تُعدّ النّصوص الأدبية على اختلافِ أشكالِها وأنواعِها وعاءً يحملُ في داخِلهِ العديدَ من الأيديولوجيّاتِ والدّلالات المعرفية، حيث تشكّلت جميعُها في ظلّ الظروفِ الاجتماعية والتاريخيّة أو ربما في ظلّ السماتِ الثقافيّة التي تُميّز كاتبَها كذاتٍ فرديّة أو جماعيّة، إضافةً إلى أن تلك النصوص تتيحُ لقارئيها وناقديها فرصةَ تأويلها وإعادة النظر فيها من خلالِ العديدِ من الزوايا التي تعكس وجهاتَ نظرٍ مختلفة قد تصيبُ حقيقة النّص وقد تخطِئُها.
ويريدُ الكاتبُ عبرَ نصوصِه وكلماتِه التي يُرسلها للآخرين أن ينقلَ تجربته وما يدورُ في خلدهِ حولَ ما يجري في الكونِ الفسيحِ أو في مجتمعِهِ أو حتى في محيطِهِ الضيّق، ونلحظ في رواية “عجوز أوسكودار” للمخرجِ والكاتب الفلسطيني نورس أبو صالح، وجود رغبةٍ عارمةٍ لدى الكاتبِ في إظهارِ أعمقِ نقطةٍ في ذاتِ الإنسانِ، ليس ذلك فحسب، بل إن الكاتبَ كان قد سخّر كلّ إمكانيّاته اللغوية وتجاربه الإخراجية السينمائيّة لتصويرِ الصراعِ الذي يخوضه الإنسانُ مع تساؤلاته الوجوديّة، تلك التساؤلاتِ القلِقة التي تثيرها الأماكنُ والأزمنةْ والأحداث التي يعيشُها، والتي تتّحد جميعها دافعةً إيّاه للبحثِ عن إجاباتٍ تسبغُ أهميّة ومعنى على كينونته ووجودهِ.
وتدور الحكاية حول مخرجٍ يذهب إلى بلاد الترك ليبحث عن قصّةٍ تستحق أن تُروى، وبدلًا من أن يبحث عن الحكايةِ المنشودة، وجدَ نفسه خالقًا لها، فأخذ يمسك بأطرافِ خيوطٍ من هنا وهناك مقنعا نفسه بأنها كانت متشابكة وأعادت ذاته العارفة وصلها من جديد، ولقد جالت عدسة الكاتبِ المخرجِ في الشخصيّة حتى وصلت أعمق نقطةٍ فيها، ولم يغفل عن أي تفصيل داخليّ أو خارجيّ يحيط بها، فنجدُ عبر الصفحات التي تتجاوز المئة بقليل، كمّا هائلًا من التفاصيلِ الممتدةِ بين دفّتي روايته، فالإنسانُ في رواية أبو صالح هو المحور والمركز، والقارئ لتلك القطعة الأدبية الفريدة، سيلحظ ندرةً في الأحداث، وسيلحظ أن الحوار الخارجيّ شبه منعدمٍ، وأن هناك تكثيفًا واضحًا لحديثِ الذاتِ، ولغةً شعريّة خلقت تفاصيلًا اجتاحت النصّ وأحكمت قبضتها عليه، ولكنها ليست من النوعِ الذي يُشعرك بالمللِ، وليست الغايةُ منها ملء الصفحاتِ وحشوها حتى الوصولِ إلى حدثٍ جديد، بل إن الهدفَ هو تعميقُ الصورةِ في ذهنِ القارئ، وتمكينه من النظرِ عن كثبٍ، بل إنّ تلك التفاصيل عمدت إلى استدراجِه حتى النهاية.
وقد ساعدها في ذلك اللغة البلاغيّة الغارقة في الشاعريّة التي صيغت بها، فنجدُ أن الكاتب يمتلكُ لغةً رفيعة المستوى، ومهارةً عالية في ربطِ الكلماتِ وتمريرها بسلاسةٍ، فتشعرُ وكأنك أمام قصيدةٍ نثريّة ذات نفس صوفيّ، حيث إنّ الأجواء الصوفيّة تخيّم على روحِ الروايةِ ككل، ونستدلّ عليها من خلالِ الرؤى التي تراودُ بطلَ الحكاية، وبعض العباراتِ المبهمة، إضافةً إلى ارتباطِ البطلِ بآلةِ الناي، وبالطبعِ من خلالِ الوصفِ والكلماتِ، ويبدو أن الكاتب لم يستطع إحكام سيطرتِهِ على الشاعرية المنهمرةِ أثناءَ كتابتِهِ لعملٍ نثريّ روائي، فانفلتت منه بعض الأبيات الصوفيّة التي زادت من جمالِ النصّ ورقّتِهِ:
ويبدو ذكرُ من أهوى وإنّي
يدورُ الذكرُ مني إذ أدورُ
وينفلتُ الخيالُ على طوافٍ
وينسكبُ البَواحُ المستنيرُ
أما يدري الهُيامُ بأن رأسي
مدامٌ والكؤوسُ به تسيرُ
إلى سعيٍ أريقَ به فنائي
فناءً لا يسرُّ ولا يضيرُ
كما تكشف لنا التفاصيل واللغة البديعة عن الإنسانِ الباحث عن ذاتِهِ، وكيف يجري صراعه مع ما يدورُ حوله، إذ لا يُمكن للإنسانِ أيّا كانت خلفيّته الثقافية والفكرية أن يعيش بمعزلٍ عن أحداث العالمِ والكون، بل ويجد نفسه متورّطا فيها إلى حد كبير، فكيف بهِ إن كان يحمل على عاتقه مسؤوليّة كشفِ الواقع ونقلهِ، كأن يكون مخرجًا مثلا، كما أن بطل الحكايةِ مسكونٌ بهاجسِ الغربةِ، فبرغمِ عبورِهِ الطرفَ الآخر من الكوكب، ظلّ الفلسطيني صاحب القضية حاضرًا في داخلِهِ، ويتجلّى بكاملِهِ فيه حتى في زحامِ اسطنبول المترعةِ بالقادمين من شتى بقاعِ الأرض، وتظل الذات العربيّة ترثي نفسها بلسانه كلما وقف أمام البسفور:
“وبقدر ما تراكمت أكوامٌ من البيوتِ فوق أصحابِها، بقدرِ ما تصاعدت سحب الدخانِ المختلطةِ بصرخاتِ الأطفال وأرواح الصاعدين للعلى، هذه السحب التي اكتظت بها سماءُ سوريا عبَرتْ إلى الأناضول متسللةً عبر آخر حدود الديكتاتور”.
على الرغم من تربّع صاحبنا المخرجِ على عرش البطولةِ الحكائية، إلا أنه ظلّ يحاول الفرارَ من هذا الدورِ البطولي، محاولًا تتويجَه عجوزَ أوسكودار غريبِ الأطوار، فلم يتوقف عن مراقبته واقتناص الفرصةِ للحديث معه ونسجِ الحكاياتِ حوله، بل تجاوز ذلك بأن جعل كل ما يصادفه متعلّقا بذلك العجوز الذي يغريه صمته والصورة التي وُجدت في جيبِه.
لكنّ هناكَ تشابهًا خفيّا بين العجوز وشخصية البطلِ، فالعجوز يثيرُ بتفاصيلِهِ الهادئة الوقورةِ خيالَ المخرجِ الفضولي، وعلى الجانب الآخر تعملُ تفاصيل البطلِ الفوضوية على إثارةِ فضولِ القارئ أيضًا، بالإضافةِ إلى أن العجوز ليس سوى مشهدٍ يمكن تأويله كلٌّ على ليلاه، والبطلُ في نفسِ الوقت ليس سوى كومةٍ مترعةٍ بالمشاهدِ الكثيفة حدّ الجنون ويمكن نسج الحكاياتِ عنها كل بحسبِ ما يراه، فلو وجدت الأحداث وملأت صفحاتِ الكتاب، لما استطعنا أن نرى شخصية كل منهما بهذا الوضوحِ الكبير، ولانصرف خيالُ القارئ إلى ما يمكن أن تؤول إليه عجلة دائرةٌ تبدأ وتنتهي كما اعتاد لها أن تكون، لكن الأمر في رواية العجوز مختلف تماما، إنّها أقرب ما تكونُ إلى فيلمٍ سينمائيّ يبتلعُ الصمتُ ثلثيه، ويترك لعدسةِ الكاميرا روايةَ الحدث.