بين أيدينا رواية مناسباتية الإطار (نظراً لارتباطها الجذري بوقائع الحراك الشعبي، باعتباره أحد المراجع الأساسية لاستلهام وقائعها المخيالية)، وهي من النوع العبثي من حيث الأسلوب، وديستوبية من حيث الثيمة، وطبقية البناء والتشكيل الخطابي. تمتد على 341 صفحة. وقبل الخوض في قراءتها، علينا -بداية- وضع بعض المعالم الإطارية كمفاتيح لهذه الرواية وهذه القراءة معاً:
– من يقرأ رواية الحماقة هذه منفردة ليفهم خطاباً مستقلاً بمعناه وأحداثه
– من قرأ الرواية السابقة لهذه: (سلالم ترولار) ثم قرأ رواية الحماقة كما لم يروها أحد – مع ملاحظة أن الروايتين تشتركان في الشخصيات الرئيسية والثانوية مما يجعلهما (ثنائية روائية) سيفهم فكرة أخرى مدمجة تغذيها الروايتان، وبالتالي ستختلف هذه الفكرة حجماً ونوعاَ عن قراءة الرواية الثانية مستقلة عن الأولى..
– إن العبثية المقصودة هنا هي نزوع تأليفي ينتقل بالعدوى بين العنوان (الحماقة) لينزاح إلى البنيتين الفكرية النص والشكلية (المورفولوجية) للخطاب، ثم تواصل انتقالها التدريجي إلى الأسلوب الذي يقوض مبدأ أفق توقع القارئ، ويضع لافتة كبرى أمامنا منذ أول صفحة لتوجه قراءتنا حتى آخر أنفاس النص؛ عنوانها (مبدأ اللاأمان) كعقد أساسي لانتهاك أي عقد ممكن، بين النص والقارئ.
– المقصود بالطبقية هنا هي ذلك التنوع والتعدد الخطابي الذي يتجلى بوضوح في الشكل والبناء السردي دون الفكرة والثيمة.
أولاً – علاقة العنوان بالنص:
يشير عنوان الرواية لأول وهلة إلى أن النص الذي يتصدره سيروي وقائع تتصف بالحماقة، ويصف العنوان هذه الحماقة بأنها لم يسبق أن رواها أحد بهذه الطريقة، ليتبين بعد صفحات قليلة، بأن الحماقة في المتخيل السردي لهذا النص (حسب تأويل هذه القراءة المتواضعة طبعاً)؛ هي تلك الأمراض البهلوانية التي أصيب بها الشعب الجزائري في مختلف ثوراته التي كانت آخرها ثورة 22فبراير 2019. التي أطاحت بالرئيس السابق وحكومته (الذي تتحدث الرواية عن إسقاطات كثيرة له ولفترة حكمة ونهايته). لكن هناك ملاحظة وجب تسجيلها، حيث لم يكن وصف انتفاضة الشعب بالحماقة إلا في نظر حكامه المتسلطين المعزولين في عالمهم العلوي المسيج، بهالات وهمية، بعيداً عن عالم الشعب المطحون والمتهيج، وهذه حماقة أخرى يرى فيها الحاكم الأحمق بأن ثورة شعبه على فساد منظومة الحكم، حماقة ووباء وجب علاجه بالسجن والعزل القسري حتى يختفي صوته ويشفى منها إلى الإبد إما بالموت أو بالخرس. وهي الحقيقة التي انتهت إليها الرواية، بفقدان جميع الناس للقدرة على القراءة والكتابة وتوقف جميع المرافق الحيوية المعتمدة على القراءة والوثائق، ولم يبق سوى مجند واحد يحسن القراءة والكتابة تم تعيينه رئيساً يحكمهم (سالم الجمل- أو سليم غاشي) من طرف سلطات أجنبية لمستعمر سابق أعادت للشعب –بعد تنصيب سليم غاشي رئيساً- القدرة على القراءة والكتابة بطريقتها. وبالتالي سير المؤسسات بطريقتها أيضاً.
يغدو الحراك حماقة شعب في نظر حاكمه المعزول عنه وظيفياً، ونظرة الحاكم لشعبه بهذه الطريقة هي حماقة الحماقات، التي انتهت بتسليم البلد بكل حماقة إلى مستعمر سابق يعيد تشغيل جسد البلد بطريقته الحمقاء.. التي لم يتعلم منها الحاكم الأحمق أي درس، فأعاد المستعمر القديم الجديد تدريسه وتلقينه القراءة والكتابة بطريقته من جديد. وهذا ما جعل الرواية تحكي خطابها (بشكل مجتزأ) بعض فصولها ومقاطعها بطريقة انعكاسية (كالمرآة) وتسجيلية مباشرة، دون أي ترميز، واستحالت الكثير من فقراتها إلى مقاطع تسجيلية بحتة تحكي خطابا بين الشارع والسلطة بشكل مباشر الوصف والتقرير. وهذا ما سنقدم عليه بعض الأمثلة في نهاية هذه القراءة، وليس الخطاب التسجيلي في هذه الرواية سوى نوع فرعي من بوليفونية (أي تعدد الأصوات) واسعة ومتعددة الأنماط الخطابية في هذه النص، قد تحتاج إلى دراسة مختصة لتحليل الخطاب ليس هذا مقامها. ودراسة البعد البوليفوني والحواري الكثيف والمتعدد في هذا النص. يمكن أن يكون مجالاً للدراسات الأكاديمية، نظراً لحضوره الكمي والنوعي المتعدد الأبعاد في هذا النص.
ثانياً- تقسيم الإطار الموضوعاتي للرواية:
تتكون الرواية من بابين: الباب الأول سماه الكتاب الأول: “حماقات دوق دي كار”، وينقسم بدوره إلى قسمين: القسم الأول بعنوان: “قبل العتبة بقليل”، [ص:17- ص115] والقسم الثاني بعنوان: “بعد العتبة بكثير” [119-227].
خصص الروائي القسم الأول من الباب الأول للحماقة؛ لأطوار الحياة في العاصمة داخل أحلام البطل جمال حميدي، حيث يكون فيها مواطناً مع الشعب. ويخصص القسم الثاني: لاستفاقته من الحلم على واقع شروعه للتو في ممارسة مهامه كرئيس جمهورية يواجه شعباً مريضاً بالرقص في الشوارع، ويحمل شعارات وهمية لدولة غير موجودة أصلا؟ (ص120).
والباب الثاني من الرواية سماه: الكتاب الثاني، وعنوانه: “الأحمق يقرأ دائماً.[229- 341]، وخصصه لمرحلة ما بعد العشرين عاماً التي قضاها جمال حميدي رئيساً للجمهورية (والمدة الزمنية 20 عاماً لها دلالته المرجعية السياسية في الواقع طبعاً- مدة حكم الرئيس السابق بوتفليقة). وهو قد بلغ التسعين من العمر. ليموت جمال حميدي في منتصف هذا الباب تقريباً، وتعقب موته حالة من البلبلة والفوضى العارمة، بسبب ظهور داء آخر أصاب الجميع؛ هو فقدان القدرة على القراءة والكتابة، دخلت البلاد بسببه في دوامة انتهت بمقتل رئيس الحكومة، وتولي الكولونيل “سعيد الذيب” مدير التشريفات بالرئاسة) مقاليد الحكم بمرسوم عسكري، بعد أن دفن جثمان الرئيس (الرجل الضئيل)، صاحب الكرسي المتحرك. وبعد موت رئيس الحكومة دهساً تحت عجلات شاحنة، كان يستوقفها لتنقل رئيسه المقعد، تنتهي الرواية بتعيين الجندي في الجيش: سالم الجمل (سليم غاشي) رئيساً للجمهورية، بمكالمة هاتفية من مسؤول في دولة المستعمر السابقة التي يناديها الرجل العسكري: الكولونيل “سعيد الذيب” بأمه الأولى، ويعد مسؤوله الفرنسي على الخط بأنه –مباشرة بعد تعيين الجندي سالم الجمل رئساً للجمهورية، (وهو الوحيد الذي يعرف القراءة والكتابة والناجي الوحيد من وباء فقدانهما) سيحذف النشيد الوطني المزعج الذي يحمل وصفا مسيئا لدولة أمه الأولى. وهذا ما تحقق، “تماماً كما توقعه الكولونيل سعيد الذيب لا كما توقعه كاتب هذه القصة، حين تعذر عليه معرفة مصائر بعض شخصياته، بعد أن اختفت، رغبة في حياة أفضل، قد تقضيها في كتاب لاحق”(ص329). وتنتهي رواية الحماقة بوعد الروائي باستكمال مصائر بقية الشخصيات التي يقيت معلقة -حتى مع نهاية الرواية- في نص قادم.
ثالثاً- عبثية الازدواج المشهدي لفصول الرواية:
ننبه هنا إلى أن سيرورة الرواية عبر هذه التقسيمات، تجعل لكل باب وقسم، موضوعاً يعالجه وفكرة تؤطره، لنجد في النهاية بأن كل فصل يصب في الآخر الذي يلحقه، أو بالأحرى كل فصل هو تطور سردي عن سابقه. في شكل معمار هرمي من الطبقات. (وهذه هي الطبقية المقصودة في عنوان المقال: “الحماقة”)
وككل روايات سمير قسيمي السابقة، يقدم لنا الكاتب – في حماقته التي يصفها بكونها لم يروها أحد- عملاً روائياً يمكن أن نصفه بأنه أكثر أعمال الكاتب إغراقاً في العبثية الأسلوبية في إدارة إلاعيب السرد le ludisme، وهي ليست عبثية الأسلوب والأحداث فحسب، كما عودنا كتاب هذا النوع من النصوص، بل عبثية التأليف والبناء والهندسة، وهذا ما يُصَعد من رهاني القراءة والتلقي لهذا للنص، وإمكانية بلوغ معانيه للقراء، التي يبتغي الكاتب تبادلها مع قارئه.
- عبثية الموضوع. (القصة)
يتجاذب موضوع الرواية طرفان لثنائية جدلية يتقاذفان أحداثها على امتداد الرواية. وهما: (الحلم والواقع). والإشكالية في هذين الفضاءين المتجادلين، أنهما مسكونان بنفس الشخصيات، أي إن الشخصيات التي تتفاعل في واقع النص هي نفسها التي نراها في الحلم (حلم البطل جمال حميدي). لكن كل شخصية تحمل في الحلم وظيفة أخرى مختلفة تماماً عن وظيفتها في الواقع، فجمال حميدي في الواقع رئيس جمهورية، وفي الحلم مدير دار بغاء، و”عصام كاش كاصي”، في الواقع مستشار رئيس الجمهورية، وفي الحلم تاجر خردة الحلي المكسور، والفتاة “أولغا” في الواقع زوجة رئيس الجمهورية (جمال حميدي)، وفي الحلم مسيرة دار دعارة يملكها جارها “جمال حميدي” (البطل/ الراوي).
والطريف في الأمر أن البطل جمال حميدي مطلع على الحياتين اللتين يحياهما مع شخصيات الرواية، (الواقعية والحلمية)، والأطرف من كل ذلك، أن جمال حميدي وهو بطل في الفضائين الواقعي والحلمي، حين يكون في عالم الأحلام، يكون مدركا لأطوار قصته مع الشخصيات في عالم الواقع (حين يكون هو رئيس جمهورية، واولغا زوجته، وعصام مستشاره..) على أنها مجرد حلم، بينما حين يستيقظ من حلمه ويجد نفسه رئيس جمهورية في عالم الواقع، يكون مدركا لما جرى في حلمه حين كان مديراً لدرا بغاء وأولغا (أو حورية) هي من تسيرها. ويفهم ذلك على أنه مجرد حلم.
تعتبر رواية الحماقة جزءاً ثانياً عن رواية سلالم ترولار، لأن كليهما، تدور حول بطل واحد، هو جمال حميدي، الذي انتهى رئيساً للجمهورية وزوجته تدعى أولغا (حورية)، هناك، بينما، تبدأ رواية الحماقة والبطل جمال حميدي، صاحب دار دعارة، والمرأة أولغا مديرة على هذا الماخور ومشرفة على بائعات الهوى فيه.
تبدأ رواية الحماقة أحداثها بأحوال البلد الذي يعيش فيه جمال حميدي صاحب دار الدعارة، حينما يصحو من نومه، ويحمد الله أن كل ما كان يعيشه كرئيس جمهورية كان مجرد حلم.. [لكن هذا ما كانت ترويه روايته السابقة رواية سلالم ترولار]، وهذه الإشارة هي عبارة عن تنبيه للقارئ، على أن ما قرأه في الرواية السابقة سلايم ترولار، على أنه واقع في حياة جمال حميدي، لم يكن سوى حلم، استيقظ منه في رواية الحماقة، التي تحكي عن أن هذا الشخص الذي كنا نعتقده رئيس جمهورية ليس سوى صاحب دار دعارة ورثها عن أمه المشعوذة “عويوش”. وهنا يدخل القارئ في لعبة اللاأمان واللاضمان مع الكتاب، وهي إشارة أخرى للقارئ بأن لا يأتمن ما يرويه الكاتب على أنه وقائع سردية، فربما كانت صحوته مؤقتة، وسرعان ما تصبح حلماً لواقع آخر في الفصل التالي… وهكذا.
إن مبدأ اللاأمان، بين القارئ والكاتب، بحيث يجد القارئ نفسه مجبراً على التوقف عن بناء أفق توقعه الثابت، لأن أفق التوقع هذا قد عمد الكاتب إلى هدمه بداية من الصفحات الأولى. هذا هو مبدأ العبث، الذي لن نترجمه هنا باللامعقول (l’absurde)، لأن السرد في هذه الحالة لا يقوم على العقل ومدركاته، بل على منطق تخييلي صرف، حتى إن كان يتحدث عن مرجع واقعي يتصل به الخط الدرامي لللأحداث، لذا فالأفضل تسميته باللامتخيل، في عملية التلقي. لأن العبث في اعتقادي فعل متخيل، يهاجم مواضعات المعقول وليس العكس. ولأنه لا توجد مواضعات منطقية ثابتة في أساليب السرد لدى الكتاب (وهو هامش حريتهم الأسلوبية)، إلا ما تواضع عليه الكاتب مع قارئه في قوانين شعرية النص المؤسس مخيالياً بينهما، فإن تمزيق هذا العقد، وخرقه، والتلاعب ببنوده العائمة أصلاً على سطح متخيل، هو ما يمكن أن نسميه العبث التخييلي. وهذا التمزيق المبدئي للعقد المنطقي بين الكاتب والقارئ، هو ما نقف عليه حرفياً في هذه الرواية. التي تنفتح منذ صفحتها الأولى على هاجس اللاأمان، إيذانا بمطاردة سردية الأمر الوحيد المتوقع فيها هو اللاأمان، وعدم جدوى التوقع.
- عبثية الأسلوب التأليفي:
يتعلق الشق الثاني من المبدأ العبثي عند سمير قسيمي في الأسلوب التأليفي، الذي يعتمد على الهدم المفاجيء لما سهر على تشييد بنائه وتدبيجه وصفه وهندسة معماره. مهما بلغت هذه البنية من استراتيجية وأهمية سردية، لكنها في نظرالروائي، بنية آيلة للزوال والهدم والزهد في وجودها في أية لحظة. فلا بنية مقدسة، ولا بنية مهملة لديه، حين تستويان في قرار البناء وقرار الهدم المحدق بهما.
كِأنما الحقيقة الأسلوبية الثابتة لدى الروائي هي الهدم وليس البناء، لأن الأول هو رهان التجديد وليس الثاني. كما يفعل ويعتقد كثير من الروائيين والقراء.
تتعلق هذه الاستراتيجية التي لا قداسة ولا ثبات فيها لأي شيء في الكون التأليفي، على مبدأ سيادة القدر.
والقدر هنا ليس معتقداً إيديولوجياً بقدر ما هو عقيدة تأليفية، بما أن المؤلف مبدع (un créateur )، هذه الكلمة التي تعني فنياً (الخالق)، الذي هو الكاتب، ما يعني أن رأس مال الكاتب هو الكاتب المتحكم في أقدار جميع عناصر البناء الفني بما فيها الكتابة في حد ذاتها. ناهيك عن الموضوع وعناصره من بنيات وشخصيات، يختلق ثم ينهي مصائرها في لمح البصر، وبعض الشخصيات لا تعمر إلا صفحة أو اثنين، ثم يتخلص منها بالسرعة التي أنشأها بها، وبعضها يختفي وتنقطع اخباره عن القارئ، تاركة علامة استفهام كبرى حول اختفائها، (مثل شخصية اولغا [حورية]، زوجة جمال حميدي في الواقع، ومديرة بيت الدعارة خاصته).
قد تكلف السلطة الكاملة التي منحها الكاتب لسلطة القدر الذي يعبث بجميع المصائر غير مفرق بين عنصر رئيسي وآخر ثانوي أو هامشي، في هجران كثير من القراء الذين تتفكك قراءتهم، وتنهار بهم درجات سلم القراءة التي بنوها مع الكاتب من أول النص، ورأوه يزيلها بجرة قلم، فلا يفهمون منطقه، وكفيل عدم الفهم، بأن يصيب القارئ بعدم الفهم وإبهام النص، وكفيل عدم الفهم بالتخلي عن القراءة. كما ان عنصر الغموض، وكسر أفق توقع القارئ، وتخريب عوالم منطق القراءة الذي بناه، يمكن أن يشحذ همة البعض من القراء في اكتشاف أي نهاية ستختم هذه الزلازل السردية، والخرابات المصيرية التي تلحق كل بنية تم تشييدها من قبل، فيمثل لديهم دافعاً ومنبهاً ويولد رد فعل مصمم على إنهاء هذا العبث السردي واكتشاف مآلاته الفنية.
ولعله من المناسب أن ننبه القراء بأن استراتيجية العبث بالمصائر، والعبث التأليفي والموضوعاتي، ولا سيادة نصية سوى سيادة القدر، التي تعطي للكاتب (باعتباره مبدعاً وخالقاً- بالمفهوم الفني لا الواقعي)، ليست من ابتداع الكاتب سمير قسيمي بل هي استراتيجية معروفة وشائعة بين كثير من كتاب الأدب العالمي، فقد رأيناها بكثرة عند الكثيرين وعلى الخصوص: عند التركي أورهان باموق، والأمريكي بول أوستر.
هذه الحركة الأسلوبية في التأليف، قد يسميها البعض الصدفة (كمال الرياحي- فن الرواية، ص156)، لكن في الحقيقة الصدفة ليست سوى صنيعة قدر أعلى منها سلطة، وفي تاريخ الأدب والنقد، تسمى هذه السلطة التي تتحكم في جملة مصادفات السرد، بالقدر (le fatum- la fatalité)، وذلك منذ مؤلفات سوفوكليس (الكاتب المسرحي الذي نظَّر للقدر مسرحياً)، ويعني تلك السلطة المطلقة للمصادفات التي تصنعها الأقدار في واقع النص. من خلال اصطناع اللقاءات الحاسمة بين أهم الشخصيات، أو الوجود في مكان ما لم يكن في الحسبان، ولم يقرر أحد الوجود فيه، أو الموت صدفة دون سابق تمهيد أو إرهاص: (موت البطل جمال حميدي): “شعر بخفقان شديد في صدره، سرعان ما ازداد قوة، وإذ فتح فمه ليصرخ بأي شيء، توقف قلبه فمات” (ص 240)، بهذه السهولة يتخلص الكاتب من أهم شخصياته، حتى لو كان البطل الذي شكل وصفه الداخلي والخارجي والواقعي والحلمي على مدى روايتين. فالقدر السردي هنا، ينبني بمصادفاته، وكل مصادفة يقف وراءها قدر مطلق السلطة والسيطرة على العالم، ولا يحكم هذا القدر إلا الكاتب في نهاية المطاف، لذلك فأول صورة تقف أمام القارئ عند خراب أي بناء، أو انتهاء أي مصير تم حسمه، هي صورة من يحكم هذا القدر، وهنا لن يجد سوى أسلوب الكاتب القائم على عبثية المصادفة والقدر. كأنما يكتب المؤلف روايته بقلم رصاص على مسودة معرضة للتصويب والمحو والإتلاف المحدق بها في أية لحظة. وهذا هو الهاجس الذي يسكن الكاتب وقارئه، ويرافقهما كالقدر من أول خطوات المغامرة السردية إلى آخرها. وهي هشاشة تتطلب منهما (كل من الكاتب والقارئ) صلابة قصوى في السير حتى بلوغ النهاية، وهو رهان آخر قد يبلغه البعض، ويتيه عنه البعض الآخر، لكن كلاهما- سواء في حالة بلوغ مراميه أو التيه عنها- يمنحان النص ضفافاً تأويلية وقراءات متفاوتة الأبعاد بحسب ثقافة كل قارئ.
رابعاً- السرد الثلاثي الأبعاد.
تحكي الرواية مغامرتها عبر مسارات سردية ثلاثة، تابعة لخطابات الفئات الثلاث من الشخصيات (الشخصيات العابرة بين الحلم والواقع- الشخصيات المنتمية للحلم (حلم البطل جمال حميدي)- الشخصيات المنتمية للواقع الروائي): وفق سرد تخييلي مزدوج لشخصيات مختلفة المستويات يمتد وجودها بين عالمي الواقع والحلم ( أي حلم البطل جمال حميدي) لكن الملاحظة الأساسية هنا هي أن جميع الشخصيات، أثناء وجودها في العالمين، تحافظ على الأسماء نفسها، ولا تغير سوى وظائفها وعلاقاتها بالبطل)، فتنشأ لنا وفقها ثلاثة مسارات خطابية للشخصيات تحدد وظائفها انطلاقاً من مواقعها، وهي:
– مسار الشخصيات العابرة بين الواقع والحلم
وهي شخصيات ذات الوظيفتين مختلفتين، فوظيفتها في حلم جمال حميدي تختلف عن وظيفتها بعد صحوه في الواقع، وهي
أ- البطل جمال حميدي: (في حلمه صاحب دار دعارة/ في واقعه رئيس البلاد)
ب- أولغا (حورية): في الحلم هي جارة جمال حميدي في العمارة، ومديرة دار الدعارة التي يديرها.
وفي الواقع هي زوجته أيضاً، ومن حيث الانتماء هي ابنة بالتبني لإبراهيم بافولولو (الرجل الضئيل ورئيس البلاد قبل جمال حميدي). يعني انتقلت أولغا (حورية) من ابنة الرئيس السابق بالتبني، إلى زوجة الرئيس الجديد. مما جعلها الشخصية الأكثر انفتاحاً وثراءً من حيث الحركة والوظيفة، و الأكثر سيطرة على جميع وقائع الرواية في خطابيها الواقعي والحلمي. وهي بهذا تجسد حرفياً وظيفة الشخصية المطاطية، أو المتمددة. التي تتشكل بشكل متجدد، وتتأقلم مع جميع الأحداث. ومهما تناقضت هذه الأحداث فيما بينها، فإن الثابت فيها هو حركية هذه الشخصية ونشاطها مهما كانت تعرجات الخط الحدثي وانكساراته. وتحولاته عبر الفضاءات السردية.
ج- عيشة لارولاكس: وهي عرابة العاهرات في بيت الدعارة الذي يملكه جمال حميدي وأسيرة جارته أولغا (حورية).
د- إبراهيم بافالولو (الرجل الضئيل/ في الحلم موظف بسيط مهمش يشتغل بواباً في قصر الحكومة، في الواقع رئيس بلاد قبل جمال حميدي ووالد أولغا (حورية زوجة جمال حميدي في الواقع)، بالتبني، لأنه عقيم ، مثله مثل جمال حميدي الرئيس العنين (الضعيف جنسياً) الذي خلفه على الرئاسة.
– مسار الشخصيات المنتمية للحلم:
أ- عويوش: (في حلم جمال حميدي/ أم جمال حميدي العرافة التي حولت بيتها في ما بعد بيت مواعدة ورثه ابنها جمال حميدي).
ب- عصام كاش كاصي: شاب يتاجر في خردة الذهب، وهو مدان في الحلم استدان من جميع سكان حي دوق دي كار دون أن يرد لهم فلساً واحداً. ولما غضب من وضعيته المهمشة والمحتقرة، قرر دخول عالم الكتابة الروائية، وفتح صفحة على الفيسبوك باسم أنثوي مستعار هو الروائية “دليلة غندريش” وقد استقطبت كتاباته جمهوراً افتراضياً مهولاً من الكتاب الحالمين الجدد (سماهم الحمقى والمغفلين) وكان لا يقبل انضمامهم إلى صفحته إلا بعد التأكد من رداءة منشوراتهم وانحطاط مستواهم، فألف جمهورية افتراضية من الحمقى جعل منهم مروجين مجانيين لرواياته التي عرفت انتشاراً رهيباً بين الناس ومن أشهرها [رجلان/ امرأة ومخنث]- [تعبت لألبسك] – [أن تفترسني.. قصة حب ممنوع]. وكلها تحت اسم الكاتبة “دليلة غندريش” التي صارت أشهر من نار على علم، ويشترى روايتها جميع مثقفي البلد حتى أقرب مقربيه، ومنهم أولغا (حورية) زوجة بطل الرواية؛ جمال حميدي، دون أن يعلم أحد (سوى قارئ الرواية) بأن الكاتبة ذائعة الصيت، ليست سوى صورة فانتازمية (حلمية ومعكوسة) من ابتكار المتصعلك الجوال سيئ السمعة: “هشام كاش كاصي”.
ج- موح بوخنونة (محمد نجار): صديق هشام كاش كاصي.
د- بختة: عاهرة أخرى بالمبغى وهي ابنة أخت عيشة لارولاكس، وتلميذتها النجيبة.
– مسار الشخصيات المنتمية للواقع الروائي:
أ- الكولونيل سعيد الذيب (مدير التشريفات بالرئاسة). وأب لابن غير شرعي (يسمى سليم غاشي ويلقب بسالم الجمل) نتيجة اغتصابه لفتاة قاصر، كادت قضيتها أن تعرضه للطرد، لولا معارفه المتجذرة لدى القيادات العليا.
ب- سالم الجمل (سليم غاشي) الابن غير الشرعي للكولونيل سعيد الذيب، من فتاة قاصر اغتصبها هذا الأخير. وسالم الجمل هنا: هو ضابط المخابرات الذي سجن إبراهيم بافالولو في صندوق السيارة حتى تبول وتغوط في ملابسه، ثم اقتاده مباشرة ليشغل منصب الرئاسة.
كما يحتل سالم الجمل مركزاً هاما في سوق السكوار، حيث يوظف به الشباب الطامح في الثروة ومن بينهم العاهرة عيشة لارولاكس التي صارت عشيقته لاحقا.
ج- أحمد السلوقي (مأمور الوزراء والمخابرات).
د- رئيس الحكومة (لا اسم له) المكلف بدفع الكرسي المتحرك لرئيسه
هـ – موح اللومبة: وهو قواد يستغل وسامته وطراوته في الإيقاع بالفتيات وإلحاقهن ببيت الدعارة الخاص به، ومن بين فتياته عيشة لارولاكس التي صارت فيما بعد فتاة جمال حميدي المفضلة، ومن بعده سالم الجمل. قبل أن تدخل السجن بسبب قضية احتيال في سوق السكوار (السوق السوداء للعملة)، بالإضافة إلى تهمة أخرى تتعلق ببيع الذهب المغشوش، أمضت بسببهما: خمس سنوات سجنا نافذا. وهذا الصنف الأخير من الشخصيات هو الذي اختار الروائي أن يختتم به أحداث الرواية.
وفي تظافر المسارات الشخوصية الثلاثة تنسج الرواية طبقات السرد الثلاث: بين التخييل المضاعف، وتخييل الوقائع، والسرد الواقعي الصرف الذي سنسميه “السرد التسجيلي للأحداث”، في العنصر الموالي من هذه القراءة.
خامساً- طبقية السرد، وعودة الخطاب التسجيلي
تميزت الرواية عبر أبوابها وفصولها، بأسلوب التلاعب بمنطق السرد، منذ بدايتها، وكان من نتائج هذه الألاعيب السردية، فض أي عقد أو حسابات أو توقعات ممكنة من جهة القارئ، حول ما سيقع في قادم الفصول، وقد لعب المؤلف هنا على مستويات ثلاثة من التخييل:
– المستوى الأول: المتخيل داخل المتخيل (سيرة جمال حميدي داخل أحلامه).
– والمستوى الثاني: المتخيل داخل الواقع السردي،
– والمستوى الثالث: هو الكتابة التسجيلية التي تأتي كطبقة تحتية، أو لنقل أرضية، لجميع الطبقات السابقة.
ومن أبرز نماذج هذا الخطاب التسجيلي: ما نشاهده مثلاً من نقل وقائع اجتماع وزاري في مقر الحكومة، ومطالبة وزير المجاهدين من فرنسا الاعتذار، ومطالبة وزير الاتصال بضرورة إنشاء قناة تلفزيونية تاريخية، تنفض الغبار على تاريخنا المغيب، (ص: 130-131).
ويصعد الخطاب التسجيلي إلى السطح أكثر بذلك الوصف المتذمر (للكاتب) من الوضعية السياسية والتاريخية التي دفعت الشعب للتظاهر، إذ يقول: “لأسباب تتعلق بحكمة السماء التي هي عادلة حتى في ظلمها، اصطفت المشيئة أناساً بعينهم ليكونوا المؤسسين لبلد يشبه الثكنة، لا يفصل كائناتها إلا خط يسمى العتبة. (الرواية ص145-156)، والعتبة حسب الروائي دوماً هي كل منعرج تاريخي يفصل بين مراحل تاريخية وسياسية، وحتى فكرية بين فكر الساسة وفكر الشعب المسوس. وما بعد العتبة دوما هناك باب لا يمكن لما قبله أن يتشابه أو يتفق مع ما بعده. وهي الحالة التي يستمر فيها هاجس الأبواب الطاهرة والخفية في الرواية السابقة “سلالم ترولار” التي هي الجزء الأول من هذه الرواية.
وتتوالى المقاطع التسجيلية في الرواية فتعود تارة لمظاهرات الإخوان المسلمين (أتباع الجبهة الإسلامية للإنقاذ في فترة التسعينيات) الذين كانوا يملؤون الشوارع والمساجد بهتافاتهم، وشعاراتهم (168-169)، وبين المظاهرات السلمية للـ: 22 فبراير 2019، التي أطاحت بالرئيس، وهي ماضية لتحقيق ما خرج الشعب من أجله، كما يصفها الروائي، حين قدم رأيه الصريح وبأسلوب مباشر ومعلن لا تخييل فيه، وهو يستدعي فيه بشكل مباشر السرد الانعكاسي المعلن لمواقفه، فيقول: “صحيح أنها قد تكون ثورة عرجاء بلا رأس ولا حياة فيها، فتقلب نظاماً فاسداً من أجل أن تولي آخر أكثر فساداً منه، ولكنها تبيد بلا شك من اندلعت ضده، ففي النهاية… لا يقتل الوهم إلا وهم أكبر منه، وإن الشعب المجبول عليه لن يرغب في الاستيقاظ إلا داخل وهم أكبر، ما جعله أرضاً خصبة لأي هوس جماعي يوهمه بأنه صاحب القرار، وهو أخطر وهم يصيب أي شعب لا يملك قرار نفسه” (الرواية ص 202). لكأننا أمام بيان سياسي، يحلل الأوضاع السياسية والاجتماعية والنفسية للشعب في تعامله مع أوضاع بلده. وهو خطاب مفصول طبقياً من حيث النوع عن الخطابات التخييلية السابقة، وهو ما يجعل هذا الخطاب التسجيلي يتمتع بقوة ذاتية مستقلة كماً ونوعاً عن بقية الخطابات في الطبقات التخييلية السابقة، غير أنه يتقاسم معها الفضاء الحوادثي، والمكاني، والزمني. والتمثيلي للشخصيات وكل هذه الفضاءات الجامعة بين طبقات الخطاب، تشكل روابط منطقية، وجسوراً تحكم الخيط الدرامي الذي يتعرج، يتمطط، لكنه لا ينقطع أثناء العبور من طبقة خطابية إلى أخرى.
فهل تمثل هذه الطبقة التسجيلية من الخطاب عودة (فرضت نفسها على الكاتب) إلى الكتابة الاستعجالية التي يتحكم فيها تسارع المستجدات في شارع الأحداث، ومن حول الكاتب، أكثر مما يتحكم فيها الكاتب ليقول ما يفرضه هو لا ما تفرضه عليه الوقائع؟
ومعروف منذ بداية تشكل روايات الأزمة في التسعينيات (أو ما سمي آنذاك بالرواية الاستعجالية)، بأن تفاقم وتسارع الأحداث في الواقع هو الذي فرض نفسه وتحكم في قلم كُتاب تلك الفترة، التي عرفت بالأساليب التسجيلية للوقائع التي تغلب فيها هاجس التسجيل الحي، والأسلوب الانعكاسي المباشر على جماليات التخييل وتنويع السرد، والتحكم في الصنعة الفنية. فكانت آنذاك رواية للوقائع أكثر منها وقائع تخييلية للرواية، ولهذا السبب سميت بالتسجيلية. وأحسب أن ثلث رواية الحماقة كان مدفوعاً بصورة أو بأخرى، من طرف وقائع الميدان المشحون بالأفكار والرؤى المستوحاة من الحراك الشعبي ومستجداته التي لونت جزءًاً كبيراً من المساحات المسرودة في هذا النص، وهو ما جعلنا نَصِفه في بداية هذه القراءة بأنه رواية مناسباتية بامتياز.