هذه «يتيمة» في عائلة القصيد على الرغم من كثرة آبائها الذين ادعوا أبوتهم لها. لكننا يحلو لنا أن نبقيها يتيمة ليس لأننا حتى الآن غير متيقنين من نسبتها إلى شاعرها الأشهر من بين هؤلاء الآباء وحسب، بل أيضا انسياقا وراء فرادتها الشعرية. فلتبق اليتيمة يتيمة إذن لتمييزها على الأقل عن غيرها من القصائد التي لم يشتهر أصحابها أو آباؤها بغيرها في تاريخ الشعر العربي، فليس هذا سبب تسميتها كما نرى، ولا دليل أهميتها.
مؤرخو الأدب ذكروا أن أربعين شاعرا أقسم كل منهم على أنه شاعر هذه القصيدة التي تبدأ بـ «هل بالطلول لسائلٍ ردُّ/ أم هل لها بتكلمٍ عهدُ».. لكنها انتهت أخيرا إلى ان تكون لدوقلة المنبجي.. ليس على وجه اليقين فلا يقين هنا، ولكن على سبيل الظن المبني على قرائن وأدلة مستلة من كتب التاريخ ومرويات أهل الأدب وحفاظ الشعر.
فأي يتيمة شعرية تلك التي توزعت أبياتها بين قبائل الشعراء ومذاهب الشعر طويلا قبل أن تستقر، ولو مؤقتا لتكون المجد الأشهر، وربما الأوحد لشاعر غاب ذكره وغابت أخباره وقصائده أيضا وبقيت قصيدته تلك وحدها؟
قرأت اليتيمة لأول مرة في كتاب الشاعر الزميل فاروق شوشة الشهير «أحلى عشرين قصيدة حب في الشعر العربي» الصادر في بداية سبعينيات القرن العشرين، وسحرتني تلك القصيدة سحرا جعلني أتغاضى عن حساسيتي المبكرة تجاه تلك القصائد التي تحتفي بالجسد على حساب الوجدان والروح. وكان من تقديم شوشة الشاعري لها وشرحه السهل الممتنع لما غمض من مفرداتها ما أضاف إليها تلك النكهة التي جعلتها تنفذ نحو الذائقة بيسر، وتستقر في وجداني قبل أن أبدأ في التنقيب عن أسرارها في مهمة كانت تبدأ بالقصيدة وتنتهي إليها دائما فأؤجل المهمة وأستغرق في المتعة الخالصة..ويمضي بي زمن الشعر نحو غاياته اللذيذة وأفشل في ما كنت أرومه من بحث وتنقيب.
على أن قراءاتي المتعددة، وعلى مدى سنوات طويلة للقصيدة، خففت من وطأة الغموض الأول، وقللت من أهمية نسبتها لشاعر بعينه. إنها قصيدة جميلة كتبها شاعر حقيقي وموهوب.. وكفى.
واذا كان أربعون شاعرا عربيا قد تنازعوا فعلا مجد اليتيمة التي وردت في كتب التاريخ بأسماء أخرى أقل شهرة من اسمها الدال على وحدتها وتفردها، وعلى نسبها المجهول أيضا، ففي النهاية استقر بها الأمر لتسجل باسم دوقلة المنبجي.
أما دوقلة المنبجي هذا الذي فاز بقصب السبق إلى قمة اليتيمة فهو أبو الفضل يحيى بن نزار بن سعيد المنبجي، وكما يدل لقبه فهو شاعر من أهل منبج في بلاد الشام، وقد ولد بها قبل أن ينتقل إلى دمشق لاحقا فاتصل بحاكمها آنذاك نور الدين محمود بن زنكي ومدحه بقصائد أجاد فيها، لكنه لم يستقر طويلا، فقد كانت وجهته الأخيرة بغداد التي توطنها ويبدو أنه كتب قصيدته الشهيرة تلك فيها، وبقي فيها إلى أن توفي.
وهذا يتناسب وتاريخ القصيدة المعروفة منذ القرن الثالث الهجري عند علماء الشعر، وأول من ذهب إلى أنها لدوقلة هو ثعلب المتوفى سنة 291هـ، مع ان كثيرين ذكروا أسماء أكثر شهرة من دوقلة هذا بكثير يمكن أن تدرج القصيدة في سياقهم الشعري ومنهم أبو نواس وذو الرمة وعلي بن جبلة. على أن وجود قصائد أخرى كثيرة لهؤلاء أضعف من احتمال نسبتها إليهم على اعتبار أنها «يتيمة» وهذا يعني أنها لابد أن تكون وحيدة شاعرها، أو أن شاعرها لم يشتهر بغيرها وهذا ما ينطبق على دوقلة، وبالتالي فهو الأقرب لأن يكون صاحبها فعلا.
وإذا كنا لسنا متأكدين تماما من نسبتها إليه فنحن على الأقل لا نحتاج لتلك المعلومة بقدر ما نحتاج لقراءة تلك القصيدة. والقراءة توحي بأن الشاعر أرادها دليلا شعريا حيا على المرأة الحلم بالنسبة له، وربما لكل الرجال في ذلك العصر، أو كل عصر.. فأخذ ينحت امرأته تلك كما فعل بجماليون في الأسطورة الخالدة. حيث أمسك بأزميل الموهبة الشعرية لينحت من جبال الكلمات المرأة / القصيدة، فتكشفت لنا شيئا فشيئا من أعلى إلى أسفل أي من قمة رأسها الى أخمص قدميها مرورا بكل خلجة من خلجات الجسد وأعضائها الظاهرة والخفية.. فكانت نموذجا للجمال العربي التقليدي في أقصى احتمالاته الاستثائية.
وهكذا انساب الشاعر في رحلته الطويلة بيتا وراء بيت من القصيدة، وعضوا وراء عضو في الجسد الأنثوي الذي لا يكاد يكون حقيقيا في كل هذا الاكتمال القريب الى الكمال..ليقدم في النهاية تحفته الخالدة عبر قافيته الغنائية الطافحة بالفرح والتلذذ، ثم ينفخ فيها من روحه الشاعرة معاني أخرى وارفة بالوجد والتلهف والشوق والانتظار والرجاء ما ينتشلها من الجمود الحسي والشكل الجسدي البارد الى حرارة العاطفة الإنسانية التي شكلت هيئتها النهائية.
يكمن سحر القصيدة في طرافة فكرتها العامة، وفي ذلك الجلد الصبور في استقصاء كل مكامن الجمال في المرأة التي يصفها في هذه القصيدة، والتي لا يمكن أن تكون امرأة حقيقية حتى وهو يسميها باسم يبدو حقيقيا وما هو بحقيقي..فهي دعد، وهي هند، ولكنها ليست بدعد ولا هند، بل امرأة متخيلة وحلم يكاد يكون مستحيلا، وربما لهذا اختار أن يسميها بتلك الاسماء الشائعة في مجتمع الشعر العربي للنساء، وكأنه الرمز لكل امرأة مشتهاة.
والغريب أن «اليتيمة» كانت دائما عرضة للإضافات من قبل كثيرين ممن نقلوها شفاهيا وكتابيا عبر العصور، فكانت تزيد أبياتها هنا وتنقص هناك، ولم يتسن لأحد التأكد من عدد أبياتها الحقيقي في ظل تلك الإضافات التي غالبا ما كان أصحابها كما يبدو يزايدون على جرأة شاعرها الأصلي فيزيدون عليها أبياتا قد لا تخرج من سياقها العام شكلا، ولكنها تتنافر مع القيم الوجدانية التي تخلص إليها «اليتيمة».