وأنا في القاهرة، استعدت عبوري نحو مواقع مي زيادة، أو ما تبقى منها في القاهرة، حتى تلك التي انتفت كلياً أو تحولت إلى محلات ولم يعد لها أي وجود ثقافي، وزيارة المقبرة المارونية حيث دفنت مي زيادة بصمت وبلا مودعين، وبنداءات خافتة، أمكنة لم تبق إلا ظلالها اليوم. من بين الأماكن المندثرة، فضاء «صالون مي» الثقافي الذي أسهم بقوة في تنشيط مدينة القاهرة وإعطائها معنى حياً، فكان مكاناً جميلاً للحوارات والنقاشات.
كانت مي زيادة في مقدمة نساء فترتها للتعبير عن الرغبة في زمن آخر، أكثر عدلاً، وهذا راجع إلى نشأتها في الأوساط المارونية ذات الثقافة الأوربية والعربية المتنورة. ساعدها في ذلك إتقانها لعدة لغات أجنبية، ولقربها من أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد الذي كان من أهم الذين تأثرت بهم مي، وتتلمذت على أفكارهم، الأمر الذي دفعها إلى تجسيد مشروع الصالون والخروج من دائرة الورق إلى التحقق. فكانت بداية انعقاده في شهر ماي 1913م، قبل أن يعلن عن انطلاقته رسمياً في 24 أبريل 1913م عندما وقفت لأول مرة خطيبة في بهو الجامعة المصرية لإلقاء كلمة الشاعر جبران خليل جبران نيابة عنه في تكريم الشاعر خليل مطران، لتعذر حضوره من أمريكا. في نهاية كلمتها المؤثرة، أعلنت رسمياً عن ميلاد صالونها الأدبي في بيتها كل يوم ثلاثاء، في بيتها في شارع عدلي (المغربي) بوسط القاهرة، قبل أن يتم نقله إلى أحد مقرات جريدة الأهرام، ويستمر في الحضور الثقافي حتى نهاية الثلاثينيات. يقول عنه عباس محمود العقاد: «فقد وهبت مي ملكة الحديث وهي طلاوة ورشاقة وجلاء، ووهبت ما هو أدل على القدرة من ملكة الحديث وهي ملكة التوجيه وإدارة الحديث بين مجلس المختلفين في الرأي والمزاج والثقافة والمقال، فإذا دار الحديث بينهما جعلته مي على سنة المساواة والكرامة، وأفسحت المجال للرأي القائل الذي ينقضه أو يهدمه» (2 وداد سكاكيني، مي زيادة في حياتها وآثارها، ص:129).
استقطب الصالون، في وقت وجيز، نخبة تلك الفترة الثقافية، مثل أحمد لطفي السيد، مصطفى عبد الرزاق، إسماعيل صبري، رشيد رضا، منصور فهمي، ولي الدين يكن، أحمد زكي، والأمير مصطفى الشهابي، يعقوب صروف، شلبي شميل، سلامة موسى، أحمد شوقي، خليل مطران، إبراهيم المازني، عباس محمود العقاد، أنطون الجميل، طه حسين، داوود بركات، زكي مبارك، عبد الرحمان شكر، وغيرهم. وكان من أهداف صالونها استعادة اللغة العربية ومنحها فرص التحديث، والتقريب بين العامية والفصحى دون المس بنقاء الثانية وعظمتها. مناقشة الكتب المهمة خلقت جسوراً حقيقية بين الفكرين الشرقي والغربي بالاستناد إلى النقاشات مع الآخر والترجمة. في هذا السياق، زارتها شخصية ثقافية كبيرة، القاص الأمريكي المعروف هنري جيمس، الذي أعجب بصالونها وبتفتحه.
لكن أكثر الضيوف حباً للمكان هو مصطفى صادق الرافعي، الذي ربطته بمي قصة حب تستحق الاستعادة.
لم يكن هذا الرجل شخصية عادية ثقافياً وروحياً، إذ أصبح الصالون فرصته ليس للنقاش فحسب، ولكن لرؤية مي التي أصبحت تعني له كل شيء؛ فقد أصبحت مرجعه العاطفي العميق. وعلى الرغم من فارق السن، فقد أحبها بجنون لدرجة الافتتان بها، حتى أصبح يراها في كل مكان. هجر بسببها زوجته، وابتعد عن أولاده الكثيرين، وظل يردد أنها مجرد حالة هوى لا تمس بوضعه الاجتماعي، لكنه بدأ يميل نحو جنون عشقي غير معلن. ولولا اللغة التي أنقذته وتخييله الحي، لانتهى به الأمر إلى أحد مستشفيات الأمراض العقلية بمصر. لنتخيل رجلاً عاقلاً متديناً، ومفكراً إسلامياً، يقطع المسافات الطويلة بين طنطا والقاهرة في القطارات البخارية الثقيلة متحملاً متاعب الرحلة والمحطات الباردة صباح كل يوم ثلاثاء، لا لشيء سوى ليستمع إلى ما تقوله مي زيادة والمساهمة الفعلية في الصالون، ولا هم له من حضور صالونها إلا الاستئناس بحضورها والكتابة عنها. هل الدافع ثقافي فقط يتعلق بالنقاشات المعاصرة والحية التي كانت له فيها وجهة نظر حادة في العلاقة مع الغرب؟ كان أكبر من ذلك كله. في كل جلسة من جلسات يوم الثلاثاء، لم يكن قادراً على تفادي مي زيادة الأنثى الذكية والحاضرة دوماً بثقافتها ويقينها في نفسها. الممعن في حياة صادق الرافعي يلمس أشياء أخرى تتعلق بطبيعة حبه لمي. لم يكن خياره سهلاً؛ فقد كانت مي امرأة شاقة بكل المقاييس، لأن منافسيه كث، ويوصلون ما يريدونه لمي بسهولة، ويسمعون قلبها. العقاد، خليل مطران، حافظ إبراهيم، طه حسين، لطفي السيد، عبد القادر المازني، داود بركات، انطوان الجميل، سلامة موسى، وإسماعيل صبري باشا وغيرهم، بينما كان عليه هو خوض حرب ضروس لم يكن قادراً عليها في الجلسات بسبب ثقل سمعه. فقد جعل من الصالون مساحته لإقناع مي بقوته الثقافية وإمالة قلبه.
تطور هذا الحب بالتواتر المطرد إلى أن وصل تقريباً إلى حالة صعبة من الناحية النفسية، أصبح يقتفي خطاها ويحضر ندواتها كلها، صار حبه معضلة حقيقية. كانت مي امرأة حادة الذكاء، تشعر بكل شيء، وكان عليها تسيير ذلك دون المس برجل يكفي أنه كان يقضي يوم الثلاثاء في القطارات حتى يصل إلى منتداها. لهذا، اكتسى يوم الثلاثاء طابع القداسة بالنسبة للرافعي. لكن مع الزمن واستفحال حالته التي أخرجته من السرية على العلن، أصبح الأمر مقلقاً بالنسبة لمي. كان ينتقل مباشرة من محطة القطار إلى بيتها. أول ما يصل، وآخر من يغادر. وكان عليها أن تراعي وضع سمعه المحدود جداً. لنا أن نتخيل كيف كان وضعه النفسي داخل قاعة، بحيث عليه أن يمر عبر غيره ليعرف ما كان يقال. وكان يجد دائماً من يكتب له ما يغيب عن سمعه. الشيء المؤكد الوحيد أنه كان من أصدق عشاق مي، وإلا لما استمر كل ذلك الوقت متحملاً صعوبة التواصل. رهانه في ذلك الكتابة المستمرة عن حالته الوجدانية التي اتسعت كثيراً حتى أصبحت «مزعجة» لمي، إذ كانت تضعها في حالة إحراج. حتى شعره المثقل باللغة الكلاسيكية انتقل نحو غنائية جميلة، تكسوها حالة من الدرامية بسبب جفاء الحبيب (الذي لم يكن حبيباً). كتب شعراً كثيراً ودواوين في مي لدرجة أنه تخيلها تبادله تلك العاطفة حتى يستمر في المحافظة على لمعة الحب، مما اضطر مي أن تسر لبعض أصدقائها أنه لا علاقة لها بالرافعي، وأنها تقدر عواطفه النبيلة والسخية والإنسانية، بل طلبت من بعضهم التوسط لإيقاف «حملته العشقية» المسيئة لها. بهذا «الجنون الأدبي»، شكّل مصطفى صادق الرافعي حالة متفردة في الثقافة العربية؛ فقد أوغل في حب مي حتى أصبح يتخيلها في كل مكان. وكان من نتائج هذا الحب المستحيل، قصائد ودواوين كثيرة مجد فيها مي: «السحاب الأحمر»، «أوراق الورد»، «رسائل الأحزان». وخلق لحظات عشقية وهمية بينهما لدرجة أن صدق بعض المغرضين ذلك وأشاعوا أخباراً لا أساس لها، بينما أنكرت مي وجود أية علاقة من أي نوع بينهما. حتى الصداقة بقيت محدودة وأفسدتها جزئياً مبالغاته، إذ جعل من أحاسيسه الجياشة قصته كلها. وآمن في أعماقه أنها هي أيضاً تحبه. حالة نادرة في نمط الحب من طرف واحد. ولما وصلتها مبالغاته العشقية، بعثت إليه طالبة منه أن يكف عن أوهامه والإساءة لها في كل مناسبة، فهو كان يختلق الأحاديث والغراميات وحوارات، كلها من خياله. وفي مرة من المرات، لامته عما كان يصدر منه، وأهملته في الصالون بينما اهتمت بغيره، فأقسم أن يوقف زياراته للصالون نهائياً حتى الموت، وأن لعنته ستلحقها. فتوقف عن قول الشعر العاطفي، وخرج من دائرة رواد صالون مي. حتى عندما حاول بعض رواد الصالون التقريب بينهما، رفض، بينما اعتبرت مي أنه لا مسؤولية لها فيما حدث، وأن عليه أن يزور محللاً نفسانياً، نفس «اللعنة» انتهت إليها مي بسبب حبها لابن عمها جوزيف زيادة، الذي خذلها، لتجد نفسها في «العصفورية».