من المبادرات الجادة التي تطفح على الساحة النقدية المغربية والعربية، تلك التي لها صلة بالأسئلة المعرفية والإشكالات النظرية الصرفة.
اجتهادات وطروحات عالمة بأسسها الفلسفية ومنطلقاتها المنهجية، وتطلعاتها النقدية والفنية والإنسانية… إنها غاية راقية وآفاق واعدة تطعم بها العقل النقدي في إطار ما يصطلح عليه بالنقد الثقافي، كممارسة جريئة تتكئ على عدة منهجية ومعرفية تمكن صاحبها من استنطاق النصوص الفكرية والأدبية، وسائر النشطات الإنسانية الأخرى. وكذا رسم المسافات النقدية المحترمة بين الذات القارئة والمؤولة. وبين المادة المقاربة والمبحوثة. خطوات جديدة على درب الإبداع والسؤال النقدي.. ارتبط بها اسم الأكاديمي والناقد المغربي ‘يحيى بن الوليد’ اسم أغنى الساحة النقدية بالعديد من المؤلفات والأبحاث الرصينة والنوعية في اختياراتها وقيمتها المضافة. كان لنا معه هذا الحوار المعرفي المفيد والجميل..
إذا ما طلب من الأستاذ يحيى بن الوليد أن يعرف نفسه فما الصيغة التي يختارها؟
أحبذ تقديم نفسي من خلال مفهوم محدد ومركـّز وهو مفهوم ‘الولادة بالتقسيط’ الذي كان الشاعر الأبرز محمود درويش قد اجترحه، ذلك أن بداياتي كانت في الصفحات الأدبية المخصصة لـ’الأدباء الشباب’ وخاصة صفحة ‘الباب المفتوح’ في جريدة ‘العلم’ التي كانت، ولا تزال، تابعة لحزب ‘الاستقلال’. وحصل ذلك أيام كنت طالبا في الجامعة المغربية، وعلى وجه التحديد في الثمانينيات النازلة من القرن المنصرم، حيث كنت مفتونا بـ’البنيوية’ وخاصة على نحو ما كان يقدمها الناقد تزفتان تودوروف بالنظر إلى لغته النقدية المفهومة نسبيا مقارنة مع أعمدة البنيوية الذين كان أغلبهم لا يزال على قيد الحياة. وأغلب ما نشرته، وقتذاك، كان ذا صلة بهذا التوجه النقدي الفلسفي، وطبعا كان ذلك محكوما بحماسة الشباب المفرطة حيث كانت الرغبة في التأكيد على ‘الهوية النقدية’ أكبر من التريث والنظر إلى الأشياء في ‘مستنداتها الإبستيمولوجية والتصورية’. وبعد ذلك انتقلت إلى الكتابة عن الشعر المغربي وتحديدا تجارب جيل الثمانينيات. وقد كتبت، وفي الملحق الثقافي لجريدة ‘الاتحاد الاشتراكي’ وفي صفحة ‘أدب وفن’ بـ’القدس العربي’، عن أغلب تجارب هذا الجيل الذي وجدت نفسي، ورغم صغر السن بعض الشيء، متماهيا معه. غير أنه، وموازاة مع هذا التماهي، كنت أشتغل، وفي إطار من إعداد ‘دبلوم الدراسات العليا’ بجامعة محمد الخامس بالرباط، على أطروحة حول ‘قراءة التراث النقدي عند جابر عصفور’. وفيما بعد واصلت الاشتغال على موضوع القراءة نفسه في الدكتوراه، لكن هذه المرة في الخطاب النقدي والفلسفي بالمغرب. وقد أثمر البحث الجامعي دراستين نشرتا في القاهرة. وفي سياق مطمح الإفادة والتفاعل مع مجمل ما يروج في النظرية النقدية وجدت نفسي غاطسا في ‘النقد الثقافي’ بمعناه المرن أو في ‘التحليل الثقافي’ بصفة عامة. وفي هذا السياق تعاملت مع بعض القامات النقدية والأدبية والفكرية والأكاديمية، وعلى النحو الذي جعلني أنشر كتاب ‘الكتابة والهويات القاتلة’ و’الوعي المحلق ــ إدوارد سعيد وحال العرب’ و’تدمير النسق الكولونيالي ــ محمد شكري والكتاب الأجانب’ و’سلطان التراث وفتنة القراءة’ و’صور المثقف’… موازاة مع مقالات كثيرة في الشأن السياسي والفكري في العالم العربي وفي المغرب بصفة خاصة.
كناقد ومشتغل على قراءة واستشكال العديد من الأعمال الإبداعية والفكرية، إلى من توجه أسئلتك ومقارباتك. هل للكاتب المبدع أم للقارئ بشكل عام؟
العمل النقدي لا يلغي كلا من الكاتب المبدع الذي هو محور العمل النقدي والقارئ الذي يتوجه إليه العمل النقدي. ولكن مع ذلك أتصور أن مناط تشكل العمل النقدي لا ينحصر في الطرفين الأخيرين. فالناقد، وحتى إن كان يخاطب الكاتب والقارئ، فإنه، وهذا هو الأهم، يستجيب، وبأكثر من معنى، لـ’ذاته’ أو بالأحرى يستجيب لتوجهه، وإلا لما كان هناك من تعدد في المناهج والنظريات والقراءات… وفي دور المثقف الذي بإمكان الناقد أن يضطلع به. ثمة وبتعبير جابر عصفور نوع من ‘الحضور الذاتي المستقل’ أو ثمة ‘عمل الناقد’ الذي عادة ما ينطبق على النقاد الكبار من أمثال إدوارد سعيد. الناقد بدوره يحرص على صياغة ‘خطابه’ النقدي والفكري، لكن ذلك لا يلغي النص أو العمل الذي هو محور العملية النقدية ولا القارئ الذي بموجبه يتشكل مثلث الآلة النقدية. وفي هذا الصدد لقد سعدت بتعليق قارئ على دراساتي لرواية شاكر نوري ‘مجانين بوكا’ وذلك حين ذهب هذا القارئ إلى أننا بصدد رواية على رواية. وطبعا هذا التوجه أحيانا لا يوافق عليه البعض من الكتاب الذين هم موضوع الدراسة. وحتى أختم في هذه النقطة فكم من مرة نظفر بعمل نقدي يكون أقوى من النص الذي هو موضوع القراءة بمعناها الفلسفي الاصطلاحي الذي يفسح لتداخل آليات أو إواليات التحليل والتفسير والتقييم.
ما هي الوظيفة التي يضطلع بها السؤال والدرس النقديان؟
الدرس النقدي اليوم مطالب بأن يتحرر من متابعة الأعمال والتعليق عليها حتى يقلب الأنساق المفترسة والخطاطات القامعة وحتى ينخرط في مشاكسة ألغام العصر التي تعتصرنا. فثمة نصوص روائية عكست، ومن خلال مرتكز ‘التمثيل’، أشكال الهويات العمياء والأصوليات القاتلة وأشكال الهيمنة والمكبوت في أصنافه… وعلى نحو أوضح مقارنة مع ما ينتجه العديد من المنتسبين لحقول العلوم الاجتماعية. والمؤكد أننا نقصد، هنا، إلى النقد بمعناه ‘الإبستيمولوجي الراديكالي’ مثلما أقصد إلى الأدب بمعناه الجذري الذي يتأسس من خلال التشابك مع منظومة القيم والمفاهيم والأفكار ودونما تفريط في اشتراطات الجمال والسخرية واللغة. غير أن ما سلف لا يفيد أي شكل من التضحية بالنقد بمعناه السوسيولوجي المرتبط بالسوق والانتشار والنشر والذي يأخذ بأشكال المتابعة من خلال الإعلام. وحتى هذا النوع من النقد لا نزال نفتقد إليه في واقعنا الثقافي العربي مع أنه يسهم في إغناء هذا الواقع بل وفي خلقه أيضا.
يتصور رينيه ويليك أن النقد هو إنشاء عن الأدب. فما قراءتكم لهذا التصور؟
* إذا سمحتم يصعب الاستقرار على أن الأدب هو مجرد إنشاء عن الأدب وسواء مع رينيه ويليك أو سواه من النقاد العالمين، وربما توجب الأخذ بهذه الفكرة في سياقها. وأتصور أن الإنشاء وارد في النقد لكن من خلال مفهوم موسّع وهو مفهوم الكتابة على نحو ما دافع عنها الناقد والفيلسوف الفرنسي رولان بارت ومعه تيار بأكمله ولا سيما من خلال ما يعرف بتيار ‘تيل كيل’. وفي هذا الصدد تغدو الكتابة شكلا لا يمكن لشكل آخر أن ينوب عنه، وكل ذلك في المدار ذاته لا يفصل ‘الإنشاء’ ذاته عن ‘التأصيل’ و’المفهمة’ إذا جاز أن نأخذ بلغة جيل دولوز وغاتري في كتابهما ‘ما الفلسفة؟’.
من يتابع ما يكتبه يحيى بن الوليد يلاحظ تلك الكتابة التي توجهونها لكتابة البورتريهات فما السر في هذا الضرب من الكتابة؟
صحيح أنني كتبت عن أسماء محددة في عالم النقد والفكر والأدب والسياسة، فقد كتبت عن جابر عصفور وحسن نجمي وإدمون عمران المليح وإدوارد سعيد وأحمد عبد السلام البقالي والمهدي بن بركة ومحمد شكري… في أفق نشر كتاب حول عبد الله العروي وآخر حول محمد عابد الجابري. غير أن ما كتبته لا صلة له بالبورتريه الذي لا أستصغره والذي له مختصون فيه وخصوصا في الغرب. ما كتبته يندرج ضمن ‘نقد النقد’ بمعناه المقولاتي والتصوري، وعلى النحو الذي يجعل المنخرط في هذا الصنف من النقد يستجيب لذاته كما قلت من قبل ويحاول أن يحضر في الفكر بصفة عامة وفي الوقت ذاته. فالمسألة، هنا، لا صلة لها بالمتابعة. ولذلك فإن ناقدا أو باحثا جادا حين يقدم على عمل حول أكاديمي في حجم إدوارد سعيد لا بد من أن يشعر بالدهشة قبل الإقدام على بحث من هذا النوع، ولا بد من أن يسأل حول ما الذي بإمكانه أن يضيفه في هذا المجال المحكوم بآلاف الدراسات التي يصعب عدها ولو عبر بيبليوغرافيا مستقلة. واضح، إذا، أن تقد النقد شكل من أشكال النقد والحضور.
كثرت في الآونة الأخيرة كتابة السيرة الذاتية والمذكرات. فماذا عن الإضافات التي يشكلها هذا الصنف من الإبداع والكتابة؟
أعتبر هذا السؤال وجيها، غير أن ما لا يتم استحضاره في أغلب الأحيان أن من شجع على هذا الأشكال هو طبيعة السياق الذي رحنا نعيشه نتيجة أشكال الآليات التفكيكية للعولمة التي أفضت إلى أشكال من الانفجار الثقافي والهوياتي أيضا. وهذا بالإضافة إلى التحوّل الذي حصل في فهم الأدب إذ لم يعد المنتسبون إلى ملعب الأدب هم من المنحدرين من المؤسسة الأدبية أو من الجامعات. في مثل زماننا هذا راح كثيرون يكتبون دونما اكتراث بالنقد والنقاد، وهذا بالإضافة إلى أنهم جاؤوا إلى الكتابة من مهن أخرى مثل المحاماة والحلاقة والطب والإدارة… صحيح أننا نجد أطباء ومحامين من قبل، غير أن قصدي مغاير. لقد صار الكل يكتب ودونما اكتراث بالنقد والنقاد كما قلت، وكما قال فيليب لوجون ‘ليس جميع الناس يزاولون الرياضة من أجل المشاركة في نهائيات الأولمبياد’. ولعل هذا التصوّر هو ما سعيت إلى توضيحه في الدراسة النقدية المطوّلة حول الرواية المغربية التي أسهمت بها ضمن ملف الرواية العربية في مجلة ‘تبين’ القطرية في عددها الأخير.
إلى أية حدود استطاعت المرأة أن تحقق ذاتها وتكشف عن كينونتها فيما كتبت وتكتب من كتاباتها السردية؟
يا عزيزي أنت تطرح عليّ سؤالا في حجم قارة بأكملها، ولكن مع ذلك أتصوّر أن المرأة ترتبط بكينونتها وبيولوجيا وثقافيا أيضا. وحتى فيما يخص العلم، الذي يبدو لنا محايثا لكي لا أقول محايدا، رحنا نقرأ فيه عمن يتحدث عن ‘أنثوية العلم’.
بأية صيغة تحضر المرأة في خطاب الرجل أو حضور الرجل في خطاب المرأة؟
بالنظر إلى الذكورية القامعة وبالنظر إلى الاستعمار الفقهي الذكوري كان من المفهوم أن ترد المرأة على الرجل. وكما قيل ‘النساء يمثلن المجموعة التي دفعت أعلى الضرائب ليتطور تاريخ الرجال’. وكما أن المرأة شاكست وصية ‘لا تعلموهن الكتابة’، بل قاتلت من أجل الانتساب إلى الكتابة والمواجهة بالتالي عبر الكتابة. ونحن لا نعدم في نماذج نسائية أشكال من الكتابة وبـ’شوارب الرجل’ كما قيل. غير أنه من الأوضح أن ننظر في ما تنتجه المرأة من خارج دوائر التداخل أو المناطحة، وكما تقول ناتالي ساروت: ‘عندما أكتب، لا أكون رجلاً ولا امرأة…’.
سبق لكم أن نشرتم كتابا عن الناقد الكبير جابر عصفور، فهل أعدتم تقديم صورة عن هذا الناقد؟
كلما تذكرت هذا العمل إلا واستحضرت أستاذا لي، ولا داعي لذكره، عندما قال لي، وعن حسن نية، إن الاشتغال على هذا الناقد يفوق طاقتي. وكان لهذا القول ما يبرره بالنسبة لطالب متحمس، لكن رغم ذلك خضت المغامرة وأنجزت البحث في إطار دبلوم الدراسات العليا (الماجستير). وكان هذا أول عمل ينجز حول جابر عصفور في العالم العربي، وكان من المفروض أن يظهر الكتاب في غير الصيغة التي ظهر بها في مصر والتي لا تخلو من أخطاء الكثير منها لا دخل لي فيها، لقد طبعت الرسالة كما هي مع أني كنت قد عدّلت الكثير من أفكارها مثلما أن أستاذي الجليل إدريس بلمليح كان قد خصّها بمقدمة كاشفة. إجمالا إن العمل سيظهر من جديد وفي جزأين جزء أول يتعلق بالنقد الأدبي وجزء ثان يتعلق بالنقد الفكري أو الثقافي بمعناه المرن. لقد أفدت كثيرا من جابر عصفور في بلورة خطابي النقدي، وكما أفدت من نقاد مصريين آخرين طلائعيين ومثقفين أجلاء ونبلاء في مقدمهم الأستاذ صبري حافظ الذي أفخر بالنشر المتواصل لدراساتي الأكاديمية المطوّلة في مجلته الإلكترونية ‘كلمة’.
ما هي ارتساماتكم حول ما يطلق عليه بأدب السجون، وهي كتابة هدّتها المحن والاحتراق؟
أدب السجون قديم، غير أنه يتأثر بالسياق الذي يستوعبه. وفي حال المغرب فقد عرف هذا الأدب ‘طفرة’ على مدار الفترة الممتدة من التسعينيات النازلة إلى حدود الآن، بالنظر لبعض المتغيرات الحاصلة في العلاقة التي تصل الدولة بالمجتمع، هذا وإن كانت الكتابة في هذا المجال قد أخذت تفقد شرف التواجد في الواجهة. ومن جهتي كتبت مقالات كثيرة في هذا الصدد، ومن منظور ما أسميته بـ’عمل الذاكرة’ و’الصفح’ و’النسيان’… وكل ذلك في إطار من ‘السرد’ بمعناه المصاغ في النقد الثقافي. والنقاش في هذا الموضوع طويل، وكما قال تودوروف: ‘فالاستخدام الأمثل للذاكرة هو الذي يخدم قضية عادلة، وهو ليس الذي يكتفي باستعادة الماضي’ و’من ينسى الماضي سوف يكرر أحداثه’ كما يضيف جورج سانتيانا.
في الآونة الأخيرة، تم الإعلان عن تأسيس ‘رابطة الكاتبات المغربيات’، أفلا يشكل هذا الميلاد الحدث مزيدا من الانشطار والتقزيم في مشهدنا الإبداعي والثقافي؟
حتى أصارحك ما يصنع الكاتبة والكتاب هو المقروء والسفر في اللغات والثقافات وليس الاتحادات والرابطات.. ولا الحروب ولا التسويق الإعلامي. غير أن ذلك لا يفيد شطب مثل هذه الإطارات، لكن شريطة أن تنأى عن لوثة الذكاء الانتهازي وعن الفساد الثقافي الذي لا يقل خطورة عن الفساد السياسي.
ماذا تمثل للناقد يحيى بن الوليد هذه الأسماء:
إدمون عمران المليح؟
معلمة لا تتكرّر أو “الساقي الذي يؤجج عطشنا”، كما قال عنه أستاذنا محمد برادة
إدوارد سعيد؟
واحد من أربعة أو خمسة من كبار النقاد في العالم
المهدي بن بركة؟
إما أن نكون في قمة الجبل أو على تبن في زنزانة مظلمة
محمد عابد الجابري؟
معه صار العقل العربي على حال لم يكن عليها من قبل
عبد الله العروي؟
منطق التاريخ ونسق المفاهيم.