يشير المؤلف د. جاسم حسين الخالدي في مقدمة كتابة الموسوم “المثال النقدي” إلى أن الكتابة عن الناقد العراقي فاضل ثامر تعني الحديث عن قطب مهم في الحركة النقدية، ويعزو ذلك إلى مواكبته للنتاج الأدبي شعراً وسرداً منذ ستينيات القرن الماضي وحتى الآن، ثم يتطرق إلى مستهل مشواره عندما أصدر كتابا بالاشتراك مع الناقد ياسين النصير عام 1971 حمل عنوان “قصص عراقية معاصرة” وفي العام 1975 أصدر كتابه الثاني “معالم جديدة في أدبنا المعاصر” فكان جواز سفره إلى المشهد النقدي العراقي والعربي.
في ما يتعلق بالتجارب التي تتبعها يجده قد رصد شعر الحداثة الذي عبر عنه السياب ونازك الملائكة والبياتي وبلند الحيدري، والتجارب الموازية لهذه الاسماء مثل “سعدي يوسف ورشدي العامل ويوسف الصائغ. ويرى المؤلف ملامح رؤيته بدأت تتضح مع ظهور تجارب الستينين وكأن حضوره كان موازيا لهذا الجيل، خاصة بعد ان شاعت الاتجاهات النقدية بنوعيها: السياقي والنصي. موضحا بأن تجربته قد عبَّرت عن فهم واضح للمصطلح والمنهج النقدي بالشكل الذي جعله يلامس الظاهرة النقدية بوعي عميق وهذا ما كشفه كتاباه “اللغة الثانية”، و”المبنى الميتا سردي”.
الفصل الأول من الكتاب تناول علاقة فاضل ثامر بالأجيال الشعرية، فكان المبحث الأول عن جيل الرواد (الخمسينيون) فيلفت انتباهنا إلى ان الكاتب لم يتناول تجربة كبيرة تمثلت بالسياب إلاَّ في وقت متأخر، مع ان النقاد العرب انشغلوا منذ وقت مبكر بظاهرة اسمها السياب، واهتمامه المتأخر جاء من باب استذكار التجربة الشعرية بعد مرور ستة عقود على تاريخ الحداثة الشعرية، وذلك في كتابه الذي صدر عام 2007 والمعنون “شعر الحداثة من بنية التماسك إلى فضاء التشظي”. وقد طرح فيه أسئلة عديدة ثم أجاب عليها، منها: هل ان ريادة السياب الحداثية كانت هامشية وعرضية، وانه لم يمس إلاَّ القشور الخارجية للقصيدة العربية؟ وهل أصبحت تجربته في عداد التاريخ بعد موجات التجريب الشعرية التي أنتجت ضروبا تعبيرية وكتابية مغايرة؟ ويحاول الإجابة فيقول: أولا الإجابة ليست سهلة، ولابد من الاعتراف بأن السياب ما زال حيا بيننا، وما يزال صوته مؤثرا وبانيا، وان دوره التحديثي والريادي كان اساسيا وكبيرا، وربما يفوق دور الشاعرة نازك الملائكة، خاصة أن متنه الشعري بقي مرجعية أساسية لكل التنويعات الشعرية.
المبحث الثاني جاء بعنوان “الجيل الستيني” ويؤكد المؤلف في مقدمته على أن الناقد فاضل ثامر قد انشغل كثيرا بهذا الجيل، فيعود لأجل ذلك إلى دراسة مبكرة نشرها ثامر أواخر عام 1970 تحت عنوان “واقع الشعر الستيني في العراق” بيَّن فيها حقيقة هذه الحركة الشعرية وأهميتها الفنية، كما حاول ان يَتَثَبَّتَ من مصطلح “الشعر الستيني” الذي يعني لدى غيره ما اقتصر على الاتجاهات الشعرية الجديدة التي مثلتها كتابات حميد سعيد، طراد الكبيسي، سامي مهدي، عبد الأمير معلّة، محسن اطيمش، حميد الخاقاني، فوزي كريم، خالد علي مصطفى، ياسين طه حافظ، حسب الشيخ جعفر، مالك المطلبي، صادق الصائغ، وبعض أشعار محمد سعيد الصكار، والأهم في هذا الموضوع أن ثامر لم يكن يقصد بمصطلح “الشعر الستيني”ى كل ما كتب في الستينات، لأنه قد استبعد عشرات الاصوات الشعرية التي بقيت تحت ظلال تجربة الرواد. ولذلك هو يجد في ذلك إجحافا لأصوات ظهرت في الستينات وكتبت قصائد كبيرة، ومن هنا فهو لا يتفق مع الناقد طرَّاد الكبيسي في استعماله مصطلح “شعر الشباب في العراق” ولا مع سامي مهدي في استعمال مصطلح “الحركة الشعرية الجديدة” لكنه يتفق مع الناقد عبد الجبار عباس في استعمال مصطلح “الحركة الشعرية الجديدة” وبنفس الوقت يجده يقترح مصطلح “الأجيال الشعرية”. ثم يستعرض لنا الكتاب قراءة فاضل ثامر النقدية لأبرز تجارب الجيل الستيني مثل سامي مهدي وفوزي كريم وفاضل العزاوي وحسب الشيخ جعفر، كما يؤشر المؤلف جاسم الخالدي على أن الناقد ثامر دائما ما يستعمل في خطابه النقدي مصطلح “حركة الحداثة الشعرية” في الخمسينيات والستينيات قاصدا بذلك وجود سمات فنية وأسلوبية وفكرية تجمع الشعراء المغايرين.
المبحث الثالث تناول النتاج الشعري ما بعد الستينات، والملاحظة التي ترد هنا أن فاضل ثامر لم يستخدم كلمة “جِيل” في حديثه عن الشعراء الذين ظهروا في السبعينيات أو الثمانينيات، لأنه وجَد لونَاً من التداخل بين تجربتي شعراء الفترتين الزمنيتين، ولأنَّ معظم شعراء السبعينيين قد نضجت تجاربهم في الثمانينيات، كما يرى بأنهم حاولوا خلق بلاغة شعرية جديدة عن طريق تفجير طاقة اللغة التعبيرية وتوليد الصور والمعاني واستثمار خزين المخيلة الشعرية بكل عنفوانها وبدائيتها. لكن الخالدي يرى أن الناقد ثامر قد خرج بحكم عام شمل به جميع الشعراء عندما عَاب عليهم مشروعهم الذي لم يستطيعوا أن يقيموا صرحه على أسس تغاير المنجز الشعري الخمسيني أو الستيني. على سبيل المثال هو يعيب على تجربة الشاعرين كمال سبتي واحمد عبد الحسين التي تنتمي إلى قصيدة النثر افتقارها إلى التوتر الداخلي والوهج المدهش. بينما يأخذ على تجربة الشاعرين خالد جابر يوسف ويونس ناصر عبود التي تنتمي إلى قصيدة الميل إلى الشعر الحر التطريبي المفرط الذي نأى بها عن تجربة الرواد وتجربة الشعر الخمسيني والستيني. وفي ما يتعلق بالشعراء الذين ظهروا في التسعينيات يرى المؤلف أن الناقد فاضل ثامر لم يتوقف كثيرا عندهم، باستثناء دراسة خص بها تجربة الشاعر عارف السَّاعدي، ووجَد لدى ثامر ملاحظة تتعلق بالتسعينيين يؤشر فيها محاولتهم إعادة إنتاج الصور العبثية والسريالية وتوسلهم بالشكل الخارجي عبر العودة لبعض الأشكال الهندسية والرموز الصورية والتشكيلية.
الفصل الثاني كان حول قضايا نقدية توقف عندها فاضل ثامر، بعضها يتعلق بظواهر شعرية وأخرى نقدية، منها: الغموض، التمفصل والقناع، القصيدة الدرامية، قصيدة المشهد الشعري، قصيدة النثر.
امَّا المبحث الخامس فقد جاء تحت عنوان “في تجنيس القصيدة” حيث تناول بالبحث والاستقصاء مفهوم قصيدة “النَّص” عند فاضل ثامر وهو يتحدث عن الشعر الثمانيني في العراق والشعراء الذين يمثلونه مثل فضل خلف جبر، خالد جابر يوسف، ليث الصندوق، علي عبد الأمير، باسم المرعبي. ومن وجهة نظره فإن قصيدة “النَّص” هي الأداة الأساسية المفضلة لدى شعراء هذه المجموعة، وهي لون من الكتابة المفتوحة التي لا تتقيد بالحدود المعروفة للأجناس الأدبية، وتطمح إلى تقديم عمل تذوب فيه الفواصل بين مختلف الأجناس الأدبية. ولذلك يجده مصطلحا مبهما وغير دقيق لأنه لا يقدم شِعراً انَّما يقدِّم مجموعة أجناس في طبق واحد، وأن الغموض الذي يتلبَّس نصوصه على صعيد البنية والمضمون والرؤيا، ليس وحده مانعا لتلقي النصوص، فالإشكال النقدي ينتقل إلى تسمية النَّص، لأن كل الأعمال الشعرية أو النثرية هي نصوص أيضا. إضافة إلى ذلك يبين لنا الكِتاب محاولة الناقد فاضل ثامر التمييز بين “النَّص والخطاب” مستفيدا من رؤى الناقد سعيد يقطين الذي وجد ثمة ما يميز بينهما. أيضا سنقف أمام محاولاته لتفكيك الالتباس حول مفهوم النَّص حيث يتوسع في دائرة بحثه ليقف على مفهوم النَّص عند “التداوليين” الذين يؤكدون على الوظائف الاجتماعية للنص، وعند “البنيويين” عبر ممثلها لوسيان غولدمان الذي يؤكد على الاصول المرجعية للنص ذاته. ليصل بنا المؤلف إلى النتائج التي خلص إليها فاضل ثامر حول مفهوم النص، منها: ان العناية بالنَّص تنطلق من مظاهر عِدّة في مقدمتها دراسة النص في علاقاته بالمفاهيم المتاخمة والمتشابهة، أو دراسة الترابط بين مفهوم النص وعلاقته بالعناصر التواصلية، أو علاقته بالتناص والتأويل والتفسير.
أما الفصل الثالث فقد تناول فيه الخالدي أبرز المواقف النقدية في مشروع فاضل ثامر حول عدد من القضايا المتعلقة بالكتابة الشعرية والثقافية، مثل الموقف من الريادة الشعرية، فمن وجهة نظره يجد الريادة ليست زمنية، انما تتوزع مشاربها حسب اشتغالات الشاعر الفنية والتكنيكات التي يستعملها. كذلك يتناول موقفه من موضوعة قصيدة النثر العربية حيث يأخذ عليها انها لم تستطع ان تقدم أنموذجا حداثيا على غرار قصيدة “الشعر الحر” وهذا ما عبّر عنه في دراسته “اشكالية الايقاع بين الشعر وقصيدة النثر – الحضور والغياب” التي نشرها في كتابه “الصوت الآخر”. والموقف الآخر يتعلق بمصطلح “الحداثة” فبعد ان عاين ثامر جذوره في الثقافة الغربية خرج ليقول إن مصطلح “حديث” هو بالأصل مصطلح تاريخي زمني، مأخوذ من تصنيف المراحل التاريخية المختلفة، لكنه تخلَّص من دلالته الزمنية ليشير إلى نزعته نحو تجديد بنية النص الفني والأدبي تجديدا شاملا على مستوى الرؤيا والتقنية.
المبحث الرابع والأخير من الفصل الثالث تناول قضية “التجييل” التي طالما تداولها النقاد في العراق حتى انها تحولت إلى ما يشبه حلقة مغلقة، كما يشير إلى ذلك الناقد د. حاتم الصكر، وهي بكل الأحوال ليست ظاهرة عراقية بل ظاهرة عربية مثلما يشخصها الشاعر سامي مهدي، وفي وسع المرء أن يتقصاها ويحدد شعراءها في سوريا ولبنان ومصر وتونس والمغرب والبحرين. ويورد الكتاب رأي ثامر حول هذه المسألة في دراسته “واقع الشعر الستيني في العراق” حيث وسم مصطلح الشعر الستيني بأنه فضفاض بعد ان ميَّز بينه وبين شعر الخمسينيات الذي اعتمد على الصورة الايحائية التي تخلق مناخا شعريا من دون ان تسقط في مباشرة المخاطبة المنطقية أو الإثارة الحماسية للانفعال المترسب في الأعماق. وفي مكان آخر يقول ثامر إن إشاعة هذا المصطلح قد غيَّب جمعا كبيرا من الشعراء، ووصف ذلك بالتجاوز اللامبرر.