ضمن هذا المسعى تصدر المنظمة سلسلة جديدة بعد سلسلتها الأدبية الشهيرة، “آداب الشعوب”، وتختص بالتعريف بالشعر. ولقد اختارت للمختارات الجديدة تقسيما جديدا غير التقسيم الكولونيالي (المعتمد في عمليات “فرز” الشعوب والثقافات إلى “مجموعات”)، أي غير التقسيمات السابقة: الشعر الإفريقي المكتوب بالفرنسية، أو بالإنجليزية، أو بالبرتغالية أو بالإسبانية وغيرها. تعتمد تقسيما جديدا، وهو قسمة إفريقيا تبعا للصحراء، بين جنوبها وشمالها. وهي قسمة ثقافية في المقام الأول، تستند- بالإضافة إلى الجغرافيا – إلى حسابات ضمنية، فتميز بين مصر والسودان والمغرب -العربي الكبير من جهة، أي الكاتبة بالعربية، وغيرها من البلدان واللغات، من جهة ثانية. ضمت المختارات بالتالي قصائد مترجمة من لغاتها الأصلية إلى الفرنسية من البلدان التالية: كينيا، نيجيريا، ساحل العاج، غانا، الجابون، الكاميرون، مالي، إفريقيا الوسطى، موزامبيق , أنجولا، بوركينا فاسو، زائير، تشاد، جنوب إفريقيا، سيراليون، مالاوي، غينيا، جامبيا، توجو، إثيوبيا، الصومال، موريتانيا، السنغال، جيبوتي، الرأس الأخضر، تنزانيا، النيجر، زيمبابوي، غينيا الاستوائية، بنين، رواندا، بوروندي، ناميبيا، الكونغو، زامبيا، أو غندا، وغينيا بيساو. وعادت القصائد إلى الشعراء: عبداللطيف عبدالله، شينوا أشيبا، جان – ماري أديافي، كريستينا آما آتا آيدو، بيار آكند ينغويه، أو زرالدوألكنتارا، فرنندوديلمايدا، دان آناس، جاريد انغيرا، كوفي آنيدوفو، كوفي نيديفوآوونور، أمأدوهمباتيه بآ، بيار ماكومبوبمبوته، هيليودوروباتيستا، أرليندوبرباتوس، خورخي بربوزو، جاك – بروسبير بازييه، فرنسيس بيبيه، أنطوان – روجيه بولمبا، تانيلا بوني، دانييل بوردانيه، كويزي برو، بريتين برايتنباخ، وغيرهم مما يزيد عددهم على 167 شاعرا.
لن نطيل التوقف حول هذا الخيار في التقسيم، مدركين أن كل التقسيمات مجحفة لهذه أو تلك من الثقافات أو الجماعات أو المجموعات في إفريقيا. هذا ما واجهه واضعوالمختارات دوما، منذ محاولة سنجور الأولى (التي قدم لها جان – بول سارتر) في العام 1948، والتي سماها “مختارات الشعر الزنجي والملجاشي”. فهذه السمة التعيينية الأخيرة، أي “الملجاشية”، سقطت لاحقا من الحسابات، فما وجدناها في أي من المختارات التالية. هذا ما أصاب بدوره السمة الأخرى، أي “الزنجية”، حيث إن بعض واضعي المختارات احتفظوا بها ولكن بعد أن زادوا عليها السمة الأخرى، “الإفريقية”، فصارت “الشعر الزنجي – الإفريقي”. كما أن بعضهم الآخر أسقطها مفضلا الكلام عن “الشعر الأسود”. إلى هذا فإننا نعرف أن بعض واضعي المختارات قصروا الشعر المقصود بالتعريف والتقديم والترجمة على إفريقيا “الحالية” إذا جاز القول، في دولها المعروفة، فيما سعى غيرهم إلى الكلام عن الشعر الإفريقي في “الشتات” أيضا، أي عن شعراء يتحدرون من أصول إفريقية، أو منادين بهذه الأصول ضمن دعوة “الزنوجة” المعروفة، مما يعني أن “إفريقيا” (وكانت تعني فيما مضى في الكتابات العربية.. تونس الحالية وحسب) مشكلة خلافية في التعيين والفرز: فكم من واضع مختارات ضم شعراء مثل إدوار مونيك، (جزيرة موريس)، وإيميه سيزير (جزيرة “الأنتيل” الفرنسية)، ورينيه ديبسر (هاييتي) مع شعراء أفارقة الأصل والإقامة.
لهذا نقول إن واضعي المختارات الإفريقية انقسموا عموما إلى ثلاث فئات:
– فئة اعتمدت التقسيم اللغوي، فأقامت مختاراتها على أساس الشعر المكتوب بالفرنسية أو الإنجليزية أو البرتغالية أو غيرها.
– وفئة اعتمدت التقسيم الجغرافي في الفرز، فقسمت إفريقيا على أساس الصحراء، أو الشمال والجنوب.
– وفئة ثالثة وأخيرة اعتمدت، مع أحد التقسيميين المذكورين، تقسيما ثالثا، وهو إلحاق شعراء من أصول إفريقية، ولوبعيدة، بهم.
نكتفي بهذا القدر من الكلام عن المختارات، مدركين سلفا أن أي عملية تقسيم لن تشكومن صعوبات، ولا من نقد الناقدين. وما يعنينا في المقام الأول في عجالتنا هذه، هو التعريف بالمختارات الجديدة. وما يشد انتباهنا في أمرها هو أنها، بخلاف العديد من المختارات قبلها، اعتمدت اختيار قصائد من غير لغة إفريقية أو من غير لغة معتمدة فيها. فواضعها، الكاتب الفرنسي برنار مانييه، لم يكتف باختيار أشعار مكتوبة بالفرنسية، أو بالإنجليزية، أو بالبرتغالية، أو الإسبانية، أي من اللغات الاستعمارية المستمرة في بلدان إفريقيا، وإنما عمد إلى تقديم أشعار مكتوبة في لغات إفريقيا المحلية، مثل لغات: السواحيلي، والهو سا، واليوروبا، والولوف، وغيرها. ولهذا نقول إن وضع هذه المختارات لافت، حيث إن واضعها واحد، فيما ترجمها العديدون. فما هي السياسة التي اعتمدها الكاتب مانييه في ترتيب واختيار الشعراء ؟
اختار مانييه لمختاراته فترة زمنية تقيد بها، وهي السنوات 1945 – 1995، مما يجعلنا نتعرف، لا القصائد البارزة والتأسيسية في بعض الأحوال في هذا الشعر، بل نتاج بعض الشعراء الأخير، وهو ما يعطي هذه المختارات طابعا تاريخيا مفتوحا طالما تجنبته مثل هذه الأعمال عادة: فواضع المختارات يتهرب عادة من اختيار قصائد “طازجة”، صادرة للتو، خشية سقوطها أو فقدان قيمتها مع الوقت.
اخترنا تعريف قارئ “العربي”. والعربية عموما، بعض الشعر الماثل في المختارات، فعمدنا إلى ترجمة بعضه، وهي قصائد للشعراء: بيراغوديوب (1906 – 1989 ) من السنغال، كيتا فوديبا (1921 – 1969 ) من غينيا، تشيكايا أو تامسي (1931 – 1988 ) من مواليد مبيلي، ومكسيم نديبيكا (1944 ) من مواليد برازافيل، في الكونغو.
بيراغوديوب، من مواليد 1906 في السنغال: عضونشيط وبارز في مجلة “الطالب الأسود” التي أسسها سنجور في باريس في الثلاثينيات، وأدت دورا لافتا في نهضة إفريقيا الأدبية. اشتهر بحكاياته الإفريقية التي كان ينقلها عن ألسنة الرواة في بلده، ثم يكتبها بالفرنسية، وقد نشرها في ثلاثة مجلدات. من أعماله الشعرية: “أفخاخ وأضواء”، التي اختارت منها المختارات هذه القصيدة، وهي بعنوان: “أنفاس”:
” استمع أكثر
إلى الأشياء منها إلى الكائنات
يمكننا سماع صوت النار
استمع إلى صوت الماء
استمع في الريح
إلى الدغل دامعا:
إنه نفس الأسلاف.
الذين ماتوا لم يرحلوا أبدا:
هم في العتمة التي تضيء
وفي العتمة التي تتضخم.
الموتى ليسوا تحت الأرض:
هم في الشجرة التي ترتجف
هم في الغابة التي تتأو ه
هم في الماء الذي ينام
هم في الكوخ، هم في الحشود:
الموتى ليسوا موتى
استمع أكثر
إلى الأشياء منها إلى الكائنات
يمكننا سماع صوت النار
استمع لصوت الماء
استمع في الريح
إلى الدغل دامعا:
إنه نفس الأسلاف الموتى،
الذين لم يرحلوا أبدا
الذين ليسوا تحت الأرض
الذين ليسوا موتى.
الذين ماتوا لم يرحلوا أبدا:
هم في ثدي المرأة،
هم في الطفل الذي يستهل
وفي الجذوة التي تحترق
الموتى ليسوا تحت الأرض:
هم في النار التي تنطفئ
هم في الأعشاب التي تبكي،
هم في الصخرة التي تنوح،
هم في الغابة، هم في الإقامة،
الموتى ليسوا موتى.
استمع أكثر
إلى الأشياء منها إلى الكائنات،
يمكننا سماع صوت النار
استمع إلى صوت الماء.
استمع في الريح
إلى الدغل دامعا:
إنه نفس الأسلاف.
إنه يعيد كل يوم قول الميثاق،
الميثاق الكبير الذي يوثق،
الذي يوثق مصيرنا بالقانون،
بأفعال الأنفاس القوية
مصير موتانا الذين ليسوا موتى،
الميثاق الثقيل الذي يوثقنا بالحياة.
القانون الثقيل الذي يوثقنا بأفعال
الأنفاس التي تتلاشى
في سرير النهر وعلى ضفافه،
الأنفاس التي تتأو ه
في الصخرة التي تتأو ه وفي الأعشاب التي تبكي
أنفاس باقية
في العتمة التي تضيء والتي تتضخم
في الشجرة التي ترتجف، في الغابة التي تتأو ه
وفي الماء الذي يجري، وفي الماء الذي ينام،
أنفاس أقوى أخذت
نفس الموتى الذين ليسوا موتى،
الموتى الذين لم يرحلوا،
الموتى الذين ليسوا تحت الأرض.
استمع أكثر
إلى الأشياء منها إلى الكائنات،
يمكننا سماع صوت النار
استمع إلى صوت الماء.
استمع في الريح
إلى الدغل دامعا:
إنه نفس الأسلاف”.
***
كيتا فوديبا، من مواليد 1921 في غينيا: معروف خصوصا بتصاميم الرقص الإفريقي التي ابتكرها في نطاق “الباليه”، والتي عرضها في غير بلد من العالم. نشر في العام1958 ديوانا بعنوان “قصائد إفريقية”، يستجمع فيه أطراف الشعر والنثر، موسيقى الآلة الإفريقية والأغنيات، المونولوجات والجوق، وهي من مميزات الأدب الشفوي الإفريقي. توفي في العام 1969. اختارت له المختارات هذه القصيدة، وهي بعنوان: ” فجر إفريقي”.
“كان هذا عند الفجر: الضيعة الصغيرة تستيقظ رويدا رويدا بعد أن رقصت طوال الليل على أصوات الطام – الطام. الرعاة يقودون قطعانهم إلى الوادي وهم ينفخون في شباباتهم. الصبايا، بقدورهن الفخارية، يهربن واحدة تلوالأخرى باتجاه ممر النبع المتعرج، وفي باحة مقام الوالي الصالح تنشد مجموعة من الأطفال آيات قرآنية.
كان هذا عند الفجر. معركة النهار والليل. إلا أن الليل خارت قواه وانطفأ ببطء. أشعة شمس قليلة مثل إشارات مبكرة تتجرجر خجولة وصفراء عند الأفق. أشعتها الأخيرة تنزلق بنعومة بين أكوام الغيوم مثل أزهار العندم الهندي.
كان هذا عند الفجر. وهناك في البعيد، في عمق السهل الشاسع ذي الحدود القرمزية، شبح إنسان منحن يستصلح أرضا: شبح نامان، المزارع. إثر كل ضربة من مجرفته، تطير العصافير المذعورة وتلتحق بخفق الجناح بضفاف “دجوليبا” الهانئة. بنطاله القطني الرمادي، يضرب العشب المبلل بالندى. لا يبالي بالتعب، يستعمل أدواته بمهارة: إذ كان عليه أن يطمر حبوبه قبل هطول الأمطار الأولى”.
مكسيم نديبيكا من مواليد العام 1944، في برازافيل بالكونغو. له مسرحيتان: “الرئيس”، و”الغد المغني”، ومجموعات شعرية عدة، منها:” شموس جديدة” (1969)، “الحميض والليمون” (1975)، “علامات الصمت” (1978 ). اختارت المختارات هذه القصيدة من ديوانه الأخير، وهي بعنوان: “980000”.
“سنة أخرى
تحترق تحت شمس البيض الفارغ
سنة مفرغة
سنة غير موشومة
بأية لطخة زمنية
سنة ليست بسنة
سنة مهملة
كانت تعرج بالأمس
واليوم تميل إلى القصر
سنة أخيرة
مغيرة بحجم ذرة
استولت عليها الأشباح وقضمتها
قصرت الأيام
ويكاد القمر أن يخترق الليل.
هل سنجرؤ على سؤال الشمس
عن قصر طريقها غير المعتاد
إذا كانت ممرات الليل مقفرة
هل سنقوى على طرح الأسئلة
لماذا أثداء النساء مجدبة
لماذا جفت الأنهار
لماذا ترشح إهراءات الأرض
لماذا تفرغ خزانات السماء
لماذا تنقص الحياة
لماذا تنقص الحياة هناك
وتزداد هناك
هل تغذي الجهة هذه الجهة الأخرى
من يقوى من يقوى من يقوى ؟
نحن نقوى على ذلك
نحن ال 980000
ال 980000 مجوع
ومكسور
ومخبول “.
***
تشيكايا أو تامسي (1931 – 1988 )، من مواليد مبيلي في الكونغو، والده، فيليكس تشيكايا (1902 – 1959 )، زعيم كونغولي مرموق: أول نائب عن الكونغوفي الجمعية الوطنية التأسيسية بفرنسا في العام 1954، ثم مرة ثانية في العام 1956، كما جرى انتخابه نائبا في الجمعية الوطنية الفرنسية، وهو مؤسس “الحزب التقدمي الكونغولي”.
أما ابنه الشاعر فأقام في فرنسا منذ العام 1946، وما لبث أن عاد إلى بلده، ورأس تحرير جريدة “الكونغو”، واقفا إلى جانب الزعيم الكونغولي الراحل باتريس لومومبا في نضاله التحرري. عاد إلى باريس مرة ثانية وأقام فيها بصورة مستمرة، عاملا في منظمة اليونسكو، حتى وفاته في العام 1988. كرمه بعد وفاته “موسم أصيلة الثقافي” في المغرب (ومنه “المنتدى الثقافي العربي – الإفريقي”) بأن خصص جائزة شعرية للشعر الإفريقي تحمل اسمه مرة كل سنتين. صدرت له، بالإضافة إلى الروايات والمسرحيات، عدة دواوين شعرية: “الدم الفاسد” (1955 )، “نار الأدغال” (1957 )، “خداعا للقلب” (1960 )، “موجز: مداخل فهرست العشق” (1962 )،”البطن، متبوعا بـ: الخبز والرماد” (1964 )، “القوس الموسيقي” (1970 )، و”السترة المنزلية متبوعا بـ: فقرات السهر” (1977 ). اختارت له المختارات قصيدتين: “ضفيرة للنسج ” من ديوان “نار الأدغال”، و”احتضار” من ديوان “خداعا للقلب”:
القصيدة: “ضفيرة للنسج”:
“بعد أن أفشى سر الشمس
رغب في كتابة قصيدة حياته
لماذا البلوريات في دمه
لماذا الكريات في ضحكاته
كانت روحه يانعة
حين صرخ أحدهم في وجهه
أيها العبدالأسود
احتفظ بضحكته العذبة
وبشجرة ضخمة من تمزقه العنيف
الذي هو وطنه
يسكن فيه مثل المتوحش
خلف المتوحشين أمام المتوحشين
نهره كان القصعة المأمونة
لأنها كانت من برونز
لأنها كانت لحمه الحي
عندها قال لنفسه
لا حياتي ليست قصيدة
ها هي الشجرة ها هي المياه ها هي الأحجار
ثم قراءة الأيام القادمة”.
القصيدة “احتضار”:
“اسمي أفضل مفتاح للأحلام
كل عصفور يغني
في بركة من الدم
كان البحر بجانبنا يرقص
بالجينز.
جداف أسود
عارف بالنجوم
يقول إنه قادر على شفاء البرص من البرص
بوحل عيونه الحزينة
إذا حرر حب قوي ذراعيه
اسمي مفتاح الأحلام
لست برصاء
اعطني هذا النهر قبل أن أتفوه باسمي
وتنحل ذراعاك
عندي مجداف مغن
أين هو النهر للعبور
أهي بركة الدم هذه
اتبعني
أغمض عينيك
افتكر بالقمر
تأمل نهري
لنعبر
أنشد الرجل والعصفور
قضيا ثلاثة نهارات وثلاث ليال
في عبور
السرير الملوث لأحد الأنهار
اسمعوا
الموج يهدهد الجداف
إنه ينام
إنه يحلم
ركام من الجثث يبسط وليمة
يتم فيها أكل الأحشاء ليلا
ثم السواعد ثم ذاكرته.