الغربة لعبة زئبقية تتفاعل بين الروح والجسد عبر تضاريس الفضاءات التي تتشكل وفق تداعي اللغة وإيحاءاتها المشتعلة توهجا وانشطارا. وثمة غربة قد تتجاوز الأمكنة والتضاريس لتركب البعد الجمالي للغة الواصفة لمنولوجات الذات العصية عصيان الحبيب المتمنع. وهي بالتأكيد غربة شعرية تسعى إلى التفرد والعزلة في تصالح ممكن الوجود مع مسحة صوفية. وفي هذه الحالة لا يسع المتلقي إلا أن يراهن على مصالحة ثالثة مع الذات/التشظي؛ ويكون بذلك قد دخل عالم الحلول مع الذات الكاتبة والذات المنكتبة، وهي بالطبع عملية انبهارية فاتنة تستدعي قراءة المتن قراءة ميتا/ إبداعية تتنافس وتتفاعل فيها وعبرها ذاتا المبدع والمتلقي ليتشكل هذا التلاقح إلى لذة نصية متكاملة. وتيمة الغربة في الأدب عموما والشعر خصوصا، حقيقة جمالية تعج بها الدواوين مستفزة بذلك وقاحة الوقت وحيرة الذات المبدعة الرافضة لكل مساومة مجانية تتجاوز الجوانية وطهارة الكتابة ما دام المبدع يمثل حقا المسافة بين المقيد والمطلق، والدنس والطهارة، والحرب والسلم…إلخ.
الكتابة عن الغربة، هي البحث أصلا عن التوازن بين الذي كان والكائن الآني، وهو البحث أيضا عن العنعنة الأولى البريئة في حضرة غرغرة تنهش الذاكرة وتبتلع في لحظة قرونا من الإرث الثقافي.
وهكذا تكتسي فضاءات الذكرى عند الشاعر أمجد ناصر بعدا فنيا تقتنص لحظات الغربة عبر استرجاع التفاصيل الدقيقة المتشظية من عمق الذكريات الجميلة، واختزال خبايا أسرار موجعة وجارحة… لحظات في أبهى بساطتها البدوية البريئة… وغربة تشي بعوالم الطبيعة المسخرة لدى الإنسان في حركة دائبة:
الرائحة تعود لتذكر الرائحة
الرائحة ذاتــــها
في المـتــــروك
والمـأهــــول
باللطـيف والهـالة،ص:16
والذكرى غربة عاطفية تعانق الذي كان في أبهى صوره، محاولة تطهير الذات من اليومي الرتيب، ومتوخية الخلوة والعزلة عبر اللغة، وساعية إلى صفاء الطفولة وهي تمارس طقوسها الأولى، ومتحدية إزميل زمن الطفولة/الرعونة؛ تلك التي تقيس الأشياء وتطلق العنان للرغبات الأولى، وربما الأخيرة:
قــريبــة
من الزغب الطالع كالمرمر
من طعنة الآسي
من تتويج زهرة الإغماء
من الذي يعيد الفم إلى الطفولة
ويطلق اللسان حية تسعى ص:16
ولعل الشاعر يطلق العنان للذكرى البعيدة القريبة، لتبوح معلنة حضور ذات تبحث عبر تشظي الصورة الشعرية عن لحظات تستدعي معانقة المبتغى، الذي ظل عصيا لا يطاوع الرغبة الجامحة لذات الشاعر؛ تلك التي تعانق عبر اللغة أحلاما منفلتة زئبقية هاربة.. إذا استسلم -حين حصحصت الحقيقة المثقلة باللاجدوى في عالم خاله الشاعر يستجيب للنداء الشعري العميق:
من
مشى ولم يصل،
وصلى صلاة الغائب؟
مَن
نام
على
حجر
فصار ريش نعام؟ص:49-50
فغربة الذات، ذات الشاعر،إذن، سيكولوجية تتحدد داخل الذات وعبرها لتنفجر اللغة معلنة وبشكل غرائبي رفض الأشياء حين تسقط أقنعة الذكرى؛ تلك التي تحرك الأحداث بوساطة الاستحضار، والاستعادة، وعقلنة المتخيل. هذه الأشياء المطرزة لكينونة الشاعر. وما موت هذه الأشياء وهذه الصور إلا اختلال في طبيعة ومنطق تكوين هذا العالم الذي يحتاج إلى إعادة ترتيب فوضاه؛ ولعمري تلك مهمة معشر الشعراء الذين يحسنون إعادة توازن الأشياء عبر عملية إعادة كتابتها:
أنا لا أنام في السرير مرتين،
وإذا مالت علي الفتاة بخدها الأيسر،
لا أسالها عن اسمها،
وأترك وردة وغمامة في نحرها العاري
ولا أعود. ص:56
هكذا تتشكل بنية الغربة مع الغرابة ليخرج الشاعر من مسحة العادي إلى الخاص، من المقيد إلى المطلق، من البدهي إلى الغرائبي… الشاعر إذن وحده سيد كينونته وكينونة منطق الأشياء. ولعل تفرده وفردانيته هذه تجعلانه يعشق كل غربة تعطي له توازنه الخاص ما دامت الذكرى العصية تقصي فيه عشقه القديم للأحلام الجميلة. وغرابته تتجلى في رفض كل جميل جُبِل عليه الإنسان وأعطاه نكهة الحياة والافتتان بها؛ وفي التشبث بغرائب المواقف الإنسانية:
أريد أن أنظف روحي
من آي الطاعة، وعناقيد المغفرة…
أريد أن
أنظف وجهي
من سيمياء السلالة،
وأغصان شجرة العائلة.ص:66
إلى أن يقول:
أريد أن أمشي وحيدا
وأغلق باب الحظيرة ورائي.ص:67
إن تيمة الغربة، إذن، تأخذ عند الشاعر أمجد ناصر بعدهـا الرمزي والجمـالي لتعانق -في توارد خالص- جوهر فلسفة تطهيرية خالصة؛ ولتتوخى إحراق الموروث الذي لم يعد يرى فيه تعبا يحمله حملا سيزيفيا… وبذلك يعلن الشاعر غربته الصريحة لأن السلالة غذت ورماً يجب استئصاله. والروح حبيسة الجسد المتلاشي؛ تتشكل زنزانةً تكتسيها رطوبة قاتلة.
إن هذه الصورة توحي حتما بالتطهير الذي طالما نادى به أفلاطون. فكل شيء أصبح حقا يدخل في كرونولوجية الأخلاق المبتذلة التي غدت تؤجج روح الشاعر إلى درجة تجعله يسعى إلى معانقة الغربة المفروضة أملا في الخلاص. وهي بكل تأكيد، غربة خلقها رفض الشاعر للواقع المبتذل، مما جعله يمشي مع الأنام وخطوته وحده إلى أن اعتزل عالم التلاشي، وعالم الفوضى ليعانق متعة الغرابة وهو يمارس طقوس الغربة:
فنبحث عن أسمائنا
ولا نتذكرها،
عندما
يا إلهي يحدث كل هذا،
في الليل،
في علبة محكمة الإغلاق
ما الذي تفعله؟ص:72-73
بفطنة الشاعر المهووس بالتفاصيل الدقيقة، يقتفي أمجد ناصر يوميات غربته، تلك التي تنبعث من لغة مرصوصة بعناية من اليومي، شفيفة واضحة، جميلة النبرة، غير مثقلة بالتفاصيل المفرطة، وإن اهتمت بتناظرها وتضاداتها، وهذا ليس بغريب عن شاعر مأسور بفتنة العشق لاصطياد اللقطة الذكية، واللحظة المحتدمة بالتقابل المحرك غير الساكن. عذاباته لا يصبها في كؤوس تفيض هذرا، بل بشعر مهموس، معاتب. وهكذا، ففي قصيدته رعاة العزلة، كما في كثير من مفاصل ديوانه الذي يحمل العنوان نفسه، تمازج واندماج متواصل بين وجود الشعار الجسدي وهو يستفز وقاحة الوقت التي طرزت غربته، وبين معالم الذكريات البعيدة القريبة؛ ويتم هذا التمازج والاندماج بطريقة تحافظ على انخراطهما من أول القصيدة إلى آخرها:
من سيعرف أن في صبح مطير، ومقتضب،
سيلقي نظرة على كل شيء ولا شيء يجتاحه
سوى صورة غائمة لعشر أصابع تتموج بين يديه؟ص:39
إلى أن تصير هذه العزلة المولدة من الذكريات وهي في صراع طبيعي مع الآني فردا في العشيرة، وصورة لازمة لذات الشاعر أنَّى حل وارتحل:
ومنذ زمان الطفولة
وحتى زمان التشرد،
والنوم بعين واحدة،
وأنا أحلم بهذا النبي
الذي أحلم به الآن،
فأعطني
راحتك
لأنام ص: 144-145
إن موهبة التغني بالغربة عند الشاعر، وما يترتب عنها من غرابة الموقف، ليست إيماء، بل سيلا من العواطف تجاه زمن الطفولة الذي ولى وراح كأضغاث أحلام،. وزمن التشرد عبر فضاءات فرضتها جسامة الظروف التي تختزل كل الأشياء إلى عبثية لا تطاق؛ وتجعل الإنسان في حيرة من أمره، وقد تجرده من لذة الحلم الذي هو رأس مال الإنسان الرمزي والذي لا يقدر بثمن. أكيد إذن أن الغربة عند أمجد ناصر، هي منبع وجدول شعره المتدفق الملح، ذلك الذي يصهر في ذاته جميع العناصر التي جمعها في جريانه السريع. وهو بكل تأكيد، لا يضع مجموعة من الصور مقابل مجموعة أخرى لغاية تمتد إلى خارج الصور نفسها. والقوة الموحدة في القصيدة هي غربة أمجد نفسه، الخالق الفعلي لعالمه والغريب المتفرد في حضرة قداسة القصيدة، وإنها هذه الحاسة بالذات، حاسة وجود طاقة خلاقة لا حدود لها، هي المحركة الأساس لجوهر الشعر، وهي وقبل كل شيء تجعله يفاجئ المتلقي ويثيره:
«فهل هذه صور الماضي، يستحضرها ما نسميه الحنين إلى الماضي، المزروع في النفس البشرية؟ إن ما يقدمه لنا الشعر يشبه في غرابته ما يقدمه لنا الحلم، فهل يتمتع الشاعر بغريزة حُلمية تجعله يخترق حجب الحاضر نحو الماضي؟ ولكن هل الخيال غير استعادة الماضي بصورة جديدة؟»[2]:
من مر في شعابك الضيقة
ولم تلطخ ثيابه، أزهار الدحنون؟
.. ..
عجلون
دعني الربضية السـمراء
تفتح بابها المــوحـد
فقد ضاقـت بي الدنيـا
وشقت قلـبي المسـهد
سيـوف الغربة السوداء يا عجلون)ص:15-16)
في هذه الأبيات من قصيدة عجلون مثل جيد على أسلوب طافح بالغربة، حيث نرى الاهتزاز الدقيق، الصادر عن المطلع «فقد ضاقت بي الدنيا/ وشقت قلبي المسهد/ سيوف الغربة السوداء/ يا عجلون»، الذي يوحي بالحضور الفعلي للغربة النابعة من الذكرى كتأثير مخصب للغة الشعرية المتأججة. تأثير داخلي دائم النكوص والإحباط، يزداد غنى في “فقد ضاقت بي الدنيا/ وشقت الغربة السوداء/ يا عجلون” الذي يلمح إلى ارتباط الغربة الذكرى بجسد وروح الشاعر ارتباطا موحدا. وهكذا أصبح الشاعر كما يقول عبده بدوي:
“… ومما لا شك فيه أن العالم سيحتاج أبدا شعراء يرفضون الواقع، والأنظمة، ويرفضون مجرد المرور بالأرض، ومجرد الحلول بالعالم، ذلك لأن الذي يستهويهم بحق هو أن يقفوا في مواجهة العالم، وأن يقولوا كلمة لا… ويكون من الطبيعي، أن يحل بهم الحبس والنفي والكرب. ويكون من الطبيعي، أن يستمر شعر الغرباء لا باعتباره دموعا وحنينا فقط، ولكن باعتباره في المقام الأول إعادة خلق الوطن ـمن الغربةـ كما ينبغي أن يكون عليه الوطن” (3)
ستمضي، إذا
أيها الوطن المختوم
بالشمع الأحمر،
إلى مثواك الأخير
راية ممزقة
ورؤوسا منكسة
بلا حماسة،
أو حزن،
ستمشي الجنازة
وطبل واحد يقرع: (قلـبـي)ص:59
الغربة ليست مجرد استحضار للذكرى ومحاكمة للآني في فلسفة الزمكان؛ بل هي ممارسة طقوس جنونية، وصراعات داخلية بكل ما تحمل من متطلبات ضرورية لمحاولة تحطيم تلك القوة التي تحكم عليك بالبقاء في منْزلة نسميها اندهاشا واستسلاما. بل الغربة عند أمجد ناصر أعمق من ذلك وأكثر غرابة واعتزالا:
قادني قميصي
المقدود من دبر إلى أمي
فسألتني عن امرأة العزيز:
خلعت قميصي فارتجفت:
لكم قمصانكم ولي قميصي.(ص:19-20)
فأي حقيقة جارحة أقوى من حقيقة لا تستطيع إثباتها ما دامت الأشياء تأخذ طابع العبثية..؟! غربة ذات الإنسان ملتصقة بأهدابه الرمزية وهو في حيرة من الحقيقة/ السراب، وكأن تاريخ الخطيئة الملتصقة بالنبي يوسف مع امرأة العزيز “زليخة” التي رمت به في غياهب السجن، تعيد سيرتها مع شاعرنا لتجعله أمام غربة غريبة لا تسعفه فيها إلا الاحتماء بالهروب نحو الذات. ويعلن جهرا أنه يسير مع الجميع لكن خطوته وحيرته وغربته تبقى أبدا متفردة،. وأن لحياته أيضا تفردها وعزلتها وغربتها ما دامت الأشياء غير الأشياء، وما دامت المساحيق هي سيدة هذه الكينونة الخرساء.
إن غربة أمجد ناصر أصيلة الجذور إلى جذع الشجرة… إنها الشعور الخاص الذي يختبره، ولأجل هذا يسعى إلى امتلاك الحرية التي تعينه على معرفة إيقاع الرياح، وسكون الليل وشذاه، ومزاج الأشياء في حركتها وسكناتها:
«كل هذا مؤشر على أن الشعر أكثر من أداة تواصلية عند “أمجد”، فالشعر عنده أداة وغاية، سبيل ومنتهى، ارتحال ومقر… هو ” إقامة في القول، هو السفر على أطياف الذاكرة…”/ “هو يريد من القصيدة أن تكون مفجر الركود والواقع، ولغما لسكونية الخيال، والواقع عنده مرتبط بالتاريخ، والخيال مرتبط بالذاكرة، والشعر مرتبط بالمعرفة»[iv].
__________________________________________________________
الهـوامـش
1 ـ أمجد ناصر: رعاة العزلة، دار منارات للنشر،عمان الأردن، ط1، 1986.
2 ـ حنا عبود، دور الحلم في الإبداع، الموقف الأدبي، مجلة أدبية عن اتحاد كتاب العرب، دمشق، عدد:
234ـ236، تشرين 1-1990، ص:69.
3 ـ عبده بدوي، الغربة المكانية في الشعر العربي، مجلة عالم الفكر، المجلد الخامس عشر، دمشق،
العدد الأول، 1984، ص: 40.
4 ـ فريال جبوري غزول: الشاعر ناقدا، مجلة الكرمل، العدد 17، سنة 1985، ص: 214-219، بتصرف.