حظي الأدب الغربي بفرص كبيرة للقراءة وإعادة القراءة، وطرح رؤى تجديدية مغايرة للأدب في كل مرة يظهر فيها اتجاه نقدي جديد في الأدب. هذا ما يعطي النص الأدبي الخلاق حياة وبقاءً واستمرارية أكثر من النصوص المغلقة أحادية الاتجاه والقراءات. بينت القراءات النقدية لشكسبير وبلزاك ودوستويفسكي، وغيرهم من الأدباء العالميين قدرة نصوصهم على تمثيل مستويات متعددة من الحياة الإنسانية، تتعلق بالنفس الإنسانية والحياة الاجتماعية والأنظمة السياسية والثقافية والفكرية التي تنعكس في النصوص الأدبية. يعد بلزاك واحداً من النماذج الأدبية التي تُقرأ قراءات تحليلية وتفسيرية متعددة، كقراءة الناقد المجري جورج لوكاتش نصوصه قراءة واقعية ماركسية، على الرغم من أنه لم يشهد فجر بزوغ الواقعية في النقد والأدب، كما ظهرت قراءات تحليلية نفسية لأعماله، وقراءات بنيوية للناقد الفرنسي رولان بارت في كتابه «S/Z».
من جانب آخر، عمل كثير من النقاد والأدباء على مراجعة الأفكار والتصورات الشائعة حول الأدباء، التي وُضعت في إطار فكري محدد، أو في صور نمطية محددة ومغلوطة بسبب بعض الممارسات النقدية التي تكون موجهة لأغراض مشبوهة وغير واضحة للقراء.
إن حالة تلقي كافكا تتباين حسب القراءات المتنوعة، ووفق توجهات النقاد ومدارسهم، وهذا ما توضحه تكتك إكرام في دراسة لافتة بأن الاهتمام النقدي به بدأ بعد وفاته، وأن نصيب كافكا من القراءات النقدية في أوروبا الشرقية كان أقل منه في أوروبا الغربية، من مثل قراءات جاك دريدا الثلاث، دولوز، وحنة أرندت. (كريمة بزيو2019). تبين حنة أرندت في مقالة لها عن كافكا بعنوان: «فرانز كافكا: إعادة تقييم لمناسبة الذكرى العشرين لرحيله» أن أهميته تكمن في أنه أديب ثوري غادر الطرائق الكلاسيكية في الكتابة، وجدد في الأدب الأوروبي، وأسهم في إدخال موضوعات جديدة: «قد يبدو واضحاً أن كاتب القصة فرانز كافكا لم يكن روائياً بالمعنى الكلاسيكي العائد إلى المعنى الذي جعله القرن التاسع عشر للكلمة. فالأسس التي تقوم عليها الرواية الكلاسيكية تكمن في قبول المجتمع كما هو عليه، والإذعان للحياة كما تجري، والاقتناع بأن عظمة القدر تتجاوز الفضائل الإنسانية والعيب البشري». (حنة أرندت 2021).
من جانب آخر، تبين حنة أرندت في مقالتها أن كافكا قدم نوعاً من الحداثة «لم يكن له مثيل في كثافته والتباسه». وتحدد أهمية كافكا في أنه عمل على تجديد اللغة الألمانية عبر «تخليصها من كل أنواع البنى حتى أضحت لديه واضحة وبسيطة، وشبيهة بلهجة كل يوم، الدارجة، وقد تصفت من كل لكنة وإهمال». (حنة أرندت 2021). يبين كونديرا انتشار الكلمات والعبارات الكافكوية وأسماء شخصيات روايات كافكا في الحياة العامة، للتعبير عن المواقف والرؤى العامة للحياة: «كانت الصور والأوضاع، حتى الجمل الدقيقة المستخلصة من روايات كافكا، تؤلف جزءاً من الحياة في براغ». وهذا يحول مجازات واستعارات كافكا من مجال النص الأدبي إلى المجاز الذي نحيا فيه، بتعبير لاكوف، وهذا دليل على مدى مقروئية كافكا، وقدرته الدقيقة على التعبير عن الوجدان الجمعي للشعب التشيكي، ولقرَائه في العالم، على نحو عام.
كافكا
وُلد الكاتب التشيكي الألماني يهودي الأصول، فرانز كافكا، بتاريخ 3 يوليو/تموز 1883 وتُوفى في 3 يونيو/ حزيران 1924، عن عمر واحد وأربعين عاماً، نتيجة مرضِ السل الذي أرهقه في أواخر حياته القصيرة.
كان كافكا ثنائي اللغة، فقد درس الألمانية وأتقنها، وبالطبع اكتسب اللغة التشيكية من محيطه. إلا أن هذه الثنائية جعلته معزولاً عن مجتمعه التشيكي، وعلى الرغم من هذه الثنائيات إلا أنه كان يشعر بالانتماء إلى المجتمعَين والثقافتَين. يصنف أدب كافكا بأنه أدب وجودي، وينتمي إلى تيارات ومذاهب حديثة مثل مذهب الواقعية السحرية، وتميزت شخصياته بأنها شخصيات غرائبية وعجائبية. توضح كريمة بزيو في دراستها أن كافكا أثر بقوة في مسرح اللامعقول، من خلال تصويره للكوابيس والأفكار المتسلطة وأحاسيس القلق، والشعور بالذنب لدى الإنسان. لقد عارض والدا كافكا فكرة خوضه عالم الكتابة، والحق أن طبيعة عمله وقفت عائقاً أمامه، لكنه قاوم هذه الظروف، وأنجز كثيراً من الأعمال التي أصبحت رائدة في وقتنا الحاضر، ويقال إنه أوصى صديقه ماكس برود بعدم نشرها، لكنه نشرها، وهذا ما سنناقشه في هذه القراءة. «المسخ» «المحاكمة» «قبل القانون» «بنات آوى» «أمريكا» «سور الصين العظيم»؛ حيث «روايات كافكا هي التحام بين الحلم والواقع. إنها تجمع في الآن عينه بين النظرة الثاقبة الملقاة على العالم الحديث والتخييل الأكثر جموحاً». (بزيو)
ميلان كونديرا
يعد الروائي التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا أحد أهم الكتاب التشيكيين المؤثرين، كما يُعد أيضاً أحد الكتاب التشيكيين القلائل الذين حققوا اعترافاً عالمياً واسع المدى، هو ومواطنه فرانز كافكا. في بيئته التشيكية المحلية، عُد كونديرا واحداً من أهم الكتاب الأذكياء في بدايات العشرينيات من عمره. كل أعماله الإبداعية وإسهاماته في السياسة العامة، والخطاب الثقافي، حفزت كثيراً من النقاشات الفعالة والمهمة، على حد سواء في الأدب والحياة العامة. في بداية حياته الثقافية كان شيوعياً، على الرغم من أنه، منذ بداياته، عده مناصروه أنه مفكر غير تقليدي، وهذا ما اتضح في مسيرته الحافلة. لقد كانت بداية انطلاقته مرتبطة بهيمنة الشيوعية في التشيك، الأمر الذي يجعل قصته الشخصية تتقاطع مع قصة أي كاتب تشيكي في جيله، يحاول أن يحرر نفسه من نير العقيدة الشيوعية، والبحث في فضاء الشمولية الموجودة في مركز أوروبا.
وُلد ميلان كونديرا في برنو، في أسرة من الطبقة المتوسطة عالية الثقافة، وكان والده موسيقياً وعازفَ بيانو مهماً. من والده تعلم الموسيقى، وطورها أيضاً بالدراسة، بحيث إن التأثيرات الموسيقية تتضح في أعماله. درس في الجامعة الأدب والجماليات، ومن ثم تحول إلى دراسة الأفلام، ومن بعدها قطع دراسته لأسباب سياسية. ينتمي كونديرا إلى جيل من الشبان التشيكيين الذين لم ينتموا إلى ديمقراطية الجمهورية التشيكوسلوفاكية قبل الحرب، بل كانوا متأثرين بالحرب العالمية الثانية، والاحتلال الألماني. على نحو متناقض، غرست التجربة الشمولية الألمانية داخلَهم الرؤية السوداء أو البيضاء للواقع، يعني إما تفاؤلا وإما تشاؤما، وهذا ما دفعهم إلى الانضمام إلى الفكر الشيوعي. كونديرا شخصياً، انضم إلى الفكر التشيكوسلوفاكي الشيوعي عام 1948 بعدها، طُرد من بين صفوف الحزب لمعارضته نشاطاتهم، وكان هذا ملهماً له في روايته «المزحة» عام 1967. كان ميلان كونديرا شخصاً يحافظ على خصوصيته، ويتعامل مع أموره الحياتية وشؤونه الخاصة مثل سر يجب أن يُصان، ويعدها أموراً لا تخص أحداً غيره. كان مأخوذاً بالفكر البنيوي الذي يرى النص جزءاً مستقلاً في حد ذاته، دون الالتفات إلى العوامل الخارجية.
في مقابلة له مع كاتب بريطاني اسمه مك إيوان، قال: نحن نعيد كتابة سيرنا الذاتية على نحو مستمرٍ، ونعطي الأحداث معاني جديدة. ويتابع قائلاً: إن تكتبَ التاريخ وفقَ هذا المفهوم، كما هو مفهوم جورج أورويل، ليس في كل الأحوال أمراً غير إنساني، أي ذاتي. يشعر كونديرا بأن من المستحيل الكتابة عن التاريخ بطريقة موضوعية، مثلما هو صعب أن تكتب سيرة ذاتية موضوعية. وبالمناسبة، هو لا يحب أن يشير إلى سيرته الذاتية، إلى درجة أنه، في موقعه الرسمي، كتب سنة ولادته، وبلده، وإقامته في فرنسا. رفض كونديرا الإشارة إلى أعماله في الخمسينيات والستينيات السابقة، ويرى أن من حقه ألا يذكرَ الأعمال غير الناضجة. كانت أعمال كونديرا الناضجة متأتية نتيجة للتأثر بالفكر المميز للتجربة الأوروبية المركزية المثقلة بخيبات الأمل، مع تأثره بعلم الأساطير لدى مفكري اليسار، مرفقاً بأعمال أوروبا الغربية في الموروث الأدبي المتألق بأعمال ستيرن وسرفانتس وكتاب مركز أوروبا، مثل كافكا وبروتش وهيدغر. وكان يرى: حتى تتطور ثقافة تشيكيا وأدبها، فلا بد أن يكون كل فرد فيها حراً ومتساوياً، ويناقش كل أبناء المجتمع بطريقة حرة. وهذا يتمثل في رؤيته لأدب كافكا، موضحاً علاقته به: «إذا كنت أتمسك بتراث كافكا بمثل هذه الحماسة، وإذا كنت أدافع عنه، كما لو أنه تراثي الشخصي، فليس ذلك لأنني أعتقد بفائدة تقليد ما يستحيل تقليده (واكتشاف الكافكوية مرة أخرى) وإنما بسبب هذا المثل الرائع في الاستقلالية الجذرية للرواية (للشعر الذي هو الرواية). بفضلها تحدث فرانز كافكا عن شرطنا الإنساني «على النحو الذي تجلى فيه في عصرنا» بطريقة لا يستطيع بها أي تفكير سوسيولوجي أو سياسي أن يحدثنا مثله عنه». (كونديرا، فن الرواية).
نقاط الالتقاء والاختلاف بين الرجلين
من الطبيعي أن يقترب كونديرا من تجربة كافكا، ويفهمها بعمق، ويتمثلها كذلك، وأن يعمل على تقييمها ومراجعتها، لأن أدب كافكا، وما يعرف بالكافكوية، يُعد اتجاهاً عالمياً في الأدب. يُعد كافكا باختصار أحد أسلاف كونديرا المحليين، ومن الطبيعي أن يكون هناك أثر ما وتقاطع بين الرجلين، وهذا ما لا يحاول كونديرا إخفاءه، لكنه تأثر واعٍ ومدرك للتجربة السابقة، دون أن يمنع انطلاق كونديرا في تجربة مهمة شكلت ملمحاً مهماً في الرواية الغربية اليوم. يبين مارتن سكوب Martin Škop في دراسته المعنونة بـMilan Kundera and Franz Kafka – How Not to Forget Everydayness أهم نقاط الالتقاء والافتراق بين الرجلين؛ كان كونديرا في بداياته يعتني بالنظام، ويمثله في أعماله، مثل النظام الذي يقدمه كافكا في أعماله، النظام الذي يسير الأفراد حسب إرادته، ويشل الإرادة الإنسانية. كما أن كافكا وكونديرا يلتقيان في رفضهما للأنظمة الشمولية المسبقة، التي تقرر هُوية الفرد وتحددها، ويتمثل هذا في خروج كونديرا من التشيك، هرباً من النظام الشيوعي وسيطرته على مفاصل الدولة. من حيث الرؤية الفنية، نجد أن كافكا لم يكن يريد أن يكتب نهايات لرواياته وقصصه، فلم يُتم أي عمل من أعماله، إذ كتب ثلاثَ روايات وقصصاً قصيرة. أما كونديرا فكان واعياً ومدركاً ما يفعله؛ قرر عدم الإشارة إلى أعماله السابقة وقتما كان في تشيكيا، لعدم نضجها واكتمال رؤيتها الفنية، إضافة إلى هذا، نشر كونديرا أعماله في حياته، وعرف معنى أن تتلقى أعماله الناجحة الاعتراف العالمي بها، في حين نجد أن كافكا، كما يوضح سلافوي جيجيك، لم تنشر أعماله إلا بعد وفاته، وقد قابلها الإعلام بصمت، متغافلاً عنها، وأصبح كل فرد محرجاً بالحديث عنه على نحو ما. (Zizek 1995) يتحدث الكاتب عن الفردانية والحرية في قول ما يريد أن يقوله المرء، وليس له علاقة بما يفسره الآخرون ويقولونه.
بالنظر إلى المدرسة الأدبية التي التزم بها كل من الأديبين، يناقش مارتن سكوب في أن من المفارقات أن كونديرا، بخلاف كافكا الذي يعيش في عالم خيالي، يعيش في العالم الواقعي، ويصف عالماً حقيقياً لا عالماً متخيلاً خارج العالم الفعلي. أما من حيث طبيعة العلاقات الإنسانية، فإن عالم كونديرا ممتلئ بالمشاعر والعواطف والشغف، ففي كثير من الروايات يتضح الحب والشغف لديه، إذ لم تخلُ رواية من رواياته من موضوع عاطفي، وهذا الموضوع العاطفي كان يأتي لهدف معيَن عنده، يكمن في تمثيل العلاقات الإنسانية بأوجهها كافة، كما تناقش إحدى الدراسات.
بالطبع، هذا يشكل الجانب المعكوس من عالم فرانز كافكا، الذي لم تظهر فيه العواطف، سواء في الحياة الشخصية، أم في الأعمال الأدبية على أي نحو كان. وتم استثمار هذا الجانب بكثرة عند رواد التحليل النفسي الفرويدي وأتباعه. كثير من المواقف جرى استدعاؤه لدعم فكرة العجز الكافكوي، مثل فشله في الحب والارتباط، إذ لم تشهد لنا المذكرات أي قصة ارتباط حقيقي مع امرأة أخرى، باستثناء الرسائل التي كانت له مع ميلينيا، وقد تم نشرها دون رغبة منه، كما يوضح كونديرا.
تعد رواية «المسخ» نصاً يستشهد به النقاد كثيراً دلالة على ذي الحالة. أما رواية «أمريكا» فهي مثال آخر يبين أن الموضوع العاطفي فرضته عليه فرضاً الخادمة التي استقبلته، وتالياً تم طرده من ألمانيا إلى أمريكا، التي لم يكن لها أي صورة لنساء عاشقات أو معشوقات. حتى في قصته «أمام القانون» التي يدرسها دريدا، ويخصص معها دراستين أخريين عن أعمال كافكا. في سبيل المثال في دراسته بـLiterature in Secret: An Impossible Filiation، يلتفت دريدا إلى المسكوت عنه في القصة، وهو سبب غياب المرأة في هذا النص، موضحاً أنه «لم تقدم القصة إلا رجالاً: كافكا ووالده يتشاركان اللغة نفسها، مع وجود رجلين غريبين متضامنين». يرى دريدا أن وجود المرأة ربما يسهم في ليونة القانون، لذلك لا نجد صورة للمرأة على نحو عام، ولا حتى للأم. (Derrida, 2007)
يناقش دريدا في أن عالم نص «أمام القانون» لا يرتبط بأي شكل من الأشكال مع نظام الأسرة والحب والارتباط لأنه مصاب برجولته مثلما يوضح في رسالته إلى أبيه، الرسالة التي قرأها كثير من القراء باستثناء والده: «إن المرء ليظن، بكل بساطة، أنك قد سحقتني سحقاً، وأنه لم يبقَ مني شيء». (كافكا، 2017)
كافكا في عينَي كونديرا
من أبرز المحاولات في تصحيح قراءة أدب كافكا، محاولة الكاتب والروائي العالمي التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا، الذي عمل على تقويض الصورة النمطية التي انتشرت بسبب صديق كافكا ماكس برود، الذي عمد إلى توجيه القراء نحو اتجاه واحد من التصورات حول حياة كافكا وأعماله، وهذا ما عمل كونديرا على مراجعته في كتاباته المتنوعة حول كافكا، في كتابيه «فن الرواية» و«الستارة» وأخيراً كتاب «الوصايا المغدورة» حيث أفرد مقالة بعنوان «ظل القديس غارتا… الخصاء» يناقش فيها الصورة النمطية، التي أحاطت مجموعة من القراءات التي فسرت كافكا على نحو مغلوط وغير حقيقي.
يبدأ كونديرا في كشف صورة برود وقيمته الثقافية الحقيقية في المجتمع التشيكي المعاصر، واصفاً إياه بأنه مثقف ألمعي، وأخلاقه الرفيعة مثل الشجاعة والبطولة، ومؤكداً على ارتباطه الحميمي بكافكا. يضع كونديرا المشكلة نُصب عينيه، ويوضح أن برود يختلف عن كافكا في أنه رجل أفكار، ولا يهتم بالشكل الفني، مبيناً أن رواياته التي تصل إلى عشرين رواية هي روايات تقليدية على نحو محزن، ولا تقترب، بأي شكل من الأشكال، من تقنيات الفن الحديث. يبين مارتن سكوب في دراسته، سابقة الذكر، أن كونديرا يكشف أن كتابات ماكس برود لا تعكس كافكا الحقيقي، وجعلتنا ننسى صورة كافكا الحقيقي. كما أنه يحاول أن يكشف انحراف مسار القراءات وتوجيه قراءات أعماله في إطارات محددة، كأن يكون أدب كافكا شيوعياً أو رأسمالياً، قائلاً: «لقد فسرت روايات كافكا بوصفها نقداً للمجتمع الصناعي، وللاستغلال، وللاستغراب، وللأخلاق البورجوازية، وبإيجاز للرأسمالية. لكننا لا نعثر في عالم كافكا على أي شيء تقريباً مما تنطوي عليه الرأسمالية: ليس فيه المال أو سلطته، ولا التجارة، ولا الملكية ولا الملاك، ولا صراع الطبقات. كما أن الكافكوية لا تستجيب أيضاً لتعريف الشمولية. فليس بين البراغيين، من ماكس برود وفرانز فيرفيل وإيغون إفين كيش، إلى جميع الطلائع التي كانت تزعم معرفتها وجهة التاريخ، من يسعد بذكر وجه المستقبل». (كونديرا 1999). هذه الرؤية النقدية الكونديرية الرافضة لتصورات النقاد الآخرين حول كافكا، منبثقة حقيقة من رؤية كونديرا نفسه لطبيعة الفن الروائي، وهذا ما توضحه مقالة «فن الرواية عند ميلان كونديرا» للباحث محمد الكردي، فهو يبين أن كونديرا يعيب الاتجاه التقليدي لدى كتاب عصر النهضة، من أمثال سرفانتيس، وصولاً إلى ستيرن وديدور، في رسم الشخصيات المثالية والخيالية، ويبتعد عن: «التحليلات النفسيَة العميقة أو ما يسمى بـ(تيار الشعور والمونولوج الداخلي) ويفضل بدلاً من ذلك إعمال الفكر والتأمل في الموضوعات الافتراضية أو الاحتمالية، التي يطرحها في صورة قضايا وجودية وفلسفية بالغة الحيوية، وغالباً في صورة عابثة، مازحة». (محمد الكردي).
صحيح أن جميع أعمال كافكا تدور حول الأبوة والبنوة، لكنها لا تحلل وفقَ الاتجاه الفرويدي الأحادي، حيث يُجمع كثير من النقاد على أن أدب كافكا استطاع أن يتوغل في عالم النفس الإنسانية، وأن ما قدمه كافكا لفهم الحياة الإنسانية، وإبراز وظيفة ودور النظام في المجتمع، يجعل منه أدباً عالمياً يتعدى تخوم العقدة الأوديبية بكثير. وهذا ما تحاول حنة أرندت أن تكشفه في قراءتها له، حيث تبين أهمية أدب كافكا المتزايدة، قائلةً: «لقد أراد كافكا أن يقيم عالماً يتوافق مع الاحتياجات البشرية والكرامة الإنسانية، عالماً تحدد فيه أفعال الإنسان نفسه، ويحكم بقوانينه الخاصة القوى الغامضة التي تفيض من أعلى أو أسفل. وإلى هذا، فإن أكثر رغبات كافكا حدة كمنت في أن يكون جزءاً من هذا العالم، دون أن يهتم بأن يكون عبقرياً أو تجسيداً لنوع من أنواع العظمة». (حنة أرندت).