“عندما يفيض الدر من ثقب الروح” للشاعرة فاطمة بن فضيلة – رحمها الله –
اللغة بريّة لا تهْوى المدائن المسيّجة ولا تسكن الحواري والازقّة الضيقة، واللّغة متمردة.نزقة لا يقبض عليها الا فارس آسر احترف سرقة الكحل من عيون الصبايا وخبر صيْد الهوى من قلوب السهارى بيْن الرجفة والرجفة، واللغة قلب مرتجف منتفض لا مكان له ولا جغرافيا. انها الترحال بين الهنا والهناك بين التّسامي والتّجافي.
انها متلفة الروح ومسكّرة الجسد. انها اللغة سليلة الصحاري، عاشقة الفيافي، معتقة بروائح بخور البدو إنّها اشبه برمال الصحراء متحرّكة، ملتهبة مؤذنة بالانفجار. انها اللغة: بارودة النص ومداه خصمٌ عنيدٌ تليدٌ نادته فاطمة لتصارعه في ديوانها من ثقب الروح أفيضُ فانتصرت لها اللغة بعد ان كانت خصما وافترشت لها طيب الكلام حريرا، فاجدتها طيعة، منهمرة. آه يا فاطمة كيف حوّلت اللغة المعشوقة من ظبية ملاحقة في تيه الصحراء إلى عاشقةٍ لمناخك، تمطر مدرارًا في سمائك: دهشة حينا ورجفة حينا آخر.كيف استطعت وانت الانثى أن تنفلتي من مؤامرة تراث أُقصيتْ فيه المرأة وجعلت لدهور مفعولا به، لا فاعلا في سماء النص العربي وألبس الابداع عباءة ذكورية بامتياز.
الأنوثة مستقبل الذكورة
الا يعتقد الكثيرون إلى حدّ الساعة ان الكتابة فعل رجولي بالاساس وايّ عمل ابداعي تمارسُهُ المرأة ليس الا خرقا لمواقع كانت حكرًا على الرجال فتصبح الكتابة بهذا المنحى سلطة بيد الرّجل ومشاركة المرأة الرجل في هذه السلطة تعدُّ استيلاء على مناطق نفوذٍ. ذُكوريَّة .أن تعْشقي اللغة هذا قدَرُكِ، أمَّا أنْ تَعْشَقَكِ اللغة وتتعرَّى لَكِ لِتَقْضِي مِنْها وَتَرًا وترتشفي مِنْ حُلْوِ عسلها فهذا تحَدٍّ أن تتمرَّد اللُّغة مِنْ أجْلِك عَنْ تاريخ تحدَّث عن فحولة الرَّجل الإبداعية، وعن ذكورة ادّعت امتلاك ناصية اللغة وحَبَسَتْهَا فِي قبْوٍ مظْلِم في دهاليز قصْر مسْحور لا يملك مفتاحه إلاَّ ماردٌ ذَكَرٌ. كيْف استطعت أن تخْرقِي كُلّ هذه الترسانات البالية وتُحرِّري اللغة من سجَّانها وتُهَرِّبيها إليْك لتصرخ بيِن جنبات نصوصك :
واهِمٌ منْ يعْتَقِدُ أنَّ الكتابة ذكُوريةٌ فِي جوْهَرِها .
واهِمٌ منْ يعْتَقِدُ أنَّ اللغة تُغْلق أبواب قصرها في وجه الأُنْثى .
واهِمٌ ثُمَّ واهِمٌ منْ يعْتَقِدُ أنَّ اللغة أُنْثى لا تتغَنَّجُ إلاَّ لمبدع ذكرٍ .
يَقُولُ حبيبي بأنَّ شفاهي توت
وَلم يَدْر أنَّ شِفاهي استوت
وَاستدارت
وَصارَت ثِمار وَثَارَتْ
عليْه وَجارَتْ
وَلكن بلا شفتيهِ أموت
آهٍ يا فاطمة لقد أرحْتني من عبء سُؤال ما فتئَ يؤرقُني دائما وأنا أقْرأ انتاجا أدبيا لكاتبة :هل الأنوثة تُخَفِّضُ مِنْ سَقْفِ الإبداع في الكتابة ؟ ومصدر هذا الأرقِ ليْسَ عَجْزِي عَنِ الإجابة وإنَّما استيائي لحضوره الدَّائم في ذهني مع اقتناعي بعدم وجاهته، ولكن رغم هذا الإقتناع، فإنَّهُ قد طُرِحَ، لِيُؤَسس حضوره غير المرغوب فيه شرْعِيَّةً ما .هذه الشرعية ليست إلاَّ سَطْوَة غيرمبرَّرة على اللغة وادّعاءٌ باطل بِذُكورِيّتها عَبْر مسارات التَّاريخ . ألم يكن التاريخ ذكوريّا بالأساس يَحْتَفِي غالبا بفُحولة الرَّجل وسط تجاهل مَقيت للمرأة /المبدعة .ألا تمارس اللغة دائما في قواعدها ذُكورَةٌ اقصائية على المرأة .أليْس حُضُورَ رَجُلٍ واحدٍ في جَمع نِسائِيٌ كافٍ أن يُحَوِّل أنتن إلى أنتم، أهناك ذُكُوريَّةٌ مُسْتفزَّة أكثر من هذا الاستفزاز ؟إنَّك يا فاطمة قد انتصرت لأنوثتك لا لتؤسِّسي لبنة في عالم الكتابة النسائية فإنَّكِ لن تنزلقي في نفس المُنْحدر الاقْصائِي وإنَّما لتُؤسِّس نصوصك امتدادا حقيقيا لإبداع إنساني يكتسب فرادته لا كونه نصّا ذكوريّا أو نسويًا وإنَّما يكتسبٌها من قوّة لغته وعمق صوره .إنَّ الأنوثة مُستقبل الذّكورة»هكذا قال الشاعر الفرنسي اراغون ليُعَبِّر عن التَّصوّر الحقيقي للكتابة التي هي فعْل انسانيٌّ لا يخضع للتقسيم الجِنْسي وإلى منْطق الهوِيَّة كَمُعْطى ثابِتٌ يضَعُ الذُّكورة في وضْع مناقِضٍ الأنوثة .هذا التَّصوُّر الجديد يُؤَسِّسُ للمصالحة حين تُعرَّف الأنوثة لا بذاتها وإنَّما بما كان يُعْتَقد نقيضها الذكورة فتُصْبح الأنوثة والذُّكورة لا ضدَّان بل صِنْوانِ يجذب الواحد الآخر فينْفي النَّص المكتوب جَسَدَ كاتبهِ ليستعير جسدًا آخر مُنْفَتِحًا عن شتَّى العوالم . إذن ليْس هُناك كِتابةٌ ذكُورية تقابلها كتابة نسائية بلْ هناك مُبْدع أو مبدعة لهما إحساس عالٍ في قنْص المجهول والمَسْكِ بناصية اللغة وتفنُّن مُبْهر في مُراوَغَةِ حارسها حتَّى يفُكَّ أسْرَهَا وتطْرَحُ عَبْقَرِيتها في سماء النَّص .
❊ رجَّة البَدْءِ
في البَدْءِ كان العنوان رجَّةٌ للقارئ وإرباكا لهدئة الحياةِ بلحظة زلْزلةِ المَوْتِ، أوَ ليْس الحديث عن الروح يُحيلُ إلى استحضار لحظة التّشَظِّي حين ينشطر الإنسان إلى روح وجسد فتقبض الروح منْ قبْوِ البدن ولكن أي فيض تعنيهِ الشاعرة؟ :أن يفيضَ الجسد ويغْمر الروحَ بشهوته أمْ هِي الروح تَمُدُّ أجْنحتِها تروم الخلاص من قبْو الجسد مُعْلنة الانْعِتاق . حيْرةٌ موجِعةٌ وقلَقٌ وجُودِيٌ حَارِقٌ يستبِدُّ بك منذُ قراءة العنوان ليُوَرِّطك في طَقْس ساخن ترتعد فيه الفرائس وترتجف الروح نَشْوَى بالتِّطْواف .
وأصحو على طَيْف سنبلة
تشتهيها التلال
فينمو على الغصن ثمرا
وتحنو على الريق خمْرا
وتدنو من الروح جمْرا
على أي خدٍّ نُريحُ الجَناح
وهذا الهَوَى عالقٌ يالحَشَا
وذي الروح تطْفو على مَوجة من حنين
تمُدُّ اللسان لأغنية للنَّجاة
( قاتل ياللهوى/رمشهم آسر)
طَيفهم آمر /ريقهم مُسْكرا
وَالعيون دواء /قاتل يالهوى
تعِبْنَا
ولي الروح تطْفو على مَوْجة لَهَب
وَلا غَيْم يسبق بدْء انسكاب المطر
لا قطر ينهى احتراق الخشب
يرُشُ الهوى سحره في صحاري الجنوب
فتُزْهر احلامنا خلسة في تلال الشمال
نَّها الروح المسكونة بِلَهَبِ الهوى، الثَّملة بِوَجَع الأنا المُتضَخِّمة القلوقة التَّواقة إلى الترْحال والتحرُّر . ربَّما مِنْ ثقْل الجغرافيا أليْس الجسد جغرافيه الروح الأزَلِيَّه . أوْ هُوَ الجَسد تَدَلَّى حتَّى صار قاب قوسيْن أوْ أدْنَى من الروح فشَفَّ فأمْسَيا روحان يُمَارسان اللذَّة المشتهاة في مِحْراب اللغة . إن وَجَع القصيدة المُدَوِّي في أعماق الشَّاعرة خرج للعلن مقولةٌ شرسة تحذق فَنَّ التَّخَفِّي وراء أشْرعة اللغة وتحترف المُواربة وَرَاءَ رُموز قَدْ تأتي مُوغِلة في الإروتيكيَّة حينا لا تستدعيها الكاتبة لِذاتها وإنَّما لِتخلق مِنْ خلالها طقسا مُوغلا في لذَّة الكتابة مُسْكِرًا بِشَهْوَةِ الكلمة مَوْجوعًا بألَمِ القَصيدَةِ.
مَنْ للقصيدة بعْد جدّي
مَنْ سيُوَحِّدُ رَمْلَ الأرْضِ ؟
مَنْ؟
سَيُوَزِّعُ صَمْتَهُ بيْن القبائل ؟
مَنْ سَيَحْدو الريح والغيم الحرون
وَكُلّ كثبان السحب ؟
ترسم فاطمة صورة المُواقعة بيْن جسد معشوق وآخر عاشق أوْ هكذا تخالُ للوَهْلَة الأولى .حديثٌ عَنْ حُمَّى اشتعلت، فأحرقت السّريرَ وارتجفَ مَنْ عليه ثملاً، حَتَّى سقط لِحاف الحرير وَانكشف الجسدان فإذا هما جسدان : لُغَةٌ واقعتْ بيَاض الوَرَقة فأَمْطرتْ سَيْلاً جارِفًا من الأوجاع .
مَنْ يشْتهيني ؟
مَنْ يُعَلِّمُني الكتابة فوْق لوح الروح
مَنْ يُعَفِّر بالغُبار
غبار لذَّته جبيني
لَمْ استعد للقلب رفْرَتِهِ
وَلَمْ أرض الحكاية عن جبين الليل
كان أنينك جارحا حَتَّى أتاني
و يداك أغْنِية و عيناك القصيد
هكذا هي الشاعرة تكتُب القصيدة بنفسٍ ثَوْري تَسْحَبُك مُتوَرِّطًا في شعاب لُغَتِها الآثمة إلى عالَمها الشعري المُفَخَّخِ كأرْضٍ نزاعٍ مَلِغومة كُلَّمَا هَمَمْتُ بِوَطْئِهَا آذنتْ بالإنفجار في وَجْهِكَ : حِمَمٌ وسخونةٌ تعتري صُوَرهَا الشعرية كأنَّما الجسد يَرْتَجِفُ الرَّجفَة الأولى حين حَلَّت الروح فيه كَرْها واشتهاء ليلتقي الضَّدان : تُورٌ يُشَّعُ فِي ظلمة الجسد بَلْ قُلْ ظُلْمَةٌ تَسْتَبِدُّ بالروح فيزيدها الجَسَد وَحْشَةً ورَهْبَةً فأيْنَ المستقَر والروح انشَقَّت وأعْلنتِ العصيان .أيُّ شاعرةٍ هذِهِ التي تحترف التَّمرُّد مَسَارًا في كتابة الشعر والجُرأة خطّ لا رجْعة فِيه حَدَّ اقتحام حدود النَّار وهَتْك المسكوت عَنْه والكشْف عن المَسْتور لِتُخْرِجَهُ للعَلَنِ مُتَحَرِرًا من شرْنَقَةِ المَوْروث، أيُّ شاعِرَةٍ هذِه التي تقطع مَعَ الكتابة المُسَالمَة، المِخْمَلِيَّة لتؤسس نصوصًا
تَرُجُّ القارئ وَتُرْبِكُهُ .
اجعَلِي جَسَدي رذاذا
شَفتيَّ نبيذا
وَيَدَيَّ كبريتا
وقلْبي
يا أنامله اصطفيني
ارسميني في قصائده حريقًا
وَاجعلي جسدي حقولا
شفتي ثمارًا
وَيَدَيَّ أغصانا
وصوْتي ….
يا أنامله اكتبيني
كلَّما قالت أنامله اشتعل
جَسَدي استجاب
كلَّما قادت حريقا في دمي
غَمَرَ الزَّهْر اليباب
تكتب الشاعرة قصائِدَها بحِبْر ناريّ وكأنَّها فِي أتُونٍ يشْتَعِلُ تَرُجُّك صُوَرها المتناقضة لتنزلق بك إلى متاهاتِ التَّأويل فتأْخُذَكَ بَغْتَةً على سَريرِ الهَوى ترْتشِفُ من نبيذ شِعْرها، لِتباغِتكَ على حينِ غِرَّةٍ، راهِبة على عتبات مُصَلَّى تنشدُ التَّوْبة والخلاص تبدو اللُّغَةُ في يَدَيْهَا زَلِقَةً كطِين يَتَهَيَّأُ للخَلْقِ، فينبَجِسُ كَوْنٌ يحْمِل الشيء وضِدِّه تناقُضٌ وِجْدَانِي وَمزِيجٌ من الشَّيْطَنَةِ والملائِكِيَّة تسْكُبُها عَلَى الوَرَقِ مَهَارَة جبَّارة لا في المسْك بناصية اللغة فهذا أمْرٌ محسوم وَإنَّمَا القبض عَلَى روح اللغة التي تَستشعرها تسري في جسدك حين تقرأ شعرها .
أتوبُ عن الانتظار الطويل
على بابِها الوَرَقة
أتوب عن الغيْم يهطل
فِي قلْب عصفورة مارقة
أتوبُ إذا وَأذبحها الذِّكريات
هَمَمْت بِسَجَّادَتِي
فقالوا جميعا :
رُبَّمَا عشقت راهبًا أوْ إمَامًا
لم تجدْ من طريق له
غير باب الصلاة .