مقدمة المترجمة
بعد الحرب العالمية الثانية، فقد العديد من المثقفين والفنانين في أوروبا إيمانهم بالحداثة التي ارتبطت لديهم بالهوية واليقين والسلطة، لتظهر موجة بعدها سميت بما بعد الحداثة للتعبير عن مرحلة جديدة في تاريخ الحضارة الغربية، من سماتها الشعور بالإحباط من الحداثة ومحاولة نقد هذه المرحلة والبحث عن خيارات جديدة، وكان لهذه المرحلة أثر في العديد من المجالات السياسية والاقتصادية والفنية. يتناول التقرير التالي محاولات مبسطة لتتبع مفهوم الحداثة الغربية وكيف صورت في شتى المجالات.
نص التقرير
سألت في إحدى المرات مجموعة من طلابي عن معنى مفهوم ما بعد الحداثة، فأجاب أحدهم: هو عندما تضع كل شيء بين علامتي تنصيص. ولم تكن تلك الإجابة سيئة، لأن مفاهيم مثل “الواقع” و”الحقيقة” و”الإنسانية” يخضعها المفكرون دائما للتدقيق، وكذلك تفعل “نصوص” ما بعد الحداثة بهذه المفاهيم.
غالبا ما ينظر إلى ما بعد الحداثة على أنها ثقافة من الاقتباسات. خذ عندك مثلا “ذي سيمبسونز” (1989) البرنامج التلفزيوني متقن الصنع الذي يقتبس العصر الكلاسيكي لحكايات السيتكوم (برامج هزلية عائلية).
في هذا المسلسل، تسخر الشخصيات بحظها العاثر من كافة أشكال السلطة المؤسسية عبر الاقتباس اللامتناهي من النصوص الفنية والإعلامية الأخرى. وهو ما يُعرف بـ”التناص”، لكنه يكتسب هنا وعيا متقدما ونظرة ساخرة تطالع العالم بعين ما بعد الحداثة.
العلاقة بالحداثة
تنبع صعوبة تحديد ما بعد الحداثة كمفهوم من استخدامه على نطاق واسع في مجموعة من الحركات الثقافية منذ السبعينيات. حيث لا تصف ما بعد الحداثة فترة بعينها فحسب، بل مجموعة من الأفكار كذلك، ولا يمكن لنا فهمها إلا بالرجوع لمصطلح آخر له نفس القدر من التعقيد وهو الحداثة.
كانت الحداثة فنا وحركة ثقافية متنوعة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وكان موضوعها المشترك هو كسر التقاليد. ويُفهم معنى ما بعد الحداثة على أنه التشكيك في الأفكار والقيم المرتبطة بأشكال الحداثة التي تؤمن بالتقدم والابتكار، حيث تصر الحداثة على وجود فجوة واضحة بين الفن والثقافة الشعبية، بينما لا تخصص ما بعد الحداثة نمطا واحدا من الفن أو الثقافة، بل إنها ترتبط بالتعددية والتخلي عن الأفكار التقليدية للأصالة.
الهندسة المعمارية ما بعد الحداثية
يمكن رؤية التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة بشكل كبير في عالم الهندسة المعمارية، حيث اكتسب المصطلح لأول مرة قبولا واسعا في السبعينيات، إذ وصف الناقد المعماري تشارلز جينكس، أحد أوائل مستخدمي المصطلح، أن نهاية الحداثة يمكن أن تعود إلى حدث في سانت لويس في الولايات المتحدة في الخامس عشر من يوليو/تموز 1972 في تمام الساعة 3:32 مساء؛ ففي تلك اللحظة، هدم مشروع الإسكان العام “برويت- إيغو”، الذي بني في عام 1951 واحتفل به في البداية، وأصبح دليلا على الفشل المفترض للمشروع الحداثي كله.
وقال جينكس إنه في حين اهتم المهندسون المعماريون الحداثيون بالمعاني المتعارف عليها والحقائق العالمية، والتكنولوجيا والبنية، فضل متّبعو ما بعد الحداثة الفهم المزدوج (السخرية)، والاهتمام بالسياق وأسطح الأبنية، فأصبحت مدينة لاس فيغاس بأميركا التعبير النهائي عن الهندسة المعمارية لما بعد الحداثة.
مشاهير المنظرين
غالبا ما استخدم منظرو ما بعد الحداثة مصطلحا يشير إلى حقبة ثقافية جديدة في الغرب؛ فبالنسبة للفيلسوف جان فرانسوا ليوتار، عُرفت حالة ما بعد الحداثة بأنها فقدان الإيمان بالعلوم والمشاريع التحررية الأخرى التي برزت في إطار الحداثة، مثل الماركسية.
أما بالنسبة للمنظِّر الماركسي الأدبي فريدريك جيمسون فما بعد الحداثة كانت “المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة” (وكان يعني الرأسمالية الاستهلاكية ما بعد الثورة الصناعية). وفي مقالته عام 1982 بعنوان “ما بعد الحداثة والمجتمع المستهلك”، وضع جيمسون المحاور الرئيسية لثقافة ما بعد الحداثة، وشملت تلك المحاور:
– الاستعاضة عن الأدبيات العلمية بالمحاكاة الساخرة اللاذعة.
– الميل للنوستالجيا (الحنين للماضي).
– التركيز على اللحظة الآنية وتقديسها على ما سواها.
الهوية الثقافية لما بعد الحداثة
يمكن لما بعد الحداثة كذلك أن تكون مشروعا هاما يكشف النقاب عن المفاهيم الثقافية التي نصنفها على أنها الحقيقة الوحيدة، ويفتح الباب لمجموعة متنوعة من الحقائق التاريخية المقموعة. تقول الفنانة التصويرية الأميركية باربرا كروجر إنها “معنية في أعمالها بمن يتحدث ومن يصمت، وبما يُرى وما لا يُرى” مجسدة بذلك أفكار ما بعد الحداثة.
وإن تراجعت لغة ما بعد الحداثة في التسعينيات لصالح ما بعد الاستعمار، فإن أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 سجلت نهايتها. وفي حين لا تزال دروس ما بعد الحداثة تطاردنا في الجامعات والكتب، فإنه تم استبدال ما بعد الحداثة في عصرنا الحالي بمزيج من مصطلحات أخرى مثل العولمة، والجماليات والمعاصَرة.
الجزيرة نت