أمّا المكانُ.. فذاهبٌ بذهابِنا.. أيّامُهُ أيّامُنا.. وله حياةٌ مثلنا.. وله شبابٌ مثلنا.. وَلَسَوْفَ يَهْرَمُ مثلنا.. وَلَسَوْفَ يوما ينطوي.
أمّا أنا.. فأقول لي:
البحرُ بحرُك أنتِ.. إذْ تجري الجواري المنشآتُ به.. إليكِ.. ومنكِ.. رُسْبِينَا.. طبيعتُهُ طبائعُنَا.. تتنفّسَ فائرا أو ساكنا أو فاترا.. إذْ يستحيل هواؤه ماء..
ومائي طيّ مائك يستحيلُ هواءهُ.
٭ ٭ ٭
المدُّ يقبلُ حيثُ كانَ الموجُ يقذفُنا.. وماءُ البحرِ.. يَجْزِرُ.. والوهادُ تبينُ.. نبقَى وحدنَا في الطينِ مُضطربيْن.. ملتحفيْن بالأوراقِ.. منسلخيْنِ.. حيث تكون أجنحةٌ… فنستقلّ بها معا ونطيرُ.. في سُودِ الرياح وبِيضِها.. أو نستديرُ معا.. نباتا.. أو غبارا.. أو هشيما.. إذ أظلّتنا السحائبُ يومَها.
٭ ٭ ٭
في قعْرِ هذا البحرِ.. بِاسْم الماءِ.. في حيطانِهِ.. هَلْ كنتُ أسمعني.. أنادي: كَمْ أحبّكِ أنتِ.. لكنْ كيفَ لي بكِ؟ كيفَ؟ أعرفُ.. في خبايا الطينِ.. طينيَ.. ثمّ شيءٌ كالخيانةِ.. لاَبِدٌ…
في ظلّيَ المسلوخِ.. لا أثرٌ لأقدامِي.. وليسَ سِوى جذوري في جذورِك.. أنتِ..
ليسَ بها سِوى الوثنِيِّ فينا.. لا رهانُ أبي العلاءِ.. لنا.. ولا باسكالُ.. حيث الأرضُ أرضُكِ أنتِ.. عاليةٌ.. فهابطةٌ.. وهذا الماءُ ماؤك أنت أم مائي أنا؟
ينحازُ في صمتٍ إلى أعماقنا.. يطمُو ويغلبُنا معا.
٭ ٭ ٭
ليكنْ إذنْ..
هذا الرهانُ خسرْتُهُ.. وخسرْتِهِ.. لكأنّنا في غاَصَّةٍ في قَعْرِ ليلِ البحرِ..
إذْ يستخرجونَ اللؤلؤَ المكنونَ والأصدافَ.. أو يتصايحونَ به صياحَ كلابِهمْ.. والصوتُ يَخْرُقُ ماءَه.
٭ ٭ ٭
لكأنَّ رُسْبِينا الجزيرةُ.. حيثُ كانَ نساؤُها يَلْقَحْنَ من شجرٍ.. ومن ريحٍ ومن مطرٍ.. وليس سوى النساءِ يَلدْنَ.. إذ قامتْ لنا هذي التماثيلُ.. (الطيورُ. هنا.. قواطِعُها.. جواثِمُها.. على أغصانِها..)
هلْ نرجعُ الأدراجَ؟ تمثالٌ يقومُ.. يشيرُ أصفرَ.. أوْ يلوّحُ.. في منارِ نُحاسِهِ… لا مسلكٌ.. حتّى تفوتَا الماءَ.. كان الماءُ يلحقُنا.. وأخضرُ رافعٌ نحو السماءِ يديْهِ.. يومئُ باسطا لهما.. أحقّا تذهبانِ؟ ولا طريقَ هنا أمامَكُمَا.. وأسودُ ظلّ يومئُ لي بإصبعهِ.. سيطمُو الماءُ.. لكن لا طريقَ هنا وراءكُما.. قِفَا.
٭ ٭ ٭
حتّى انْتحى شطٌّ.. بنا.. في شمسِ رُسْبِينا.. وفي طرقاتِها.. وكأنّنا ما بين أنهارٍ عروقٍ وَهْيَ تجري حُرّة.. في عَامرٍ مِن برّها.. أو غَامرٍ مِن بَحْرِها..
كانتْ لنا مقصورةٌ في المطعمِ البحريّ.. حيث الفُلْك.. لا ريح ولا مطرٌ.. رواكدُ فوق ظهْرِ الماءِ.. عند حجارةٍ من فضّة.. بحّارةٌ.. أسماكهمْ في الشصّ تُرْعدُ مثلنا..
أوْ هُمْ يشدّون الحبالَ.. وَهُمْ يلمّون الشباكَ.. البحرُ بين حديدةٍ عقفاءَ.. يدخلُ.. أو يفورُ بها.. تَرادَفتِ الرياحُ عليهمُ.. سوداءَ أو بيضاءَ.. أو نهضتْ لَهُمْ.. من قعر ليل البحر زوبعةٌ.. فَلِي منهمْ دبيبُ شرابِهمْ.. هذا النعاسُ كما لو أنّه خَدرٌ.. (غزالي ناعسٌ.. في الماءِ.. إلاّ ما تخوّنهُ نُعاسِي.. مائجا.. ثملا..) يدورُ على حوافّ الجُرحِ.. جرحِك.. أنت يا ابنةَ حضرموتَ التونسيّةِ.. كيفَ لي بالنومِ في النعشِ المُخيّم؟ كيفَ لي؟
٭ ٭ ٭
هلْ ذا مغاصُ اللؤلؤِ المكنونِ؟ هلْ ذي زهرةُ التوليبِ؟ أمْ ذا بحرُكِ الحبشيُّ؟ بحرُ الصينِ؟ بحرُ الهندِ؟ بحرُ السندِ؟ بحرُ الزنجِ؟ لي هذا الخليجُ البربريّ.ُ.. الأبيضُ المتوسّطُ الأعْمَى.. كهذا الموجِ.. لا زبدٌ.. ولا قاعٌ.. نلينُ.. معا.. ويذهبُ في السماءِ.. وفي الهواءِ.. ولا يلينُ.. الموجُ مرتفعا.. فمنخفضا.. ونحن معا به.. ومعا نموتُ.. ونحنُ نطمُو.. ثمّ نطفُو..
(تلك كانتْ لذّتي في الموتِ)
إذْ أقدامُنا مغموسةٌ في الماءِ.. لِي عُودٌ قماريٌّ.. وهِنْديّ.. بَخورك أنتِ..
يا ابنةَ حضرموتَ التونسيّةِ.. لي أنا أوراقُك الريحانُ.. لي وَرَقُ الكُمَثْرَى..
لي سحيقُ العطرِ منك.. الخيزرانُ.. الآبنوسُ.. العودُ..لي..
٭ ٭ ٭
طوّفـْتُ في الأسواقِ.. لي رأسٌ عليه الجمرُ والكبريتُ.. تلكَ القيروانُ؟ كَأنْ أفقتُ هنا.. على صوتِ المعازفِ والطبولِ.. القيروانُ إذن؟ أدلاّئي.. إليها.. القيروانُ.. أتَوا بأسمائي الجوامدِ.. والسوائلِ.. لي قصائدهمْ.. ولِي عربيّتي.. رِمَمٌ.. بها.. بَليتْ.. وجوهٌ في الصدور.. وفي الظهور.. قرابةُ الدمِ.. (ثوريَ الوحشيُّ.. تحت النوءِ.. ينْحَبُ.. أو يَخورُ..) ولي كلامُهمُ كلامُ الطيرِ.. جَرْسُ الفُطرِ.. لكنّ المنازلَ كالقبابِ البِيضِ.. كالأسوارِ.. أدنُو.. وهْيَ تبعدُ.. ثمّ تدنُو.. الشمسُ ذي.. من بُرْجِها المائيّ حتّى «الحوتِ».. تجْري.. دأبَها.. في صيْفِها اليوميِّ.. إذْ يَحْمَى مزاجُ هوائِها.. وهوائِنا.. أفْرانَ زَجّاجينَ.. لا ظلٌّ.. ولا فيءٌ.. لنا.. بطلوعِها وغيابِها.. الأسوارُ كالأشجارِ تَطلعُ.. ثمّ تَخْفَى.. الماء أصبح مثلها غوْرا.. ولا ماءٌ مَعينٌ.. لا دلاءَ لنا.. ولا أيدٍ.. صحارى.. أو رمال.. ها هنا.. لا غيرَ..
قُلْ:
لوْ كنتُ أحلمُ مثلَ عبد المنعمِ الكنديّ.. كنتُ هَدَمْتُها.. سُورا.. فسُورا.
والأساطينُ.. الحجارةُ.. مثلنا…. هفّافةٌ.. وجلبتُهُ حتّى سهوبِ القيروانِ.. البحرْ
ربيع 2024
رسبينا: اسم مدينة المنستير الأقدم
عبد المنعم الكندي: مهندس وفقيه قيرواني (ت.1042م) يقال إنّه وضع رسالة في جعل مدينة القيروان مرسى بحريا، وجلب الماء من الساحل إليها.