في سرديّته الغريبة في مبناها ومعناها “الوقائع الغريبة في اختفاء سعيدٍ أبي النحس المتشائل“، الصادرة طبعتُها الأولى بين عامَي 1972 و1974، يقدِّم الأديب الفلسطينيُّ الكبير إميل حبيبي شخصيةً معلَّقةً بين كلّ نقيضَين، فسعيدٌ بطل الرواية شخصٌ خانعٌ مطأطئ الرأس لدولة الاحتلال الصهيوني، لدرجة أنه عينٌ للنظام على الوسَط العربيّ، لكنّه حين أحبَّ وتزوَّج لم ينجذب إلا لنساءٍ معتزّاتٍ بهويّتهنّ العربية، ثائراتٍ على حالة الخنوع هذه نفسِها، فأحبَّ “يُعاد” ثمّ تزوّج “باقية” ثمّ أحبَّ “يُعاد” الثانية ابنة الأولى، وكلّهنّ تجري في عروقهنّ دماء المقاومة الفلسطينيّة، حتى إنّ ابنَه الذي أفرطَ في مداهنة القائمين على الدولة الإسرائيليّة بتسميتِه “ولاءً” قد ورث دماء المقاومة من أمِّه “باقية”، فصار ولاؤه لأرض أجداده! وعلى محورٍ آخَر، نجِد سعيدًا يحدّثنا عن لقب عائلته الغريب، فيقول إنه منحوتٌ من التفاؤل والتشاؤم معًا، ويسوق حكاية جدّه الأكبر الذي التفت وهو على فرسه خارج أسوار المدينة فشاهد ألسنة اللهب فقال “بَعدي خرابُ بصرى!”، ويستمرّ “التشاؤل” في العائلة حتى نَشهد سعيدًا في معظم المواقف يتلقّى الإهاناتِ فيَشكر للقدَر أنه لم يتلقَّ إهاناتٍ أكبر! إلى أن نصِل إلى المحور الأخير الذي نكتشفُه في الصفحات الأخيرة للرواية، حيث نرى أنّ كاتب الرسائل التي تؤلَّف منها الرواية شخصٌ ليس له وجودٌ حقيقيٌّ، وأنّ أقرب شخصٍ إلى هويّته ربما يكون أحد نزلاء مستشفى الأمراض النفسية الكائنة في مكانٍ كان سجنًا رهيبًا زمن الانتداب البريطاني على فلسطين، واسمُه “سعدي نحّاس أبو الثوم” أو “أبو الشوم”! أي أنّ بطلَنا لا يقتصر تأرجحُه على كَونه معلَّقًا بين الخنوع والمقاومة، وبين التفاؤل والتشاؤم فحسب، بل إنه فوق ذلك معلَّقٌ بين الوجود والعدَم!
السخرية وغاياتُها:
لعلّ الملمح الأبرز في أسلوب كاتبنا هو سخريته اللاذعة التي لا تعرف سقفًا، تلك التي يتّكئ عليها لتحقيق غاياتٍ نجدها تأتي من تلقاء ذاتها في ثنايا سرده، وأهمُّها فضح ادّعاءات الاحتلال الصهيوني. فلا ينسى قارئ الرواية تلك الفقرة من الكتاب الثالث من الرواية “يُعاد الثانية” التي يتشاعَرُ فيها القائد الصهيونيُّ الذي يسميه سعيدٌ “الرجُلَ الكبير” ويسترسل في وصف مُنجَز المستوطنين الصهاينة في بعث الحياة في صحراء فلسطين وتخضيرها، وحين يردُّ عليه سعيدٌ متسائلًا: “ألهذا هدمتُم قُرى اللطرون وعمواس ويالو وبيت نوبا وشرّدتُم أهاليها يا معلمي الكبير؟” لا يجِد القائد – الذي يصحب سعيدًا إلى السِّجن – إلا أن يقول متخلّصًا: “لقد أبقينا على الدير لرُهبانه مَجلبةً للسائحين، وعلى المقابر لذويها إيمانًا بربِّ العالَمين، وورثنا هذا الرَّحبَ بهذه الحرب، والذي فات مات، وهو مثَلٌ أمريكيٌّ من أصلٍ ألماني.” وما كان له أن يرُدَّ حَقًّا إلا هكذا، فليس ثَمّ مبرِّرٌ لأفعال التدمير الاستيطانيّة إلا كراهية كلِّ ما هو ليس إسرائيليًّا، خاصةً إذا كان عربيّا. وهذه الكراهية مبثوثةٌ حتى في التعقيب الأخير الذي وضعه كاتبُنا على لسان القائد الصهيوني، فالمثَل العربيُّ القُحُّ “الذي فاتَ ماتَ” أصبح فجأةً أمريكيًّا من أصلٍ ألمانيٍّ، كأنه يستكثر حتى أن يكون للعرَب مثَلٌ أصيل!
وثَمّ غايةٌ أخرى تتحقق من وراء السخرية هنا، تتمثّل في مُساءلة الموقِف الوجوديِّ لفلسطينيِّي الداخل، فها هو ذا سعيدٌ حين سمع في المذياع خلال حرب الأيام الستّة (حُزيران/ يونيو 1967) النداءَ الذي أهاب بالعرب المهزومين أن يرفعوا الرايات البيضاء على أسطح منازلهم، يقع في حيرةٍ من أمرِه ويتساءل:”أيُّهم يأمره المذيع؟ مهزوم هذه الحرب أم مهزوم رودس؟” ، وهو يعني برودس بالطَّبع من ذاقوا الهزيمة الأولى وقت النَّكبة، في إشارةٍ إلى هدنة رودس 1949 التي توسّطت فيها الأمم المتّحدة بين الكيان الصهيوني من جهةٍ وكلٍّ من مصر والأردن وسوريا ولبنان من جهةٍ أخرى، والتي كرَّسَت خطّ الهدنة الأخضر، وأوكلَت إلى السيادة المصرية والأردنية منع الفلسطينيين من عبور هذا الخطِّ ومن القيام بأية عملياتٍ فدائيّةٍ ضدّ الصهاينة. ثمّ لا يلبث سعيدٌ من باب الاحتياط أن يرفع عَلم الاستسلام على عصا المكنسة فوق سطح بيتِه، كأنّ هزيمتَه كانت في التوِّ واللحظة، قائلًا لنفسه إنّه إن كان مخطئًا فسيحمل جنودُ إسرائيل خطأه على سلامة طويّتِه، ويتبيّن بعد ذلك من صديقه يعقوب أنّ المقصودين بالنِّداء عربُ الضفة الغربية، لا مَن هم مثله من العرب المقيمين في حيفا، وأنّ فِعلَه هذا يَشي بأنه يعتبر حيفا مدينةً محتلّةً ويدعو إلى فصلها عن إسرائيل، ومِن ثَمّ يُقتاد سعيدٌ إلى السِّجن! هكذا يُفصح لنا إميل حبيبي المنتمي ببطاقة هويّته وبعضويّته في الكنيست إلى عرَب 48 عمّا يستشعره من مرارة الهزيمة التي لا تفارقه منذ النَّكبة. إنه مهزومٌ في “وطنِه” الرسميِّ المنتصر، وهو “وطنُه” بحُكم الأوراق الثُّبوتيّة، وهو قد عَلِق فيه بوَصفِه مَعبَرًا بين الحال كما هي عليه، والحال التي يرجوها إميل حبيبي ويرجوها مَن كان مثلَه، دون أن تكون ثَمّ سبيلٌ واضحةٌ إلى تحقيقِها. ولا تفوتنا في هذا الصدَد نفسِه حكايةُ الحمار الذي تلقّى الرصاص عن سعيدٍ حين وقف بينه وبين مَن أطلقوا النار على أبيه من الصهاينة، ما يدفع كاتبَنا إلى عَنونة الفصل الثاني من الكتاب الأول “سعيدٌ يُعلن أنّ حياتَه في إسرائيل كانت فَضلةَ حِمار!” هكذا يبدو أنّ وجودَ سعيدٍ العربيِّ في دولة الاحتلال هو مَحضُ صُدفةٍ، أو اتّفاقٌ قَدَريٌّ لا يخلو من عبثيّةٍ، فقد كان يمكن أن يكون في عَداد الأموات، وما بقاؤه على قَيد الحياة مواطنًا إسرائيليًّا إلّا تأرجُحٌ بين الموت والحياة، وبين الوجود والعدَم.
بين توظيف التُّراث العربيِّ وانتهاكِه:
يصطدم قارئ الرواية بتناصّاتِ الكاتب مع التراث العربيّ، وهي من الكثرة بحيث إنّ الإتيان عليها يستحقُّ ويستغرق دراسةً مفصَّلة. لكنّي أرى أنّ إيراد قليلٍ منها هنا يَخدم قراءتنا العَجلى لهذه الرواية المهمة.
في فصل “سعيدٌ ينتسب” من الكتاب الأوّل، يقول: “وبعد النحس الأول في سنة 1948 تبعثرَ أولاد عائلتنا أيديَ عرَبٍ، واستوطنوا جميع بلاد العرب التي لَمّا يَجرِ احتلالُها.” هكذا يلوي كاتبُنا التعبيرَ العربيَّ “تفرَّقوا أيديَ سبأٍ” – المُحيلَ أصلًا إلى انتشار السبئيين بعد انهيار سدِّ مأربٍ باليمن – ليلفتنا إلى مرارة النكبة الفلسطينية العربية، فكأنّ الشَّتات الحديث انبعاثٌ لكارثة سبأٍ القديمة. وفي الفصل ذاته يقول إنّ عائلتَه تنتسب إلى جاريةٍ قبرصيّةٍ فرّت مع أعرابيٍّ اسمُه أبجَر، هو من قال فيه الشاعر (ويعني الأمويَّ الأحوصَ الأنصاري): “يا أبجرُ ابنُ أبجرٍ يا أنتَ/ أنتَ الذي طلَّقتَ عامَ جُعتَ”، ثمّ خانت الجاريةُ أبجرَ مع مَن يسميه سعيدٌ “الرغيفَ بن أبي عَمرة” فطلَّقها أبجَر. والشاهد أنّ كاتبَنا قرَّر أن ينتقم من العُروبة الخائنة وخذلانها باتّخاذ هذا الجَدِّ المَهجُوِّ “أبجَر بن أبجَر”، فهو جَدٌّ هَزليٌّ ذو كَرِشٍ ضخمٍ، بدأ خائنًا بفراره مع جارية تيمورلنك، وحين خانَته زوجُه لِما نزلَ به من قحطٍ عربيٍّ طلَّقها، ولا ننسى أنّ “أبا عَمرة” كُنية الجُوع، فالوَقعةُ كلُّها تهكُّمٌ شرسٌ مُرٌّ بالعروبة، دوافِعهُ القحط والخيانة والخذلان معا.
وثَمّ موضعٌ لا يُنسى في هذا السياق، في الفصل السابع من الكتاب الثالث، إذ يعوذ سعيدٌ ويُعاد الثانية (الابنة) بقريةٍ لا يُظهرُنا سعيدٌ على اسمها الحقيقي، ولكنه يستعير لها اسمَ (السُّلَكَة) أمِّ الشاعر الصعلوك الجاهلي (السُّلَيك بن السُّلَكة)، ويُورد من شِعرها في رثاء ابنها بيتَين: “طافَ يَبغي نَجوةً/ مِن هَلاكٍ فهَلَكْ/ فالمَنايا رَصَدٌ/ للفتى حيثُ سَلَكْ.” لكن بينما يطوف الجاهليُّ العَدّاء الفاتكُ في البلاد هاربًا من الهلاك حتى يَلقى مصرعَه، نجِد أنّ الحكاية التي يتمحور حولها هذا الفصل والذي يَليه حكايةُ رجُلٍ ضريرٍ من هذه القرية، نزح مع النازحين بعد النَّكبة إلى بلاد العرَب الواسعة، ثمّ تسلَّل بعد قِيام دولة الاحتلال عائدًا إلى قريتِه، وكان هذا غير مرحَّبٍ به مِن السُّلطات الإسرائيلية، فإمّا أن يَبقى العربُ المهزومون في أماكنِهم ويعترفوا بالدولة الجديدة، وإمّا أن يُغادروها إلى الأبد، لكنّ أهلَ القرية حفظوا سِرَّه وزوّجوه، وتعلَّم صناعة الحَصير وكَثُر أولادُه وأحفادُه، ولم يَمُت إلا ليلةَ نزلَ سعيدٌ و(يُعاد) الثانيةُ هذه القريةَ ضيفَين. والشاهد من الحكاية أنّ السُّلَيك الحديث (الفلسطيني) هو نقيض السُّلَيك القديم تمامًا، فهو لم يَطُف في الأرض يَبغي نجوةً من الهلاك، وإنّما التصقَ بقريته ولم يُطِق الاغترابَ عنها، وهو ليس فاتكًا ولا عَدّاءً، بل هو ضريرٌ مُسالِمٌ لا يبغي إلا أن يعيش، لكنّ الجاهليَّ والحديثَ يشتركان في مِقدارٍ من التصعلُك، هو مقدارُ الغُربة، فالجاهليُّ غريبٌ كصعاليك الجاهلية كُلِّهم، والحديثُ غريبٌ لأنّ جيبَه لا يحملُ هُوِيّةً رسميةً، وإن كان قلبُه عامرًا بهُويّته التي أنشأه الله فيها، عربيًّا فلسطينيّا. هكذا أراد لنا كاتبُنا أن نرى عُمق المأساة، مشتبكًا مع وجهٍ آخَر – أراه مَلحَميًّا خلّابًا على قِصَره – من أوجُه الصُّمود الفلسطينيّ.
المتشائل يُدين ذاتَه:
لا يكُفُّ (حبيبي) عن الإيحاء إلينا بإدانة بطلِه الخانع، لكنّ ذروة هذه الإدانة تأتي في الصفحات الأخيرة، لاسيّما في حديثِه مع (يُعاد) الثانية، إذ يسألُها حين تستنكر زغردة نساء الجيران في بيت سعيدٍ القديم: “حتى فرحةُ الزيارة تبخلين بها على هؤلاء السُّجناء؟” فتسألُه مستنكرةً “كيف تأتي الفرحةُ بنِعمة الغازي؟” فيجيبُها “كما يَنضج الطَّعامُ بنِعمة النار.” هنا يتّضح لنا أنّ الرجُل قد تماهى تمامًا مع دَور المُواطن ذي الدرجة الثانية، الخانع المُستكين لسُلطة العدُوّ، فيما تتعملَق أمامه (يُعاد)، فتتحدث عن الصهاينة قائلةً فيما بعد: “إذا لم يتغيروا فهي مأساتُهم، أمّا نحن فتغيَّرنا.” وتسترسلُ في تعملُقِها فتستنكر اقتراحَ سعيدٍ عليها أن يختبآ، فهي مُصِرَّةٌ أن تستعيد وطنها السَّليبَ، متماهيةً مع اسمِها المحمَّل بهذه الطاقة الثورية (يُعاد).
ثمّ يكرِّس كاتبُنا هذه الإدانة على نحوٍ نهائيٍّ في الجُملة الأخيرة التي يُنطق بها “يُعاد” حين تَرفع رأسَها – أو بالأحرى حين يراها سعيدٌ ترفع رأسَها وهو يطير مع شيخ الفضائيِّين محلِّقًا في وهمِه الكبير – إذ تقولُ: “حين تَمضي هذه الغيمةُ تُشرق الشمس!” هكذا يرى سعيدٌ نفسَه بعَينَي (يُعاد) محضَ غيمةٍ من وهمٍ كبيرٍ، تَحجُب نُور الشمس، فكأنّ خنوعَه وصمتَه المُطبِق هما ما يفصل النصرَ عن المقاومة.
لقد كان واضحًا من هذا الفصل الختاميّ ذي الحِوار المغزول بأناةٍ أنّ كاتبَنا يعوِّل كثيرًا على أجيالٍ عربيةٍ قادمةٍ، ستنفضُ عنها الصمتَ والخُنوع وتثورُ حقَّ الثورة في وجه المحتلّ البغيض. ولعلّنا إذا تأمَّلنا الواقع العربيَّ الحاليَّ يقع في نفوسِنا أنّ عربَ الأقطار العربية يشاركون عربَ الداخل (مواطني دولة الاحتلال) المأساةَ نفسَها، فالكِيانُ السرَطانيُّ قد زُرِع في قلب أرضِهم وتغيَّرَت بوجودِه مُعطَياتُ عالَمِهم بالكامل. ولا يبدو أنّنا تزحزحنا كثيرًا عن النُّقطة التي ختمَ بها كاتبُنا روايتَه، فأفضلُ ما نقولُه الآنَ أن تكون أصواتُنا رَجع صدى ما قالَته (يُعاد): “حين تمضي هذه الغَيمةُ تشرقُ الشمس!”.