الوهم والصنم وجهان لعملة واحدة هي “الزّيف” أو مخالفة الحقائق، والأدب رغم أنه ليس من المجسمات المادية، فإنه يشكل الذائقة ويتحكم في الوعي والسلوك، وفي حياة المصريين مثال مشهور، هو مثال “توفيق الحكيم وجمال عبدالناصر”، فقد كتب الحكيم روايته “عودة الروح ” في ثلاثينيات القرن الماضي، فقرأها الشاب الذي أصبح رئيسًا للجمهورية فيما بعد، وقال ما معناه؛ إنه تأثر برواية الحكيم، واعتبرها من مكونات رؤيته السياسية.
والقصد من سرد هذا المثال، توضيح خطر “الوهم الصنميّ ” أو “الصنم الوهميّ ” في ميدان الأدب والنقد، وكشف خطورة هؤلاء الذين خلقت الأقلام المأجورة حولهم الأساطير، ومنحتهم المكانة التي لا يستحقونها.
ومن هذه الأصنام من يعيش بيننا بجسده، ويأكل ويكتب ويمارس سطوةً روحيّةً مستمدة من “الأقدميّة المُطلَقة “ومن منجز قديم، نال عنه التكريم الأدبيّ والماديّ مئات المرات، ورغم هذا مازال يمثل نموذج “الصنم” الفريد، العصيّ على الزمن، وما قلته ينطبق على الشاعر “أحمد عبدالمعطي حجازي” الذي انقطع عنه الوحي الشعريّ، وفارقه شيطانه الذي يُملي عليه القصائد منذ ما يقارب أربعين سنة.
زفرة أخيرة لشاعر ميت
وكانت قصيدته التي كتبها في أوائل تسعينيات القرن الماضي، زفرةً أخيرةً لشاعر ميت، بل متحلل، وكانت القصيدة لمناسبة ذكرى محاولة اغتيال “نجيب محفوظ” بسكين شاب مصاب بهَوَس دينيّ، ونشرت القصيدة في مجلة “المصور ” في عهد المرحوم “مكرم محمد أحمد”، واختاره فاروق حسني لرئاسة تحرير مجلة إبداع، وكتب مقدمة فقال: إن مجلته لن تكون مجلة “الحرافيش والرعاع”، وهاجمه المبدعون يومها، فماتت المجلة بين يديه، ولأنه “صنم ” من أصنام “23 يوليو/تموز” مازال موجودًا في المشهد الثقافي، جعلوه الرئيس لبيت الشعر التابع لصندوق التنمية الثقافية.
ومن المضحك في سلوك هذا الشاعر الشيخ، أنه أحيا “عيد الأم ” في مارس/آذار الماضي، بندوة دعا إليها عددًا من الشاعرات، وخصص لنفسه “محاضرة” تكلم فيها عن “المرأة الفرنسية “، وكان من الأوْلَى والأنسب أن يتحدث عن المرأة المصرية، لكنه الحنين الذي استبد بقلب الشاعر الشيخ الذي قضى سنوات من عمره، في باريس، ولم يعد قادرًا على صوغه في قصائده، ففرضه على جمهور “بيت الشعر” في يوم مخصص للأمهات المصريات.
وقبل أن نطوي صفحة هذا الصنم الأكبر، نذكّر القارئ المُحِبَّ للشعر بالمجلد الضخم الذي صدر في القاهرة عن “دار سعاد الصباح” منذ سنوات، محتويًا الدواوين الكاملة للشاعر، ومن ضمنها قصيدة عن “الاتحاد الاشتراكي العربي “، الكيان الورقيّ الذي ابتدعه “عبدالناصر” واعترف فيما بعد بأنه كيان يضم في صفوفه الانتهازيين والباحثين عن المكاسب، وهذا ما جعله ينشئ ما أسماه “طليعة الاشتراكيين” وهو تنظيم سريّ داخل الاتحاد، تحت رعاية “شعراوي جمعة ” وزير الداخلية.
لكن قصيدة ” حجازي ” لم ترَ من هذا كله سوى أنه الاتحاد الذي نهض بالبلاد وحقق المعجزات، وكأنه الحزب الشيوعي الكوبي أو السوفياتي أو الصيني!
ومن المواقف الدالة على وهميّة ” حجازي” أنه عاش على ذكرى معركة بينه وبين العقَّاد، حول الشعر الحر أو المرسل والشعر العمودي التقليدي، وكان العقاد رئيسًا للجنة الشعر في المجلس الأعلى للفنون والآداب، فأحال قصائد “حجازي” إلى لجنة النثر، رفضًا منه للشعر الحر وإنكارًا لما هو غير عموديّ، ودارت الأيام دورتها، وامتد العمر بالشاعر المرفوض من العقاد، ومارس نفس الفعل مع شعراء شبان يكتبون “قصيدة النثر” وكأنّ “المتنبّي ” مات ولم يخلّف خليفةً له غير ” حجازي ” أو كأنه الوصيّ على الشعراء العرب وحارس بوابة الشعر العربيّ!
“الحساسية الجديدة”
ومن الشعر إلى الرواية، نصادف صنمًا كبيرًا، ما زال معبودًا لدى فرقة “البنيوية “، وهي فرقة لها كاهن واحد هو “إدوارالخرَّاط” صاحب شعار “الحساسية الجديدة”، وملخص هذه الحساسية أن الإبداع ليس انعكاسًا للواقع، وبالتالي ليس مطلوبًا من الروائيّ أو القاصّ الالتزام بقضايا مجتمعه، أو حتى الاشتباك معها، باعتبار “النص الأدبي ” مُنزَّلًا على قلب الأديب، أو مُرسَلًا إلى عقله ودماغه من منطقة خارج الواقع الموضوعيّ.
وعلى مستوى الممارسة السياسية، كان “إدوار الخرَّاط”، لصيقًا بالضابط “يوسف السباعي ” وزير الثقافة في عهد السادات والناطق السينمائي والأدبي باسم الضباط الأحرار، وقضى معه سنوات في وظيفة مدير مكتبه في منظمة التضامن الأفروآسيوي، ورغم هذا القرب من الضابط المُقرَّب من سلطة “يوليو/تموز” كان يزعم انتماءً لتنظيم شيوعيّ “تروتسكيّ “.
وخطورة “إدوار الخرَّاط” تكمن في السنوات التي قضاها قبل رحيله، في موقع “رئيس لجنة القصة ” في المجلس الأعلى للثقافة في زمن “جابر عصفور”، وطوال تلك السنوات استطاع أن يتعهَّد مجموعةً من أرباع وأنصاف الموهوبين الذين يزعمون أنهم يكتبون القصص والروايات، وما زال هؤلاء يعيثون في الواقع الثقافي المصري فسادًا، ويروِّجون مقولاته، ويقيمون له الليالي، ويترحَّمون عليه، ويكذبون على الناس بقولهم؛ إنَّ عمَّهم وشيخَ طريقتهم، كان من المُرشَّحين لنيل جائزة نوبل، وهذا كذب بالطبع، رغم أن الراحل تبنَّى كل ما يقربه زُلفى إلى الأميركان والغرب.
وكان من الممكن ألا يحدث هذا كله، لو أن القدر عاجله يوم اغتيال قائده “السباعي ” في قبرص، وكان معه في تلك الرحلة، فهو كما قلت لم يكن يفارقه أبدًا، ومن قُربه منه اصطنع لنفسه مكانة سلطويَّة، وكان يقول في أحاديثه الصحفية “نحن السلطة الثقافية”.
والمشهد الروائيّ المصريّ الراهن، بكل ما فيه من زيف، هو من صنع “إدوار الخراط” وتابعيه وتلاميذه الذين مازالوا يقودون مواقع حسَّاسة في وزارة الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة أو “محميّة الجبلاية ” كما أسميه، فهو يقع في منطقة ” الجبلاية “بالقاهرة، وفيه كهنة “الفساد الثقافي ” وحراس العهود “العصفوريّة الخرَّاطية ” المقدَّسة.
ركاكة وثرثرة
والروائي المُلغِز في المشهد الثقافي المصري ـ في الوقت الراهن ـ هو “يوسف القعيد” الذي رضي عنه الشيوعيون والناصريون وضباط جهاز المباحث العامة في زمن عبدالناصر، وضباط جهاز أمن الدولة في زمن حسني مبارك، وتسلَّل بالتعيين ليصبح عضوًا في مجلس النواب في العصر الحالي، وهو نفسه كان عضوًا في لجنة القصة، وكان من “الحرس الحديديّ ” المحيط بالكاتب الراحل “نجيب محفوظ” مع “جمال الغيطاني “.
وهذا ـ الوهم ـ مسؤولٌ عن وجوده في الخريطة الأدبية المصرية، جهدُه المباحثي بالطبع، وهذا أمر لا يحتاج أدلة، ومما يؤسف له أن “يوسف إدريس” اعترف به كاتبًا، في حوار إذاعي أذاعته “صوت العرب “.
وعلى مسؤوليتي أقول؛ إن “يوسف القعيد” ليس روائيًا، وهو في أفضل حالاته، محرر ثقافيّ متواضع القدرات، ولكن ما حدث هو العكس، اعتبروه روائيًا وحوَّلوا ما كتبه إلى أفلام سينمائية، ومسلسلات تلفزيونية، وكم تألّمت وأنا أقرأ رواياته: “أخبارعزبة المِنيسي “، و”وجع البعاد”، و”لبن العصفور”، وكنت أقرؤُها مضطرًا، وأنا أعمل في القسم الثقافي في إحدى الصحف، واكتشفت هشاشةً فيه وركاكة وثرثرة تخرجه من قائمة الروائيين، لكنّ انتماءه السلطويّ منحه ما لا يستحق.
ومن الكوميديا السوداء قوله في حديث صحفي أدلىَ به لمجلة “الشروق ” الإماراتية منذ سنوات ـ مجيبًا عن سؤال: “كيف ترى جمال عبدالناصر؟” ـ “هو الزعيم الذي بعثته العناية الإلهية للوطن العربي وأفريقيا، هو زعيم عمري، ويغضبني أن يتعرض أحد لعبدالناصر بسوء”. ولسنا في معرض تقييم لتجربة “عبدالناصر” ولكنَّ المُدهش أن القعيد قال كلامه هذا وهو يؤيد “مبارك”، ويعتبره أيضًا “زعيم عمره” الذي حقق الاستقرار والتنمية والديمقراطية!
تجربة روائية متواضعة
والحديث عن ـ القعيد ـ يقودنا بالضرورة للحديث عن توأمه، الراحل ” جمال الغيطاني ” وكان متنفذًا، يرأس تحرير مجلة “أخبار الأدب “، وكان المراسل الحربي لمؤسسة “أخبار اليوم” في حرب أكتوبر/تشرين الأول، وكان شيوعيًا في يوم من الأيام، وكان “إمبراطور” الثقافة في المحيط العربي، له نفوذ في كل العواصم العربية، رغم ضحالة منجزه الإبداعي.
فالرجل عاش ومات ولم يترك رواية تسهُل قراءتها غير “الزَّينى بركات “، وهي منهوبة من “ابن إياس” المؤرخ المملوكي، ومن يرغب في معرفة حجمه الإبداعي أنصحه بقراءة كتاب “في الرواية العربية المعاصرة ” للناقد الراحل “فاروق عبدالقادر”، وصدر عن دار الهلال منذ عشرين عامًا، وفيه كل شيء عن تجربة “الغيطاني” الروائية متواضعة المستوى والقيمة.
وتجربة “بهاء طاهر” نسخة من تجربتَي “القعيد” و “الغيطاني” ملخصها “موهبة متوسطة، والقُرب من السلطة يصنع منك نجمًا مشهورًا”. والعجيب أن الثلاثة طمعوا في وراثة مكانة نجيب محفوظ، ولكن مواهبهم ـ القَزميّة ـ لم تدعم أحلامهم الفادحة.
وفي الختام أقول؛ إنّ الأكاديمي الوحيد الذي امتلك القدرة على فضح “عصابة عصفور” وفروعها في الصحف والجامعات، هو الراحل الدكتور عبدالعزيز حَمُّودة، في كتابه “المرايا المُحدَّبَة” الصادر عن سلسلة عالم المعرفة بدولة الكويت، وفيه فَضْحٌ لهؤلاء، وكَشْفٌ لما ارتكبوه من تخريب متعمَّد وتشويش مقصود وإفساد مُركَّب للواقع الثقافي المصري.
ولكن الفساد الثقافي لم ينتهِ رغم موت “الكهنة”؛ لأنَّ المريدين والتابعين مازالوا يواصلون، مسيرة التخريب والتجريف، حتى بلغ المشهد الأدبي المصري درجة من التردِّي والانحطاط لم يعرف التاريخ لها نظيرًا.