أولا: النوع والموضوع
تبدو رواية : “علي بابا والأربعون حبيبة” لعز الدين جلاوجي، للوهلة الأولى، رواية عجائبية، اتباعية، أو تطابقية، مع نص سردي مرجعي، هو ألف ليلة وليلة، المصدر الأول لشخصية وقصص علي بابا. أما من حيث المضمون فنجد أنفسنا أمام قصة علي بابا كشخصية بيكاريسكية (شطارية)، أو بالمصطلح العربي (صعلوكية)، حيث تقدم الرواية بطلها علي بابا كصعلوك يقود فريقاً من أتباعه من الفرسان، حيث خرجوا عن قيم المجتمع، والتحقوا بالغابات والكهوف وأسسوا نظامهم الداخلي الخاص، سمّوه ميثاق الصعلكة. [قال أحد الرفاق:
– لقد بذلنا جهداً كبيراً، وصبرنا زمناً، فهل تريدنا أن نعود بخفي حنين؟
التفت إليه علي بابا ورد بصرامة:
– لست أنا من يريد، لكن ميثاق الصعلكة هو من أراد.
كان علي بابا متأثراً جداً منذ يفاعته بقصص الشعراء الصعاليك، وكان يعشق عروة ابن الورد في فروسيته وشعره وأخلاقه، وما كاد يؤسس لنفسه مملكة السطو حتى استن لها ميثاقاً صارماً، لا يمكن لأحد اختراق بنوده، ويأتي على رأسها، أن لا يكون السطو إلا على الأثرياء، وأن لا يكون السطو إلا على من يدافع عن نفسه بقوة، وأن تعود نصف الغنائم إلى الفقراء أينما كانوا] (ص12).
لنكتشف بعد الفصل الأول أن هذا الميثاق ليس لشلة علي بابا وشلة النهب التي أسسها، من أتباعه فحسب بل هي مقدمة تؤطر ميثاق السرد في هذه الرواية، والذي يجب ان يحمله القارئ، وخط ناظم يتبع منطقه من أول الرواية إلى آخرها.
لكن من حيث التجنيس الإطاري الأشمل فالرواية من الأدب العجائبي، وهو النوع الذي تتقيد به الرواية في كل تقاسيمها، وخاصة من حيث بناء حبكتها ومواضيعها، وتلوين لغتها العتيقة المعبقة بروح المغامرة، وخطاب الحكي الأسطوري على لسان مؤلف ضمني هو دنيازاد، وقارئ ضمني يستقبل الحكاية هو شهرزاد، وهو أو انشقاق عن المسار التطابقي مع الحكاية المرجعية لألف ليلة وليلة التي ينشأ هذا النص في ظلالها، شخصيات ومحاكاة.
ثانياً: نمط السرد الفحولي:
يستدعي الكاتب مدداً فحولياً غزيراً من سرديات ألف ليلة وليلة، الساحرة، حيث يحفل النص بمشاهد الرونق الجسدي الأنثوي، والإغواء لفحولة علي بابا التي لا حدود لنهمها، حيث يحتدم الوطء مع الزواج وتلتحم الأجساد، بشبقية سلسة طيعة لا يقف أمامها عائق يزجرها، حيث لا تقابل أنثى ذكراً إلا أولع بها وساقهما المدد إلى لغة الجسد، في لمح البصر، بمجرد نظرة إعجاب، أو لقاء عابر بين إحدى الفاتنات وعلي بابا، فيتعلق بها ويعرض عليه أهلها الزواج بها في الحين، دون استشارتها، حيث تنبني صورة الأنثى في هذه السرديات باعتبارها جسداً شهوانياً لإغواء الفحول من فرسان عالم الحكاية، وهي على استعداد فطري دائم لأي جماع عابر في أية لحظة طارئة، وبمباركة الجميع وعلى رأسهم أهلها وذويها. حيث تكون حظوتها بفارس مغامر هي مُنتهى الغاية في حياتها.
وبالطبع كان علي بابا – الذي طبقت شهرته الآفاق -هو رمز الفحولة المنتصبة من أول فصل إلى آخر فصل في الرواية- تهواه كل عذراوات الحكاية، ويتمناه لهن جميع أهلهن. ولا فرق في الولع بفحولته والحظوة به، بين نساء الإنس ونساء الجن، ولعل هذه هي أول خصيصة خطابية يستجلبها الكاتب (على نحو تطابقي)، من الصندوق العجائبي لألف ليلة وليلة، في ركنه الفحولي والشبقي تحديداً.
ثالثاً: الإطار الحكائي العجائبي. وكسر الإيهام التطابقي. (قراءة في الإبدالات السردية)
تتأطر الرواية بجملة من المعالم التي يتأسس عليها معمارها الشكلي:
– أول الإبدالات المطروحة نجدها في العنوان: [علي بابا والأربعون حبيبة]، الذي نجده مقسماً إلى جزأين اسميين متعلقين بشخصياته؛ يتعلق الجزء الاسمي الأول فيه ببطل الرواية: [علي بابا] والذي يؤشر على نوع من التطابق مع المرجع، وبالتحديد؛ قصص ألف ليلة وليلة التي وردت فيها حكاية هذه الشخصية، أما الجزء الاسمي الثاني فيشير إلى كسر هذه التطابقية بتعويض مأثورة [الأربعين لصا] الواردة في النص الأصلي [ألف ليلة وليلة]، بـمأثورة بديلة: [الأربعين حبيبة]، وبين التطابق والانزياح، تتأسس جدلية هذا العنوان التي تخبرنا بأن الكاتب سيشتغل على الحكاية وبطلها كإطار مرجعي يثبت به ذهن القارئ تناصاَ مع الحكاية الأصلية في ألف ليلة وليلة، لكنه سينزاح عنها ويكسر تطابقه الضنين معها، بسردية بديلة، تجعل اللصوص الأربعين، حبيبات أربعين، وتجعل الحبيبات بشكل أو بآخر، لصات مجندات لاختطاف قلب علي بابا، والحظوة بفحولته الأسطورية. وهذا ما تطرحه الرواية في إبدالاتها البنائية والموضوعاتية. كأول بادرة للخروج عن الصندوق العجيب الذي تتمرجع به. وتوهم بالتطابق معه، لكن ذلك يحدث من أجل كسر هذا الإيهام، وليس من أجل التطابق السلبي، وهنا تقدم الرواية جملة من البدائل السردية المضافة، التي نطرح بعضها هنا بغرض التمثل لا الحصر.
– والإبدال الثاني الذي تقدمه الرواية، هو شخصيتا الراوي والمروي له.
حيث ألفنا في ألف ليلة وليلة، أن الراوي هو شهرزاد، بينما المروي له هو الملك شهريار.
لكن في رواية جلاوجي، نجد بأن الراوي أصبح: دنيازاد، والمروي له هي أختها شهرزاد التي كانت راوياً في المرجع الأول للحكاية. ويبرر الكاتب هذا الإبدال من أول صفحة استهلالية بعد العنوان، والتي تعلن فيها شهرزاد تعبها وجفاف خيالها، لتسلم صوت السارد لأختها، وتتحول هي إلى قارئ أو متلقٍّ ضمني في الرواية: [قالت شهرزاد بنبرة حزينة لدنيازاد. وهما تجلسان كالأميرتين على زرابي مبثوثة، ونمارق مصفوفة: “يا أخية قد أدركني التعب. ولحقني من الحياة النصب. وأجد حكايتي قد انتهت، وخيالي قد بهت، لقد طرزت في سرود البشر: ألف ليلة وليلة من أعاجيب الدرر، انتقيتها من حكايات العرب الأماجد، بين العراق والشام ومصر المحامد، من خوارق دليلة الزئبق، ومغامرات السندباد الأحذق، وعجائب مصباح لعلاء الدين الساحر، وعفريته القوي القاهر، قطعت بها الصحارى والقفار، في الليل والنهار، وخضت بها البحار والأنهار، تنقلت فيها بين المدن والعامرة والجزر الساحرة…. فاعذريني إن سكت يا أخية الآن، وليعذرني كل الأحبة والإخوان”.
ضغطت دنيازاد على يد شهرزاد بإشفاق، واستوت جالسة وقد طوت ساقيها، ومدت ذراعياها العاريتين على ركبتيها، وقالت: معذورة يا أخية لقد حان دوري لأحكي لك ما فاتك، فأضيف لحكايتك ست ليالٍ أُخر، هي من أغرب وأعجب ما حكي عن البشر، فقد حدثتني عن علي بابا وما وقع له مع اللصوص في المشرق، وأغفلتِ ما وقع له في المغرب، فاسمعي مني] (ص: 07-08).
وهنا تحيلنا الساردة على الإبدال الثالث.
-الإبدال الثالث يخالف النص المرجعي، الذي روته شهرزاد لشهريار، حيث كان مضمونه مشرقي الشكل والروح، بينما تغير دنيازاد دفة الحكي إلى ما وقع لعلي بابا في بلاد المغرب، أي إنها تغريبة علي بابا، لو شئناً أن نمنح لهذا الإبدال الجوهري عنواناً يطبع هذه الرواية.
– أما الإبدال الرابع، فهو تشكيل فصول الرواية التي بلغت ستة فصول، وهي عبارة عن ست ليالٍ إضافية على ليلة وليلة الأصلية، ما يعني أنه بلغ بها [سبع ليالي بعد الألف] وهي على التوالي:
– الفصل الأول: الليلة الثانية بعد الألف: آية الخروج [وإن سعيكم لشتى].
– الفصل الثاني: الليلة الثالثة بعد الألف: آية البعث [ وهو الذي يُخِرج الخبء].
– الفصل الثالث: الليلة الرابعة بعد الألف: آية الغيب [قال عفريت من الجن]
– الفصل الرابع: الليلة الخامسة بعد الألف: آية العودة [ثُم جئت على قدر]
– الفصل الخامس: الليلة السادسة بعد الألف: آية الكشف[تلك آية أخرى]
– الفصل الثالث: الليلة السابعة بعد الألف: آية الدخول [فاخلع نعليك].
نلاحظ جلياً أن الفصول الست للرواية، التي هي الليالي الست التي أضافتها دنيازاد على الليالي الألف والليلة لأختها شهرزاد، تحمل في عناوينها آيات قرآنية، تنبئ بمحتوى الفصل، وتتطابق مع أحداثه. وهي تنبيها وتوجيها للقارئ، لا تحيل إلى النص المقدس بقدر ما تحيل إلى سياقات التلقي للمحكي في كل فصل. والجدير بالإشارة في هذه التركيبة النوعية لفصول الرواية ولياليها أنها ذات بناء مغلق، وكأن الروائي أغلق المتنين معاً المتن المرجعي لألف ليلة وليلة والمتن الروائي المنسوج على إثره، وهو النص الروائي الذي يبدأ بـفصل: [آية الخروج]، وينتهي بـفصل: [آية الدخول]. وكأنه حكاية دنيازاد في لياليها المضافة قد خرجت عن المتن في البداية، لتعود إليه في النهاية بما أغفلته شهرزاد، من تغريبة قدمتها دنيازاد في هذه الرواية عبر رحلة ست ليالٍ إضافية في ستة فصول روائية.
– الإبدال الخامس، ويتمثل في اللازمة التي تختتم بها دنيازاد كل فصل من الفصول الستة للرواية. باعتبار أن كل فصل هو حكاية لوقائع ليلة من الليالي الست المضافة لليالي الألف وليلة. التي يختتمها الراوي بعد كل ليلة بلازمته الشهيرة. [وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح]. بينما يختتم الراوي لياليه الست في رواية جلاوجي بلازمة أطول وأغزر سجعاً تقول: [وأدرك دنيازاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح، وخرجت كالفراشة إلى البساتين الفساح، حيث الماء والخضرة والسوسن والآقاح].
وهي اللازمة السجعية التي تختتم فصول الرواية ماعدا الفصل الأخير الذي اختتم بدمج حكاية الأختين شهرزاد ودنيازاد مع حكاية علي بابا، التي يتسامرن بها، وكلاهما تندمجان في حكاية السندباد البحري التي تعود بهما إلى السفر الأصلي ألف ليلة وليلة، وهي بالفعل عودة إلى المتن الأصلي كما ينص عنوان هذا الفصل الأخير (آية الدخول): الذي يختتم بقول الراوي: [وتحرك البساط فحلق، ثم راح يمخر عباب الفضاء، مبتعداً، كأنما يلاحق الشمس، وشيئاً فشيئاً، حتى اختفى كما اختفى الجني المارد] (ص: 275).
– الإبدال السادس وهو الأهم –كونه يتعلق بإثراء نوعي لمضمون قصة علي بابا- يتعلق بنقل تحويلي: [transmutation] لمجموعة من الأنساق الثقافية الجزائرية إلى متن مأثورة علي بابا، منها أمثال شعبية جزائرية، [العروس يشكرها فمها وأمها](ص37)، [يصدق الرجال حين يصدق الماء في الغربال](ص100).
ونقل إلى اللغة الفصيحة مجموعة من أبيات الشعر الشعبي الجزائري، يقول فيها:
[كلمني بالله عليك يا راس المحنة
غريب أنت أم ذا وطنك؟
ابن ذي القفار أنت أم مت في غربتك؟
رأس من أنت بالله عليك يا رأس المحنة] (ص 91).
أما أصل القصيدة من الشعر الشعبي الجزائري (بالعامية)، فنجده في قصيدة الشاعر سيدي لخضر بن خلوف [دفين مستغانم]، والتي تحمل عنوان [راس المحنة]. والأبيات التي نقلها جلاوجي في نصه جاءت في الأصل كما يلي:
[جيت انسالك و نتايا ترد جوابي *** حشمتك بالله يا راس جاوبني
هذا وطنك ولاّ جيت براني *** يا راس المحنة بالله كلمني
شرقي ولاّ غربي يا كثير المحنة *** ولاّ قبلي جيت مسافر لوطني]
وقد غناها مطربون شعبيون من أشهرهم [البار عمر الجلالي] و [رابح درياسة البليدي].
رابعاً: الأدوات البنائية للحبكة العجائبية
يبني الروائي حبكته العجائبية اعتماداً على أدوات أهمها:
1- البعث من الموت؛ وتواصل الأحياء مع الأموات، ونعثر على هذه البنية بداية من الفصل الثاني الذي يحمل عنوان: [آية البعث- “وهو الذي يخرج الخبء”]، حيث يعثر علي بابا في رحلته على جمجمة الأمير المغدور “الأمجد الأول” فتكتسي لحما وملامح بشرية [وهو يرى الجمجمة تتحرك أمامه، تراجع علي بابا مرعوباً، وقد بدأت تتشكل أمامه الجمجمة إنساناً سوياً، اكتسى الرأس لحماً ثم ظهرت الرقبة فالجذع، فالأطراف، واكتسى الكل بردة، فعمامة] (ص 79)، وتأخذ الجمجمة بعد أن استوت بشراً، في الحديث مع علي بابا، وسرد وقائع حياتها قبل الممات، وحي حكاية تمنح علي بابا الكثير من المعلومات ليهتدي بها في رحلته، وتكشف له حقيقة من يحكمون الإمارة مثل أميرها المزيف “الأمجد الثاني” الذي ليس إلا لقيطا ناكرا للجميل، كفلته العائلة الأميرية فقتل ولي عهدها (الأمجد الأول أي هذه الجمجمة) ونفى أميرها وأسرته واستولى على الحكم، حين ظن الشعب أنه هو الأمير الأمجد الأول، وولي عهد الملك المخلوع.
وفي الفصل الأخير [آية الدخول “فاخلع نعليك”] تبعث الجمجمة إلى الحياة، لكن هذه المرة لتصبح إنسانا حقيقياً، وهو الأمير الأمجد الأول الذي ينزل من السماء كشبح ويتحول تدريجياً إلى إنسان كامل، ليسترد عرش أبيه، ويتزوج [الأميرة جوهر] ابنة أمير الإمارة المجاورة. الذي جاء لنصرة إمارة الأمجد الأول من طغيان الأمجد الثاني. الذي فر من المدينة قبل مجيئهم. فدخلوها آمنين. [بلغ شبح الفارس الخيمة، ثم عبرها نحو القصر… وشيئا فشيئاً بدأ يتعجن بين ذراعيهما، وصدرت منه شهقة مرعبة كأنها العاصفة، … واستوى بشراً… قال علي بابا وفي وعيه دهشة: “لكنك قد مت وفنيت وكنت جمجمة. التفت الأمير الأمجد إليه مبتسماً، ولكني بُعثت وعدت بعلم غزير] (ص273).
2- توظيف فجوة الزمن للاطلاع على الغيب. تأتي هذه البنية كحل سحري لمساعدة علي بابا على كشف الدسائس والخدع المحيطة به وإعانته على إكمال رحلته المحاطة بالمطبات. فسخر له السارد عدة عوامل مساعدة أبرزها تلك الجمجمة التي وجدها على قارعة طريق رحلته، ففتحت له فجوة في الزمن، وهي هالة سحرية يرى في شاشتها كل الأحداث التي وقعت في الإمارة قبل الغدر بالأمير الأمجد الأول صاحب الجمجمة، وبعد ما قتل وتدحرجت الجمجمة بين أيد كثيرة، [وقد أشرق أمامه نور ساطع، وكأنما فتحت في الظلام كوة واسعة مشعة] (ص80).
وقد لعبت تقنية فجوة الزمن التي جاءت لتسند علي بابا في مهمته، دوراً هاماً في فك كثير من الألغاز أمام البطل، وأمام القارئ أيضاً، وتكشف عديد الأسرار التي كانت ستتطلب عشرات الصفحات لسردها، لذا ستصنف هذه البنية كتقنية بلاغية كان دورها الأبرز في الخطاب، هو الإيجاز بالحذف والاقتصاد النصي. هذا من جهة، ومن جهة البناء الفني كانت أحد المفاتيح السحرية لفك التعقيد العجائبي بمفتاح من جنسه، بغرض سرعة التقدم في التسلسل الحدثي وفرز خيوطه ومنعها من التشابك والاختلاط في ذهن المتلقي. فكانت تيسيراً على البطل وعلى القارئ أثناء تتبع الخط الدرامي، وتسريع الإيقاع العجائبي. والإفلات من هوة الإطالة والرتابة.
3- التداخل مع عالم الجن. في الفصل الثالث الذي يحمل عنوان: [آية الغيب “قال عفريت من الجن”]، نشهد دخول عالم الجن على الخط، ويمكن أن نسوق استئناس السرد العجائبي بعالم الجن هنا في خانة السرد التطابقي مع حكايات ألف ليلة وليلة التي جعلت من عالم الجن واختلاطه بالمغامرة من أبرز بنياتها العجائبية، وكذلك في رواية جلاوجي، يتم اختطاف علي بابا، مباشرة بعد زواجه من الأميرة بدر البدور في إحدى الغابات، أين يختطف منه طائر عجيب عقد زوجته الثمين، ويستمر علي بابا في مطاردته، إلى أن يدخل به كهف الجن، حيث تختطفه ملكة الجن التي تشترط عليه الزواج بأربعين جنية، وإخصابهن، في مقابل، حريته واسترجاع عقده. قال علي بابا للجنية:
[- أعيدي لي عقد زوجتي..
– نريدك في أمر مختلف، إن قمت به خلينا سبيلك ومعك العقد
– تحت أمرك، المهم أن أسترد العقد، وأعود إلى زوجتي وقد تركتها في الفلاة
– نزوجك فتياتنا، فينجبن منك خلقاً فيهم الجن والإنس… العد يبدأ عندنا من الأربعين، والواحدة منا تنجب المئة… لا أريد نقاشاً، استعد من الغد، ستكون عريساً على الأربعين الأولى] (ص137-138).
فيفعل ذلك، ويغوص معهن في زمن غير محسوب من اللذة والمتعة من جنية إلى أخرى، حتى يفي بوعده ويسترجع عقده وحريته، وينطلق إلى البحث عن وزوجته التي دخلت إمارة مجاورة وتنكرت فيها بزي قاضٍ. فمنحوها هذا المنصب كقاض للإمارة.
4- هيمنة سلطان الأقدار على الرحلة.
تصنع الرواية طاقتها الإدهاشية وبعدها التشويقي من هيمنة سلطان القدر، بكل غموضه الذي يجعل الخطوة القادمة التي على بعد سطر أو سطرين مجهولة المعالم، مما يدخل القارئ في دوامة عجائبية. لا يمكنه فيها توقع أي حدث أو فعل، لكون الرحلة تتدحرج في دهاليز القدر وتحكمها الطوارئ التي تميز الخطاب العجائبي وتمنحه طاقة الغموض واللامتوقع والفجائي. كما يتجلى في حوار علي بابا مع الجمجمة الناطقة: [السيول تجرفنا جميعاً يا علي بابا… وتتقاذفني تلك الأمواج حتى طوحت بي حيث وجدتني، ولا أدري أي أمواج ستقذف بي مستقبلاً، ولا أي الربوع سأعبر، وفي أيها سأستقر. وأسرع علي بابا يقول مقاطعاً: – لقد قذفت بك الأقدار بين يدي، وستستقرين في مكان آمن أبدي. ضحكت الجمجمة وقالت: كأنك أنت الأقدار يا علي بابا، وأنت مجرد ريشة في يدها.. تجلى الفزع على ملامح علي بابا وراح يرد: – فعلاً فعلاً، نعم.. أجل.](ص104-105).
بهذا ترسم الرواية منطقها المبني على الأقدار المتداخلة، فإن كانت شخصية ما تتحكم بسلطانها في غيرها، فإن لها سلطاناً أعتى يتقاذف مصيرها في دوامة، الكل يجهل منتهاها ودهاليزها. لتكون بنية القدر في الرواية. بنية من بنيات المجاهيل السردية التي تنبني عليها بشكل أساسي الحبكة العجائبية لهذا السرد.
5- تقييد المسار العجائبي بمقولات ناظمة.
يتقيد المسار العجائبي لرحلة علي بابا بمقولات ثلاث، تمثل بالنسبة إله وصايا مقدسة، يلتزم بها حرفياً ولا يخرج عنها. تقول الوصية الأولى وهي وصية والده المتوفى: [ما يأتي إليك زيف، وما تنصب خلفه هو الجوهر](ص45). وتقول الوصية الثانية، وهي من صهره الأمير الأصلي للمملكة والد زوجته بدر البدور، حين زاره علي بابا في منفاه فأوصاه وهو يشيعه: [ما تراه أولا سراب، الينابيع دوماً في الأعماق] (ص127).
بينما تقول الوصية الثالثة وهي من طيور الجبال: [علمتني طيور الجبال حكمة أبلغ تقول: سافر وغامر، حظنا لا يأتي إلينا، نحن نذهب إليه] (ص251). تلعب هذه المقولات الثلاث دور الخط الناظم للأحداث، باعتبارها الوصايا الثلاث التي تحف رحلة علي بابا، وتقيد خطواته كلما أغراه غرض ما، أو أغوته نفسه بنيل ما يلمع في طريقه، وهي في الوقت ذاته، وصايا مترادفة المطلب، إذ تحث على عدم التعلق بما يعطى بل بما يؤخذ، وعدم التعلق بالمظهر بل بالجوهر الخفي الذي خلفه أو في باطنه. وأن لا ينتظر هبة من أحد حتى من القدر، بل عليه أن يصنع حظه ويبادر إلى شق طريقه بيده لا بيد غيره.
خامساً- التداخلات الخطابية وآلية الاستدعاء
1- الاستدعاء الخارجي:
يستدعي الكاتب –حين يحفر في بلاغة نصه- أرواح عدة نصوص تنتمي إلى فنون غير روائية، ولعل أقربها وأكثرها ظهوراً هو الاستدعاء المسرحي في نواح عدة. ونلحظ ذلك مثلاً في نهاية الرواية، حيث يعمد الكاتب إلى إقامة محاكمة [والمحاكمة من أشهر البنيات الختامية المسرحية] يقوم فيها بتجميع الحوافز الحدثية والعقدات للفصل وتبرير كل الإشكالات التي بقيت معلقة، ولعل أقرب نموذج مسرحي لبنية المحاكمة في هذه الرواية هو مسرحية “تاجر البندقية” لشكسبير، حيث نجد بأن الفتاة [بورشيا] خطيبة بطل المسرحية وهو التاجر المنكوب [أنطونيو]، قد تنكرت بقناع رجل، لتلعب على الجميع مسرحية داخل المسرحية، فاتخذت هيئة محامي وأطلقت على نفسها اسم [السيد بالتازار المحامي]، الذي يجهل الجميع أنه امرأة بل هي أقرب المقربين لأنطونيو الذي فعلت كل ذلك من أجل إخراجه وتبرئته من الورطة القضائية التي أوقعه فيها المرابي اليهودي [شايلوك] الذي أدانه مبلغاً مالياً لم يف بإرجاعه، وهو الآن أمام تنفيذ الشرط الجزائي لهذا الدين والمتمثل في اقتطاع قطعة من لحم أنطونيو، حين فشل هذا الأخير في سداد الدين في موعده. ولا أحد كان يعلم بالهوية الحقيقية لهذا المحامي الغريب [بالتازار] بما فيهم أنطونيو نفسه. والذي تم في النهاية إنقاذه من المأزق بدهاء هذا المحامي. الذي يم يكن سوى خطيبته بورشيا.
ونشهد في رواية جلاوجي نفس المسار الموازي لمسرحية شكسبير، حيث تتنكر زوجة علي بابا [بدر البدور] لتتخذ هيئة قاضي الإمارة، وتطلق على نفسها اسم [القاضي بدران]. الذي نال هذه المكانة بفضل حكمته وذكائه اللذين مكناه من تولي هذا المنصب بتزكية من الأمير. حيث أدار هذا القاضي المتنكر، محاكمة صورية من أجل إنقاذ علي بابا المتهم بسرقة أموال التاجر الجوهري، وبقتل حارسين من حراس السجن، دون أن يعلم أحد بأن هذا القاضي، ليس سوى زوجة علي باب [بدر البدور]. بما فيهم علي بابا نفسه. لتنتهي المحاكمة بإخراج علي بابا من المأزق. من طرف زوجته [القاضي]، تماماً كما أنصفت بورشيا خطيبها أنطونيو، وكلاهما متنكرتان في دور رجل القانون المزيف، لإنقاذ رجليهما من الورطة القانونية التي وقعا فيها. وتم ذلك بنفس الطريقة، وفي نفس المرحلة من مسار الأحداث، وهي نهاية القضيتين والقصتين.
2- الاستدعاء الداخلي.
يحدث التداخل الثاني في نهاية الرواية، لكن هذه المرة بصورة داخلية، أي من نفس متن ألف ليلة وليلة التي استوحى منه الروائي شخصية علي بابا، ونقصد هنا استدعاء شخصية علاء الدين والمصباح السحري، فيحدث نوعان من الاندماج، ففي مرحلة أولى تندمج شهرزاد وأختها دنيازاد في الحكاية الأطارية (باعتبارهما السارد والمسرود له). بأحداث الحكاية الضمنية، أي تدخلان في أحداث قصة علي بابا التي تروينها.
[قالت شهرزاد: ليت شهريار كان علي بابا. وشهقت حزنا وقد أدركها الصباح وسكتت عن الكلام المباح.
قيل إن دنيازاد قد أرقت لحال أختها شهرزاد فأرادت أن تسري عنها، فقالت لها: – هلا تنزلين عند رأيي فنصطحب، إلى علي بابا فنشاركهم أفراحهم؟].(ص275).
وفي مرحلة ثانية تندمج الحكايتان مع حكاية المصباح السحري المجاورة لقصة علي بابا في متن ألف ليلة وليلة: [وعجلت دنيازاد فأخرجت من جيبها المطرز مصباح علاء الدين السحري، ففركته، وتمتمت ببعض الطلاسم، وإذا بدخان يتسرب من المصباح ضعيفاً وهناً ثم راح يشتد ويتعالى، حتى استوى أمامهما جنيا مارداً، فزعت شهرزاد وقالت: كنت أعتقد المصباح خرافة، فإذا هو حقيقة بين يديك… قالت دنيازاد، إنما نريد علاء الدين على بساطه السحري. وما كادت تكمل كلامها حتى حلق علاء الدين فوقهما، ثم استوى أرضاً فأسرعت دنيازاد وشهرزاد تمتطيان البساط، وقالتا معاً بصوت واحد: نريد علي بابا.. وتحرك البساط فلحق ثم راح يمخر عباب الفضاء] (ص275).
لنقف في نهاية الرواية على عديد التقاطعات، والتقاطبات الخطابية، منها ما يستدعي ويتوازى مع متون مسرحية أثرت بالغ الأثر على بنية الروية التي انتهت نهاية مسرحية كلاسيكية بحتة [بداية متوازنة، وسط معقد- نهاية متوازنة]. تتوازى مع المتن والحل الشكسبيري معاً. ومنها ما يستدعي متوناً حكائية من داخل ألف ليلة وليلة، باعتبارها المتن المرجعي الأصلي الذي تستوحي منه الرواية مددها ومادتها وحتى لغتها السردية.
– ملاحظات
– يبدو جليا من خلال تطعيم الرواية بأعمال اسطورية وملحمة عالمية تقاطعت وتوازت مع متنها، ثراء الخزانة المعرفية لهذا السرد العجائبي. المستأنس بمتون سابقة، والذي بدأ بداية تطابقية معها من أجل تثبيت معالم السرد العجائبي في ذهن القارئ، ثم راح يبتعد عنها ويخترق ذلك التطابق، باىستجلاب الكثير من الزخم الحكائي من المخيال الشعبي الجزائري، (أغاني وأشعار وأمثال شعبية)، كانت بمثابة الأنساق الثقافية التي تضافرت مع أنساق ثقافية عالمية في مسار الأحداث، (كما رأينا مع المتن الشكسبيري، والأساطيري لعلاء الدين والمصباح السحري)، وقد ساعدت معرفة الكاتب بالفضاء العجائبي الذي وظف تقريباً جميع أدواته (من حبكة يستأنس فيها الواقعي بالميتافيزيقي)، مثل التداخل مع عالم الجن، وبعث الأموات للتحاور مع الأحياء، وفتح فجوة أو بوابة الزمن لكشف الأسرار العالقة…
– لعل ما أعاق الحبكة السردية من تمام تعقيدها، هو سرعة الكاتب في مساعدة البطل بالحلول السحرية لكل مأزق يقع فيه، مما جعله بطلاً مدللاً. لا يكاد يواجه مشكلة حتى تأتيه الحلول السحرية من كل مكان. وحتى المأزقين الوحيدين الذين أثرا سلباً على حياته وهما اختطافه من طرف الجنيات، وسجنه من طرف شرطة الإمارة في نهاية الرواية خرج منهما خروجاً مثالياً. حيث خرج من الأول بنكح أربعين جنية (خروج بالملذات)، وخرد من الثاني بمساهمته في شفاء ابنة الأمير من آثار الرجولة التي بدت عليها بإعطائها مرهماً سحرياً مضاد أنقذ به رأسه (خروج بالمودات). وعدا هاتين المشكلتين اللتين خرج منهما البطل خروجاً سحرياً، ولذيذاً كان السبيل أمامه سالكاً لجميع أفعاله، فتارة تحدقه الجمجمة بوقائع غيبية حول المحيطين به، وتارة تنفتح أمامه بوابة الزمن لتكشف له ظهر الغيب في الأزمن السحيقة لتيسر عليه بقية المشوار، الذي كان محفوفاُ بالأميرات والجميلات التي يعرضن عليه للزواج من طرف أهلهن، لكنهن يصطدمن بمبدئه (ما يأتي إليك زيف، وما تنصب خلفه هو الجوهر).
– وإن أردنا مربط الفرس العجائبي الذي أقلع بالرواية إلى عوالم هذا الجنس فإننا سنحدده في بنيتين، أولهما اللغة السردية العتيقة، المعشقة بالسجوع الحكائية الرصينة والتراثية المنتمية لمتون السرديات الكبرى، والمتناغمة والمترادفات التمثيلية والمجازية المتراتبة صوتياً وتركيبياً.
والتي تعكس تمكن الكاتب من تقنيات السرد العجائبي، ومداراته وعوالمه ومضانه. فتخلى لذلك عن لغته المعاصرة وسافرت بنا لغته إلى نبرة صوت الراوي العتيق في المدونات الأسطورية العتيقة.
والبنية الثانية عي البنية المعرفية والتراثية (خزانة السرد العجائبي) التي تمثلت في ذلك الزخم المعرفي الغزير الذي تنبيئ باطلاع مكثف للكاتب على مختلف المتون الحكائية الأسطورية سواء في الثقافة العالمية أو الثقافة المحلية، وقد وظف كل تلك المرجعيات، لا ليتطابق معها بل ليدخلها في محاورات خلقت جواً عجائبياً وسيطاً أو هجيناً يخرق من التطابق مع المرجعيات السردية، ويشق لذاته مبنى حكائياً عجائبياً يكمل مسار التجريب الذي عرف به الكاتب سواء في أعماله الروائية أو المسرحية.