يستدرك الأنا العارف بيومه والمتمثّل لحظته باشتباكه الأليم مع المعيش، على واقعه ورؤيته الماثلتين بين غربة تكتشف بعدها عن عالم لا يحتفي بالأفق الجمالي في نشوة الإنسان المتمتع برهافة إنسانيته، وفي ذات الوقت لا تتحقق من أنّ هناك هامشاً في الواقع والوجود يرمّم فجوة المواجهة الأليمة مع اليومي في انصراماته الأشدّ صموداً في وجه ممارسة الإنسان لوجوديته الحالمة.
لا يمكن أن نفصل نضال الأنا العارفة بمصيرها وحقيقتها عن تمفصلات المعرفة الدالة على كينونة مستمرّة في التوغل في مجاز الذّات وتوهّماته الدلالية الممعنة في المحبّة الأصيلة للتأويل، والمجاراة الحالمة للغة وما تدور حوله الخطابات التفكيكية لِلَحظة مارقة من عنف الموات الجاري تطبيقه وتجريبه على ذات غارقة في رواية سردياتها الهاربة من سقف النّهايات والحالمة بالمطلق، الراغبة في سقف الفن والنّافرة من مطلق الواحديات الرّابضة عند تخوم المعنى الذي لا يدور سوى حول السلطة ذات السلوك التّوجيهي والتبريري والتفسيري المحدّد بالوجهة الواحدة والأفق المغلق.
ليس ثمّة شمس تشرق من الغرب، لكن هناك سؤالاً يمكن أن يدور حول هذه الإمكانية، من مثل هذه الاحتمالات المستحيلة نبع السؤال الفلسفي المكين الذي راود الفكر والعقل المتاحين بين (مشائية) متحرّرة وحلقاتية مغلقة، وارتجّ السّكون المفهمي الحائل دون حركة الوعي في انتصاراته على وهم النّهائيات المغرضة والنّاسفة للمغامرة العقلية داخل (غابات سرد) الحكاية الوجودية.
تأسّست عند مفهومية سيولة الحراك من أجل انتصار السؤال ودحض المسعى النّهائي كسقف للتفسير؛ تأسّست عند هذا الفضاء ميكانيزمات دلالية تتحرّك ضمن مسار الزّمن، لكنّها تستوعب كينونته من خلال الدلالات التي تتجاوز انعكاس المفاهيم المباشر في حدود عقل الإدراك الحدّي العالق بين معنى قريب وإجابات فارغة من عمق السؤال، فانطرحت آليات (الأزمنة الحديثة) بتعبير هيغلي رصين و(الوضع ما بعد الحداثي) بلغة فرنسوا ليوتار الحريصة، لإطلاق التّمرين المفصلي في حركة الانقلاب الفكري على الوضع الحداثي، لكن كل هذا الاشتغال كان داخل وخارج رواق مشائية القلق المعرفي اتجاه وضع السكون، وبالتالي، تُفجر مثل هذه الآليات أسئلة التحقيب ومدى ارتباط (الحداثة) و(ما بعد الحداثة) بالمفهوم الزّمني الذي يعكس البداية والنهاية، حيث إدراج هذه المفاهيم ضمن محدودية الفهم للزّمن كمسار خارج (العود الأبدي) وفق نتشوية متحوّرة، أو الدورة المكينة لفهم حركة العقل خارج مسبار البشرية المتحوّل، يفرغ الحداثة وما بعد الحداثة من معنى النّضالية المستميتة من أجل خلق المفاهيمية الدّافعة للوعي نحو أمداء المغامرة الفلسفية الممتعة بلَعبها المنتصر للأسئلة التي هي (العمر الذّهبي للطفولة) على حدّ تعبير هنري ميشو.
تحديد المفهوم وتوتير زوايا الرّؤية إليه، يجعل الباحث في ارتباك إنّوي يدفعه إلى العثور على علاقة قابلة للكشف عن جغرافية وتضاريس الجسور بين الأنا وطروحات الحداثة وما بعد الحداثة، فالأنا في اغترابها الماثل بين قراءة المفهوم ومحاولة استيعابه وتأسيس منظورات تطبيقاته، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، تجلياته الوجودية الأصيلة المختلفة، تحاول أن تتمثل درجة استوائها وامتدادها للخروج من إشكال (هجرة المصطلح) و(المفهوم)، مندرجة ضمن علاقة تضمن للأنا الهاجسة بمفاعيل الحداثة وما بعد الحداثة أن ترمّم وعي الاغتراب بوعي تثوير بؤرته (الاغتراب) للخروج الآمن من نصّية التلقي إلى مخيال الميراث المتحرّك في نصّية المشترك (العقل).
ينجم عن عقلانية المسعى الديكارتي في الأنا أفكر والمروق المتمرّد على رصانة العقل وواحديته لدى نيتشه، إشراق الشّذرة (fragment) في تجلياتها الأشد فنّية وإمتاعاً للمسعى المحتذي بالكتابة والذّوق الفلسفي في إنكار المحدود والسير في غمار الفضاء التحرّري المثخن بلذّة المتعوي والحكائي، الفن ليس حالة مدعّمة بالجمال الملموس والتلقي المحدود، إنّه مسار رمزي لاكتشاف المعنى في جذور اللامعنى واندماج في صيرورة باحثة عن تفاصيل الذّات في جماليات تستعير هويتها من اللغة والخطاب واللون والنّغم، ولهذا عند خروج الذّات من فصول المتعة تحت سقف الفن تنسجم في أسئلة التعدّد الخيالي الذي يواجه محدودية الواقع، فالواقع واحد وعوالم الخيال متعدّدة، لماذا؟ هذه الـ(لماذا) أتاحت لجان بودريار أن يهدم سور العزل بين الخطابات ويسمّي اللحظة الواقعية في تجلياتها الما بعد حداثية ضمن مسارات (النقد الجذري)، هل اللحظة الكاسرة لمسعى الحداثة والنّاجزة في ما بعد الحداثة تجد توسّماتها في أسئلة (النقد الجذري)؟
في مواجهة (نقد الواقع) نستطيع أن نضع ستائر الكشف البيضاء على الظل الشبحي للكينونة التائهة، نستطيع أن نسائل الهوية ذات الحدّة المرتفعة في علاقاتها بالهويات المختلفة والنّابضة بالوجود والكينونة. أين (أنا) النّاجزة في جغرافيا القيمة والثابت المرجعي، في علاقتها بالآخر المتعدّد في هوية السؤال والوجاهة الوجودية المتعدّدة بالطبيعة والحدوث البعدي للميلاد؟ تلك أسئلة الخطاب السردي في توهجه الذّاتوي، الممعن في حفره العميق في الأنا التاريخية، في أدراج اللغة الحاملة للنّبض القلق داخل أنفاق تفسيرية واحدية!
ضمن مسار الخطاب محمول اللغة الذّات، تتفجّر آفاق المعرفة والتعدّد داخل السرود والمحكيات، وتستعيد المسعدية (محمود المسعدي) والغيطانية (جمال الغيطاني) أجراس مواعيدها مع نهضة تستميت في ترسيم حدود المحكي كلعبة ذات جذور لكنّها متجاوزة في خطابها لكينونة الجذر.