في كتاب صدر عن دار الأمان بالرباط ودار التنوير ببيروت، تناولت الباحثة المغربية حورية الخمليشي موضوع “الكتابة والأجناس”، والانفتاح في الشعر العربي الحديث.
وسعت الباحثة لاستجلاء واحدة من خصوصيات التجارب الرائدة في الحداثة الشعرية بالعالم العربي، والمتمثلة في احتضان القصيدة ظلال وبصمات فنون تعبيرية أخرى وحضارات شعرية مغايرة.
يقول الناقد المغربي محمد مفتاح إن “الشعر مسرح إذا حضر المتلقي وعاين الشاعر المنشد، والشعر شريط إذا شاهده المتلقي”. ويتابع “إن الشعر موسيقى غنائية أمام جمهور متحمس، وهو تشكيل ورسم وهندسة ونحت، حينما يكون مسطورا على الصفحة، أو منقوشا على بناء، أو مرقوما على الثياب والأنسجة”.
التحديث الشعري
وأمام تعدد التجارب الحديثة، تختار الباحثة ثلاثة نماذج لتجارب رائدة في التحديث الشعري العربي لرصد مظاهر هذا النص الشعري المنفتح.
ويتعلق الأمر بالشاعر السوري أدونيس، والبحريني قاسم حداد، والمغربي محمد بنيس. ولعل اختيار هذه النماذج يثير الجدل بشأن مدى تمثيلها الحداثة الشعرية العربية، لكن الخمليشي تربط هذا الاختيار بارتباط تلك الأسماء بصدور بيانات شعرية وثّق كل منهم فيها نظرته إلى المستقبل والقصيدة وأفقها ومسلسل بنائها، شكلا وروحا.
ومن خلال هذه النماذج، يبين الكتاب عمق انفتاح الشعر العربي الحديث على العديد من الفنون، بما فيها الموسيقى والتشكيل والمسرح والسينما وغيرها.
قراءة نصوص
وصحيح أن العلاقة بين الشعر والفن قديمة قدم الفن، إلا أن العصر الراهن جعل الشعر في قلب الفنون جميعا، حسب الباحثة التي تعتبر أن الشعر منبع كل الإنجازات الموسيقية والمسرحية والغنائية.
غير أن هذا الانفتاح على فنون أخرى له قواعده وأساليبه ولغاته التعبيرية الخاصة، مما يطرح على الشعر العربي الحديث تحديا صعبا يتمثل في أزمة قراءة نصوص قابلة لأكثر من قراءة وأكثر من تأويل.
فمتلقي القصيدة الحديثة يحتاج إلى ذوق نقدي وفني مع الوعي بالرؤية المنفتحة للقصيدة، ذلك أن الشعر الحديث -كما تقول الناقدة- “رؤيا وتمرد وتجاوز وكشف عن عالم مجهول في أفق إنساني وجمالي يتحلى بالرقي”.
نقاد ومنظرون
ويذكر أن الباحثة اعتمدت في دراستها على كتاب البيانات الذي صدر عن مجلة “كلمات” البحرينية عام 1993، وقدم له محمد لطفي اليوسفي. ويحتوي الكتاب على “بيان الحداثة” لأدونيس و”بيان الكتابة” لمحمد بنيس (1980)، ثم بيان “موت الكورس” لقاسم حداد وأمين صالح”.
وفي تلك البيانات، قدّم أصحابها أنفسهم كنقاد ومنظرين لقصيدة الآن والمستقبل، وليس كشعراء. وفي النصوص، يشددون على إلغاء الحدود بين الأجناس، والانفتاح على كل الحضارات الشعرية وكل الأجيال الشعرية، ماضيا وحاضرا.
ومشروع الكتابة الجديدة بهذا المعنى يبدأ عند أدونيس ابتداء من كتاب “هذا هو اسمي”، الذي هو هدم للحدود بين الأجناس الشعرية والأجناس الكتابية، وكذلك “مفرد بصيغة الجمع” الذي تتقاطع فيه ألوان وأشكال الكتابة، و”أمس المكان الآن” الذي يكرس اندثار الحدود بين أجناس الكتابة.
اختراق الحدود
وأما القصيدة عند محمد بنيس، فتجدها الباحثة منفتحة على المعارف الكونية والتجارب الثقافية الكبرى قديما وحديثا، ومنفتحة على الفكري والفلسفي والتشكيلي والموسيقي والتاريخي.
وفي “بيان الكورس” لقاسم حداد وأمين صالح دعوة حقيقية لخوض الشعر العربي غمار التجريب المنفتح على الكتابة الجديدة، من حيث تملك حرية الكتابة في اختراق الحدود والجغرافيا بعيدا عن المذاهب والقواعد وخارج التيارات والمدارس.
والكتابة هدم، وفي الهدم اكتشاف، وفق هذا البيان. وبالوقوف عند السمات الشخصية والتكوين الفكري والجمالي لهؤلاء الشعراء النماذج، يتضح أنهم كانوا مؤهلين لتصدر الدعوة إلى تجديد شعري هادم للحدود بين أجناس الكتابة، بفعل اتساع آفاقهم الفكرية ورصانة عدتهم النظرية التي تربط القصيدة برؤية واسعة للذات والعالم، وقوة ثقافتهم البصرية والتشكيلية التي مكنت لهم سبل ربط الكتابة بعوالم الصورة والموسيقى والحركة.
انفتاح الشعر
وأرفقت الباحثة حورية الخمليشي ملحقا بكتابها يقدم ترجمات تشكيلية لنماذج من الأعمال الشعرية الكبرى التي تضمنتها الدراسة ولوحات مستوحاة من قصائد لشعراء عرب وأجانب ولوحات فنية لجماليات التصوير العربي وفنية التجريد في الخط العربي.
وبالرجوع إلى قائمة الإصدارات السابقة والمشاريع البحثية المسطرة لدى الباحثة المغربية حورية الخمليشي، يتضح أن الدراسة الجديدة تندرج ضمن اهتمام نقدي موصول بموضوع انفتاح الشعر العربي الحديث على أجناس الكتابة وفنون التعبير المختلفة.
فقد صدر لها كتاب “الشعر المنثور والتحديث الشعري”، وكذلك كتاب “ترجمة النص العربي وتأويله عند ريجيس بلاشير”، و”الخطاب الشعري العاشق والإبداع”، بينما ينتظر أن يصدر لها لاحقا كتابان عن “الشعر والموسيقى” و”ثقافة الصورة”.