عندما تأتي سيرة النقد، يتبادر التساؤل فورا.. هل توجد نظرية نقدية عند العرب؟ أم فقط استعارات تبلغ أحيانا حد السطو على منجز النقد الغربي، من ناحية أخرى أصبحت معظم الكتابات التي يصفها أصحابها بأنها نقدية لا تنتج بالتبعية رأيا جديدا، بل ترديدا لما يتم طرحه في النقدية الغربية، أو حتى ما تجاوزه الزمن، ويأتي الناقد هذا أو ذاك متباهيا بأنه اكتشف العجب! ورغم ذلك هناك زيادة ملحوظة في عدد النقاد، ما أدى إلى الكثير من النقد المضاد من قبل الأدباء وحتى المثقفين والقراء.. ولهذا تم طرح تساؤلات على عدد من النقاد العرب مفادها: هل تعد هذه الظاهرة صحية في أن النقد أصبح موضوعا ثقافيا من جهةٍ وتوعويا من جهةٍ أخرى، وأن المشتغلين عليه زاد عددهم ليكونوا معادلا موضوعيا على أهمية الأدب بشكلٍ عام والنقد بشكلٍ خاص؟ أم هو ضياع للهوية النقدية، وعدم بلوغ الوعي وإنتاج نظرية نقدية عربية؟
الاستسهال المعرفي
الناقد والأكاديمي العراقي سلمان كاصد يعتقد أن العلاقة بين النقد والنص المنقود تبدو إشكالية برمتها وهي مطروحة من قبل على طاولة الحوار ولم يصل المتحدثون بها أو دارسوها إلى نتيجةٍ محسومة على المستوى النظري والتطبيقي. ويرى أيضا أن الأمر برمته لا يتعلق بزيادة عدد النقاد أو بقلتهم، إنما يتعلق بكيفية التعامل بين النص النقدي والنص المنتج بوصفه عملا أدبيا. ويفترض كاصد أن النص الأدبي مكون ثقافي فكيف نحدد طبيعة النص النقدي؟ وهل هو مكتف بذاته مثلما هو النص الأدبي أم هو عنصر افتقاري لا يكتمل بذاته كونه جزءا من منظومةٍ وجدت قبله وباعتبارها حاضنة له؟ ويدعو الناقد العراقي إلى فتح الباب واسعا كي يدخل مملكة النقد من يريد أن يمارس العملية النقدية، لكن في النهاية نتساءل ما فائدة كل ذلك؟ ويجيب.. إذا كانت عملية المناغمة بين النص الأدبي المنتج والنص النقدي غير متساوية، أو لنقل أن النقد لم يرتق لمستوى النص الأدبي، فإننا حينذاك نقع في إشكالية أخرى تتلخص في سؤالنا ما فائدة النص النقدي، حين لا يرتقي إلى مستوى النص المنقود إذ ما فائدة هذه الجموع الغفيرة التي تمارس النقد الانطباعي بإسفاف وبإنشائية مقيتة. واستل قولا لمطاع صفدي حين قال إن العرب لم يمتلكوا نظرية نقدية مجترحة كليا ونلحظ ذلك من تأثيرات كتاب «فن الشعر» لأرسطو الذي قلب موازين الثقافة العربية الكلاسيكية، وهذا ما جعل صفدي يقول، لدينا مجلات نقدية، وليس لدينا مدارس نقدية، لأننا نحجم الفلسفة ولا نريد أن نبقي على أي مدرسةٍ فلسفية، ما عدا المدرسة الفلسفية العقائدية التي تدعو إلى اللاهوت. وتعتقد أيضا أن زيادة عدد النقاد سيكرس هذا النوع من التراجع في هذا الحقل عربيا، لأنه دليل على الاستسهال المعرفي، وكأننا نقول إن النقد أصبح سوقا رائجة للانطباعات الساذجة والتبسيط المخجل والتأويل المستسهل، ولهذا تراجع النقد وتراجعت الرؤية لتأسيس نظرية نقدية ما دامت الفلسفة قد أسقطت في عالمنا العربي من المناهج الدراسية أولا ومن الفكر العربي التداولي ثانية.
فائدة الزخم النقدي
ويرى الناقد والروائي التونسي فتحي بن معمر، أن من المهم أن لا يغيب النقد، وأن لا يصير باهتا تتكرر فيه الطرائق والمناهج، ولا يعتمد على قوالب جاهزة أسسها السابقون، أو صاغها الغيرُ لوضعٍ أدبي وسياق غير سياقاتنا. ويُشير إلى إصدار الكتب النقدية التي ألفت قصدا ودفعة واحدة في أحد الموضوعات النقدية، أو أن تطبع كتب هي في الأصل مجموعة مقالات أو ورقات نُشرت وألقيت هنا أو هناك، فليس هذا الإشكال. والنقد سواء كان في شكل كتاب أو ورقة أو محاضرة أو مقالة خفيفة قصيرة، أراه دائما مفيدا، محفزا، دافعا، مصححا للمسارات، واضعا للعلامات. وقد يذهب البعض إلى أن الورقات والمقالات قد تكون مستعجلة، وغير دقيقة لأنها تُكتب تحت ضغط الوقت، لمواكبة ما يصدر أو يكتب، ولأنه يكتب لجمهور عريض غير مختص غالبا، خاصة ما ينشر في الصحف السيارة وبعض المجلات غير المختصة، وبتقديره أنه رغم هذه المآخذ يساهم في الزخم النقدي الذي سيوفر مادة نقدية قد تساهم ولو بعد حين في تطوير الحركة النقدية، ويجعل الكتاب يشعرون بجدوى ما يكتبون، خاصة أن حركة النقد الجامعي الأكاديمي المختص بطيئة نوعا ما عند العرب. وحسب قوله لا ضير في أن يصدر النقد عن أكاديمي مختص، أو عن قارئ فذ له معارف في مجال النقد والأدب، فلكل بصمته وأسلوبه.
الانتشار والطفرة النقدية
ويعد الناقد السوداني عز الدين ميرغني النقد الحالي ظاهرة أدبية صحية لأن ازدياد النصوص المنشورة في مختلف المجالات الأدبية في ازدياد لانتشار دور النشر ولحرية الكتابة التي انداحت وتوسعت أكثر من قبل. ويعتقد ميرغني أن هذا الانتشار يجب أن تواجهه طفرة نقدية وتتماشي معه حتى لا تُنسى هذه النصوص وتموت، خاصة فيها من نصوص الشباب الكثير، التي تحتاج للتوجيه وتحتاج ليعرف الكاتب موقعه من الكتابة والإبداع. ولهذا يتساءل: هل يواصل أم يتوقف؟ ولعل الكثير من المدارس الأدبية في أوروبا قد قامت بمقال واحد استوعب كل أركانها وأساسياتها. ويرى من جهة أخرى أن ما قدمته الملاحق الثقافية في العالم العربي من نشرها الدراسات والمقالات النقدية أكثر مما قدمته الجامعات وكليات الآداب، التي هي بطيئة في مواكبة المستجدات في عالم الإبداع الأدبي.
ويثبت الناقد والروائي العراقي داود سلمان الشويلي رأيه بقوله، إن المنجز النقدي في كل آداب وثقافة العالم تابع للنص الإبداعي، فلولا النص الإبداعي لما ولد النقد، وتطور وامتلك رؤى وأفكاراً.
تقاعس النقد
الناقد المغربي بوزيان موساوي، يلفت الانتباه إلى أن المتتبع للحركة الإبداعية العربية الراهنة، قد يُلاحظ كَماً لا يستهان به من النصوص «الأدبية» التي تروجها بعض المنابر الإعلامية الورقية والإلكترونية والكثير من صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. وشهد المشهد الإبداعي (قبل جائحة كورونا بقليل) كيف ساهم العديد من «المعارض الدولية للكتاب» من المحيط إلى الخليج في انتشار المنتوج الأدبي الذي كان ولا يزال في أغلبية مضامينه من إفراز «الربيع العربي». ويقول أيضا إنه في موازاة مع ذلك وبشكلٍ يشبه المفارقة العبثية، تقاعس النقد، وبشكل لافت، في مواكبة ومتابعة وتأطير مسارات إبداعية حديثة يشوبها العديد من النقائص حد «الفوضى» و»الرداءة» في نظر البعض. ويفسر التقاعس ليس بمعنى الجمود لأن بعض المحسوبين على النقد يفضلون نشر دراساتهم على أعمدة ما يسمى بـ»المجلات المُحكمَة» ذات الانتشار المحدود، مقابل «مكافآت رمزية» اعتقادا منهم أنهم يساهمون في «تطوير البحث العلمي» قبل جمعها في كتب يتم تسويقها، باعتبارها مراجع ضرورية لإنجاز رسائل الشواهد الجامعية العليا. ويمضي بقوله إنه سواء تعلق الأمر بما ذكرناه، فالقارئ «اليَقِظ» لهذه الأعمال النظرية والتطبيقية يرى في جلها مجرد عملية «إعادة إنتاج» آليات نقدية حديثة أوروبية وروسية ونادرا عربية. ومن هذا المنطلق يجزم موساوي بتوفر الساحة على»هواة» مقاربات نقدية، وليس على «نقاد» فالنقد النسقي النظري العلمي هو نِتاج فلسفة عامة تفرزها حركية المجتمع سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا. ويثبت رأيه من أنه ما دام الفكر العربي الراهن ما زال رهين أسئلة جوفاء تختزل كُنهَها في «الهوية» و»الاستلاب» و»إملاءات الأيديولوجيات النظامية» المتجاوزة، فأكيد ليس هناك في الأفق القريب أمل حقيقي في استشراف «نظريات نقدية عربية» حديثة تقود ركب الإبداع الأدبي الراهن، رغم محاولات جادة في الطريق السليم.
مدارس عربية
ويثبت الناقد والروائي العراقي داود سلمان الشويلي رأيه بقوله، إن المنجز النقدي في كل آداب وثقافة العالم تابع للنص الإبداعي، فلولا النص الإبداعي لما ولد النقد، وتطور وامتلك رؤى وأفكاراً. ويقول إن العرب عالة على المدارس النقدية الأجنبية، وتناسينا أن في تاريخنا الأدبي مدارس نقدية كثيرة، كمدرسة الموازنة للآمدي، ومدرسة اللفظ والمعنى للجاحظ، ومدرسة الجرجاني، ومدرسة التناص التي كانت مهتمة بالسرقة والانتحال، والاقتباس، وغير ذلك من المدارس العربية للنقد، على الرغم من عدم وصولها إلى أن تكون مدرسة لها أسسها ومقوماتها، وسنبقى نجتر هذه المدارس. ويعتقد أن النقد كأي نص، ليس له قالب معين، ولا رداء خاص به يرتديه، النقد هو رؤية لعالم النص الأدبي والثقافي وحيثياته، لذا علينا أن لا نسائله كيف أتى، إن كان من خلال دراسة نقدية لا تتعدى الخمس صفحات، أو من خلال دراسة طويلة تصل إلى أن تكون كتابا مستقلا، المهم في الدراستين هاتين، علينا أن نكون قد أطلعنا عن ما قاله النص الإبداعي المنقود، وبنائه، وعناصر هذا البناء، ومن ثم ما فيه من أمور تخدم المجتمع.
يختتم رأيه بالقول.. إن توسع مساحة الدراسات النقدية، وتعدد أصحابها، من ناحية الكم سيفرز، حتما، النوع الذي سيبقى خالدا على مرّ العصور.