرخة المرأة بين السَّبي والفرارْ؟
كيف حملتُ العارْ..
ثم مشيتُ؟ دون أن أقتل نفسي؟! دون أن أنهار؟!
ملامح القصيدة واضحة: لا مجاز تقريبا. صورها تكاد تكون تصويرا فوتوغرافيا للجار الذي يثقب الرصاص رأسه لحظة ملامسة الماء لشفتيه، ولصور الأطفال المحفوظة في خوذات الجنود المقتولين في المعركة وأفواههم تنزف متربة، ولصراخ النساء المسبيات..
الصور ترمي إلى إثارة الغضب الصارخ، لا وقت لنسج صور شعرية مركبة أو موغلة في المجاز. ولعل ختام المقطع بالتساؤل كيف لم ينهر.. هو تتويج لذلك الغضب الأسود العنيف، الذي يحف به إيقاع شعري يضارع طبول الحرب؛ من تفعيلات بحر الرجز المتلاحقة القوية، المختومة بقوافي قوية في كلمات ذات رجع قوي يصدم الأذن، على شاكلة: المنكسة، الملامسة، والراءات المتتالية الجهيرة في: الجدار، الفرار، العار، أنهار…
وأول ما يبدو لي من مظاهر تطور رؤية دنقل، مثلما تتبدى في القصيدة الثانية: “سرحان لا يتسلم مفاتيح القدس” أنه طوّر رمزية التراث في نصه. فبعد أن كانت زرقاء اليمامة في القصيدة الأولى قناعا بسيطا للشاعر الذي حذر قومه من الهزيمة فلم يسمعوا له مثلما لم يصدق قوم زرقاء اليمامة ما أبصرته من الأعداء المختفين وراء غصون الشجر، حتى باغتوا قومها فقتلوهم على حين غرة… بعد أن اكتفى النص باقتباس بسيط من التراث، في حالته البسيطة ودون لعب مع الرمز ولا تطوير له، اختلف المشهد تماما في القصيدة الثانية.
ولا يقتصر الاختلاف على تنوع الرموز والأقنعة التراثية في القصيدة الثانية، بل في طريقة توظيف الرمز ذاته، فبينما اكتفى في القصيدة الأولى بالدلالة المباشرة، يمكنني القول إن أمل مارس نوعا من اللعب مع الرموز التراثية في النص الثاني. يقول:
عائدون؛
وأصغر إخوتهم (ذو العيون الحزينةْ)
يتقلب فى الجب،
أجمل إخوتهم.. لا يعودْ!
وعجوز هي القدس (يشتعل الرأس شيبا)
تشم القميص فتبيض أعينها بالبكاء،
ولا تخلع الثوب حتى يجيء لها نبأ عن فتاها البعيدْ..
فيوسف الملقى في الجب ذو عيون حزينة رغم شهرته في التراث بجمال الوجه وفتنته، والقدس عجوز تذكرنا بالنبي زكريا الذي ناجى ربه داعيا بوريث يدرك شيبه. ومع أن القدس مؤنثة والنبي زكريا رجل فقد امتدت الصورة لابيضاض عينيها من البكاء، الذي يربطها الآن بالنبي يعقوب الحزين على فتاه الملقى في الجب..
وحين يحضر التأمل تخفت الموسيقى. فالقافية هامسة، ذات نون تليها تاء مربوطة ساكنة تُنطق هاء فتسمح للصوت الخارج من جوف الصدر بالامتداد على نسق آهٍ مهزومة خافتة. ونلاحظ تباينا واضحا عن بنية الإيقاع في القصيدة الأولى التي توالت فيها الراءات في أربعة سطور متتالية، بينما هنا لا يؤاخي دنقل قافية “الحزينة” إلا بكلمة “المدينة”، مرة واحدة في المقطع وبفارق خمسة عشر سطرا. الفرق جلي.
ربما تعب أمل من الصراخ فأراد أن يريح رأسه على أكتافنا ويبكي بكاء خافتا لطيفا. يقول خاتما مقطعه بنبرة متسائلة جريحة:
آه مَنْ في غد سوف يرفع هامته؟
غير مَن طأطأوا حين أزّ الرصاص؟
ومَن سوف يخطب – في ساحة الشهداء –
سوى الجبناء؟
ومَن سوف يغوي الأرامل؟
إلا الذي سيؤول إليه خراج المدينةْ؟
وعلى النسق ذاته، نلاحظ تطورا موازيا في تقنية التصوير الشعري في القصيدة الثانية. لا فوتوغرافيا هنا، بل مجاز مثقل بالدلالات غير المباشرة. يقول:
منظرٌ جانبيٌ لعمّان عام البكاءْ
والحوائط مرشوشة ببقايا دم لعقته الكلابْ
ونهود الصبايا مصابيح مطفأةٌ..
فوق أعمدة الكهرباءْ..
منظر جانبي لعمان،
والحرس الملكي يفتش ثوب الخلفية
وهو يسير إلى “إيلياء”.
كيف قفز المجاز هنا إلى تركيب مثل: نهود الصبايا مصابيح مطفأة فوق أعمدة الكهرباء؟ يا لها من صورة ذكية الدلالة، ثقيلتها في آن معا. ثمة ما يوحي بحالة صلب الجمال الأنثوي المُطفأ على أعمدة الكهرباء، بينما يطل التاريخ برمز صعب نسبيا، هو سير الخليفة إلى القدس، التي اقتبس دنقل لها الاسم القديم “إيلياء” الذي يبدو محورا عن اللاتينية، مثلما ورد في العهدة العمرية لأهل القدس.
كثيرون من الثوار العرب رددوا شعر أمل في مظاهراتهم وعلى حوائط بيوتهم، وكثير من الفلسطينيين الأحرار حفظوه، لكن ربما لم يخطر ببال أحد أن فلسطين سارت مع أمل، ومضت بتجربته، حتى ليمكننا اعتبار القضية الفلسطينية منشورا ضوئيا يكشف لنا الألوان البديعة لشعر أمل دنقل.