كان يقصد المكتبة العامة قبل الذهاب إلى عمله للاستزادة من المعرفة والثقافة
سلك الشاعر الراحل علي السبتي مسالك المجددين في القصيدة العربية، وهو حامل لواء التجديد والتحديث في شكل القصيدة وموضوعاتها ولغتها بالساحة الشعرية الكويتية والخليجية.
نعى لي، صباح الاثنين الماضي 5 يوليو 2021، فراس النجل الأكبر للشاعر علي السبتي، وفاة والده، الذي انسحب من الحياة الأدبية والعملية منذ سنوات، بعدما أقعده المرض، وأمضّه الداء، ولم يرد أن يلقانا على كرسي متحرك، أو نراه على حال غير التي كنا نراه عليها، وهو ممسك بسيجارته مبتسماً مرحباً ومهللا بمن يدخل عليه في الرابطة.
كان أقرب الأدباء والشعراء للشعراء الشباب الجدد، إذ كان يحرص على حضور أنشطتهم وجلساتهم، مستمعاً لهم، من دون أن يمارس الأستاذية عليهم، إلا إذا طلب منه رأي، أو سئل في مسألة. وكان بهذه العلاقة الأديب الشاعر العابر للأجيال، لم يتوقف عند زمنه الذي مضى، بل راح يجدد ويتجدد مع الأجيال اللاحقة، ينصت لتجاربهم ويفيد منها بقدر ما يجعله قريباً من مشربهم وشريعتهم الأدبية.
لواء التجديد
وأحسب ذلك يتفق ونشأة السبتي الأدبية والشعرية، حيث جاء الحياة الأدبية وهو حامل لواء التجديد والتحديث في شكل القصيدة وموضوعاتها ولغتها، سالكا مسلك المجددين في القصيدة العربية الذي بدأ على يد نازك الملائكة وبدر شاكر السياب في العراق، وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي في مصر، ويوسف الخال وأدونيس في لبنان.
التغيير الاجتماعي
ويصف د. عبدالله العتيبي شاعرية السبتي قائلاً: “لقد عاش شاعرنا تجربة التغيير الاجتماعي في الكويت، عن وعي وإدراك أفرزته المعايشة اليومية، فهو من جيل مخضرمي الكويت.
عاش حياة الكويت القديمة بكل ثبات الواقع الاجتماعي وتقليديته المتمثلة في استقرار قيم مناخه الثقافي، وعاش مرحلة التطور الاجتماعي وشهد بكلِّ وعي وإدراك سرعة هذا التطور، ومدى انعكاسها على حركة المجتمع الطبقية وتعقدها، وإدراك شاعرنا حقيقة الصراع التقليدي المشروع بين جيل المحافظين، ممن استقرت ذهنيتهم على قناعات الماضي في الحياة والثقافة والفن، وبين جيل الشباب المنسجم بطبعه مع حركة التجديد”.
لذا جاءت قصيدة “رباب” في العام 1955م لتسجل للسبتي الريادة والأسبقية، باعتباره أول شاعر كويتي يكتب قصيدة على نمط الشعر الحرّ (شعر التفعيلة)، معلناً بها خروجه على التقاليد الشعرية القديمة، ومرسخاً بها شكلاً شعرياً جديداً أخذ يشق طريقه في حركة الشعر الحديث في الكويت. إن شاعرنا علي السبتي ذو تجربة واسعة في الحياة وفي الأدب وفي الشعر:
أريد أن أقص قصتي يا أيها الإخوانْ
فصفحكم إذا تعثر اللسانْ
فلست كاتباً يزوق البيانْ
ما أنا إلا شاعرٌ وشاعرٌ إنسان
تَحَدَّر السبتي من أسرة بحرية لم تعرف غير البحر مصدراً للرزق، ولد في ديسمبر من عام 1934م في حي القبلة من مدينة الكويت. في سنة الهَدّامة، كما تُعرف في الكويت، وقد سبقه أخ في الميلاد اسمه “بدر”، توفي وعمره سنتان بعد أن أصيب بمرض الجدري الذي أصاب الكويت حينها. وسمي (علي) على اسم جده لأبيه، الذي توفي قبل ميلاده بقليل.
كان جده علي “نوخذة سفر”، وكان ذا شهرة بين ربابنة السفن في الكويت، عارفاً بالبحر ومساراته، ضليعاً في معرفة الموانئ البحرية في شبه القارة الهندية، يعرف القرى الساحلية الداخلية منها والخارجية، التي تقع على طول الساحل من مدينة “كراتشي” الهندية -آنذاك- إلى مدينة “مسقط ” العمانية، كما يعرف المواقع وأوقات غياب الشمس بالفطرة والممارسة: لا فرق بين حفيد بحار وذات “دمٍ أصيل”
والمجد للإنسان… لابن الكادحين
لحفيد بحارٍ يجوب البحر في الليل الطويل
لا يسرق المال الحرام من الجياع البائسين
مهنة الغوص
أما والده حسين فقد كان غواصاً من الطراز الأول، يعمل في الغوص صيفاً، وفي السفر شتاءً، يمضي معظم وقته طوال العام بين أمواج البحر وأهواله، وبعد كساد مهنتي الغوص على اللؤلؤ والسفر واستقرار الناس في المدينة إثر تدفق النفط في الكويت وبناء الميناء النفطي ترك والده مهنة الغوص وراح يعمل في ميناء الشعيبة غواصاً بالمعدات البحرية الحديثة، وبسبب ما كان يعاني من ألم مزمن في أذنه أصابه إثر حادث قديم تعرض له في أثناء تحميل الأخشاب على السفينة في “النيبار”، ترك والده العمل في البحر وتوجه للعمل -لفترة قصيرة- في شركة النفط الكويتية (K.O.C)، ثم عمل حارساً في ميناء الشويخ، فما لبث أن حصل على دفتر دلّال (إجازة دلّال)، فترك حراسة الميناء، وصار يعمل في مهنة الدلالة حتى توفي رحمه الله:
كأنه السندباد من سفرٍ قد عاد
يحمل دانات لشهرزاد
تلك التي من أجلها يموت
لتعمر البيوت
رأيتُ في جبينه الأسمر
آثار حوت يحمل العنبر
يفتق العبير لينتشي بعطره سرير
غير الذي تنام فوقه أمي
فتأكل السكين من لحمي
تمص من عظمي
أبي الذي رأيتُ وجهه في الماء
مازال بينكم، لكنما تختلف الأسماء
أما والدة السبتي فهي شريفة الصالح السبتي، ابنة عم والده، وبين شاعرنا السبتي وبينها علاقة فريدة، إذ لا تذكر اسمه في حضوره أو غيابه إلا مردفة اسمه بقولها “علي الله يسلمه”، وأحبها حباً جماً:
أمي التي أعصابها بدمي
إذ أنجبتني أنجبت قدري
أنا قد رضعت حليب كادحة
وحملت اسم مشرد غجري
دراسته
درس السبتي على يد أحد الملالي القرآن الكريم، فقرأه سورة سورة حتى ختمه قراءة، وأقيمت له حفلة تسمى في الكويت قديماً “زفة”، تفيد بأن المحتفى به قد ختم القرآن، ثم التحق بعد ذلك بالمدرسة “الأحمدية” في العام الدراسي 1943 – 1944 م، وكانت تسمى هذه المرحلة الدراسية قديماً بمرحلة التمهيدي، وهي توازي المرحلة الابتدائية اليوم. وكان ناظر المدرسة الأحمدية وقتئذ الأستاذ الشاعر راشد السيف (1900-1972). وبعد أن مكث في المدرسة الأحمدية أربع سنوات حصل خلالها على شهادة التمهيدي، التي تعادل شهادة الابتدائية اليوم، انتقل إلى المدرسة المباركية فلم يمكث بها سوى شهرين، ليترك بعدها الدراسة في عام 1950م متوجهاً نحو العمل، وكان ذلك نتيجة لحاجته المادية الملحة للعمل، وتوفير المال لأسرته، ومساعدة والده على أعباء الحياة اليومية. ثم عاد في الخمسينيات وانتسب إلى “معهد الجوهري” في القاهرة، ودرس عن طريقه المحاسبة بالمراسلة، وأمضى قرابة العام، ثم ترك الدراسة مرة أخرى إلى غير رجعة، حيث وجد له في الحياة مدرسة أكبر وأشمل أفاد منها:
ربيت نفسي على الأخلاق من صغر
فكيف أخشى على نفسي من الكبر
وعن تلك المرحلة يقول السبتي: “أما عن مراحل حياتي العمرية، فإنني فجأة وجدت نفسي قد حملت مسؤوليات كبيرة، وكُلفتُ بمهام جسيمة، تفوق طاقتي، وتكبر سني، فقد كنت أعمل بمقدار أربعة أشخاص، إنني أشعر أنني كبرت فجأة ولم أشعر بمراحل الحياة العمرية من طفولة ومراهقة ورجولة، فقد انتقلت من فترة الطفولة إلى الشباب بسرعة لا أكاد أميز فيها بين مراحل حياتي العمرية”:
أنا ما شكوت لغيرِ ذي ثقةٍ
حمَّلْتُهُ ما ضـجَّ في صدري
عمري الذي قد ضاع بين هوىً
لا يُستـطابُ وآخـرٍ عُذري
ومضـت سنيني كلُّها تعبٌ
ما طاب لي يومٌ مدى عمري
حمّلـتُ نفسي فوق طاقتها
وحَمَلتُ همَّ الناسِ من صغري
لم يكن السبتي شقياً في طفولته كغيره من أترابه، كان هادئ الطباع، معتدل السلوك، حريصاً على القراءة والمطالعة، يقرأ كل ورقة أو مجلة يعثر عليها أو تقع تحت يديه، وكان يحاول أن يفهم ما يقرأ، وظلت تلك سنته في القراءة وفي فهم الحياة من حوله حتى شب عن الطوق.
ما كان اللعب في طفولته همه وشاغله، إنما كانت القراءة هي التي تحتل المكان الأكبر من دائرة اهتماماته ورغباته، وكأنما كان واعيا لأهمية القراءة في الطفولة، ومدى ما يمكن أن يختزله عقل الطفل من معلومات ومعرفة في هذه السن، وعلى الرغم من صعوبة القراءة في الليل في الكويت قديماً، إلا أنه كان ينتظر الليالي المقمرات ليصعد إلى سطح بيتهم ليواصل القراءة في ضوء القمر.
المكتبة العامة
كان السبتي يقصد المكتبة العامة قبل الذهاب إلى عمله بساعة أو ساعتين، ليتمكن من النقل، كما كان يقصدها أيام الجمعة أيضا، وقد ساعده أمين المكتبة في حينها الأستاذ “ملا محمد التركيت” مساعدة كبيرة، فكان يعيره الكتاب ليوم أو يومين، فينكبّ السبتي على نقل ما يريد من الكتاب ويدع ما لا يشغله جانباً، وربما احتفظ بالكثير من تلك الكراسات والكشاكيل التي كان ينقل فيها ما ينقل من تلك الكتب.
لم يحصر السبتي نفسه في دائرة معينة من القراءة، ولم يقيد نفسه بفرع من فروع العلم دون غيره، فقد كان يقرأ في التاريخ والفلسفة وعلم النفس والحقوق والقانون وفي الأساطير وفى علوم القرآن.
والسبتي شديد الحرص على فهم ما يقرأ، يحترم عقله وذوقه، فلا يتعالى عليهما، ويخفض لهما جناح الذل من الرحمة، لأنه لم يكن يقبل من الأدب والفن إلا ما يفهمه ويهضمه عقلاً وذوقاً:
أنا الإنسان من نور ومن نار
تضيء غياهب الطرقات أفكاري
وظيفته
لم يهجر السبتي الدراسة قالياً أو لاهياً، إنما هجرها لظروفه الاجتماعية الصعبة التي تماثل ظروف أغلبية أفراد المجتمع الكويتي آنذاك، ممن لم يحظ بنصيب وافر من التعليم النظامي، ثم عكف منهم من أراد أن يتعلم في محراب العلم قارئاً ودارساً في مدرسة الحياة.
الثقة بالنفس
عمل السبتي ببداية حياته العملية -وفي سن مبكرة- في مكتب دلّال محاسباً، وقد اكتسب في هذه المهنة الثقة بالنفس، كما حظي بتقدير الناس، إذ بات يعرف كيف يعاملهم بما يحبون أن يُعاملوا به، لطيفاً في تعامله مع الناس لا يحرجهم ولا يؤذيهم، مسالماً بطبعه.
وتعرف السبتي في تلك الفترة على مجتمع التجار في الكويت، وقد تركت هذه المرحلة وما تلاها أثرها الواضح في تجربة السبتي الشعرية:
أنا لا أحب المظاهر
وأكره في الحب أخلاق تاجر
ترك السبتي مكتب الدلالة في عام 1952، بعد أن أمضى قرابة العامين فيه، ليلتحق بالعمل عند السيد دخيل الجسار صاحب مكتب تجارة عامة ومقاولات. وتدرج في العمل في هذا المكتب حتى بلغ منصب مدير عام، وفي 1974 ترك السبتي مكتب دخيل الجسار وفتح وصديق له دكاناً للدلالة في سوق الأسهم (سوق المناخ)، وقد احتلت هذه الفترة مساحة كبيرة في تجربته الشعرية تضمنها ديوانه الثاني “أشعار في الهواء الطلق”:
وكم في السوق من شرف مباع
وكم في السوق من فكر مضاع
هو الدينار يحكم كل شيء
كأن القوم في غاب السباع
تأمل في الرجال ترى كبيراً
إذا مارزته بعض المتاع
يتاجر في السهام وفي أمور
إذا ذكرت خجلت من استماعي
السبتي وتجربته الصحافية
لم يكن السبتي منبتّ الصلة بالصحافة المحلية والصحافة العربية، فهو ابن جيل النضج الصحافي الذي جاء بعد جيل الرواد، والذي أخذ يرسخ وجوده ويعتمد على الصحافة في إبداء رأيه أو نقد مجتمعه، أو الإسهام في التخطيط لمستقبل أفضل. وكما كان لعمل السبتي في سوق التجار أثر كبير في حياته وتجربته الشعرية، كان أيضاً للصحافة تأثيرها المباشر والواضح في هذه التجربة؛ ففي عام 1967م عرض عليه الأستاذ عبدالله بشارة صاحب امتياز مجلة اليقظة، التي تصدر أسبوعياً في الكويت، أن يتولى رئاسة تحريرها، فقبل السبتي عرض بشارة، وصار يذهب للمجلة يومياً بعد أن يفرغ من عمله في شركة دخيل الجسار.
قصيدة نفثة بخط يد السبتي
وعي قومي
وكان السبتي يدير المجلة بحسٍّ وطني ووعي قومي، ينظر إلى مصلحة البلاد والعباد قبل أن ينظر إلى الكسب المادي، ويتطلع إلى مصلحة الأمة العربية قبل أن يسعى إلى المصلحة الفردية، وقد حدد السبتي أهداف المجلة وسياستها في أنها مجلة تقدم خبراً صادقاً وفكراً نيراً، لا تنافق ولا تداهن، ولا تبيع نفسها للغير، وكان من المتوقع أن تخسر المجلة لالتزامها بهذه المبادئ وتلك الأعراف، التي لا تنسجم مع مصالح الغير، فلم تحصل المجلة على أيّ دعم مالي سوى ما كانت تخصصه وزارة الإعلام للمجلات والصحف المحلية.
وفي 1982م تعرض سوق الأسهم الكويتية لأزمة مالية سميت في حينها “أزمة المناخ”، فلم يعد سوق الأسهم قادراً على سد احتياجات العاملين به، عندئذ يمّم السبتي وجهه إلى شارع الصحافة، حيث عرض عليه صديقه رئيس تحرير صحيفة “السياسة” الأستاذ أحمد الجارالله أن يتولى إدارة مطبعة السياسة، أو أن يكون المدير المالي للصحيفة، أو يتولى رئاسة وحدة النظم والمعلومات في الصحيفة، فآثر السبتي الكتابة الصحافية على تلك المناصب الإدارية، وبدأ يكتب زاويته شبه اليومية والتي عرف بها وعنوانها “من الديوانية”.
ثم ترك صحيفة السياسة مرغماً، وراح يكتب في “صحيفة الوطن” زاويته التي حملت العنوان نفسه، ثم عرضت عليه “صحيفة الأنباء” الانضمام إلى أسرة كتابها فوافق، ونقل زاويته إلى صحيفة الأنباء، حتى شاء الله أن يتوقف عن الكتابة الصحافية، ويكثف من كتابته الشعرية:
ما عاد شيء يستحقُّ الالتفاتْ
واضربْ بخطوك في المجاهل، في الدروبِ الموحشاتْ
أو في البحار الساجراتْ
وفي الرياح السافياتْ
احمل جراحك لن يفكر فيك غيرك
في زمان الإمَّعاتْ
قاوم ليالي القهر
وانشد حلو شِعرَك في البساتينِ المواتْ
فغداً يجيء يعيدُ للأرض الحياة