من مظاهر تكريم الله عز وجل للإنسان، أنه لم يتركه بدون مرشد في هذه الحياة، بل فطره على الحق: ﴿فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾(الروم:30). والقيم الإنسانية تنطلق من الفطرة السليمة التي خلق عليها كل البشر، باعتبارها معاني مشاركة في تكوين الشخصية الفردية، وإقامة البناء الاجتماعي، وممارسات توجه السلوك الإنساني، تضفي نوعًا من التوازن والانسجام في علاقة الإنسان بذاته وبمن يحيط به. ومما لا شك فيه أن ما تعيشه الحضارة الإنسانية المعاصرة من تحولات جوهرية، يجعل موضوع القيم من أبرز التحديات التي تواجه الأفراد والأسر والمؤسسات المدنية والمجتمعات والشعوب، خاصة الإسلامية وهي تعيش حالة حادة من حالات الانسلاخ عن الذات، سواء باجترار القديم دون تمحيص أو بالتقليد دون وعي أو تبصر، الأمر الذي يغدو معه استنباط القيم الإنسانية من عمق مكابدات الإنسان مع الحياة، قضية ضرورية وملحة، كما أن محاولة إشاعتها باعتبارها قيمًا إنسانية مشتركة بين البشرية جمعاء، يمثل طوق النجاة لها.
وبما أن الأدب صيغة إنسانية تبحث في طبيعة سلوك الإنسان، وتسعى إلى إعادة اكتشاف العالم الداخلي والخارجي برؤية متجددة وإلى التواصل معهما، وتهدف إلى الكشف عن واحات بظلال وارفة يبصر فيها المتلقي آفاق النفس والكون عبر صور جمالية تنعكس على عقله ووجدانه، فإنه ليس لأحد أن ينكر أن القيم هي مجال الأدب بامتياز، وأنها ثمرة من ثمرات تفاعل الأديب مع واقعه النفسي والاجتماعي والثقافي، الأمر الذي يجعل المتلقي أكثر قدرة على الفهم والتفكير والتذوق، وأعمق غوصًا في طبيعة النفس البشرية. من هنا تصبح أسئلة من قبيل؛ إلى أيّ حد يمكن أن يستجيب الأدب للفطرة الإنسانية؟ وما علاقة هذه الاستجابة بسلّم القيم؟ وإلى أيّ حد ممكن يصبح الأدب محركًا لوعي الإنسان تجاه ما هو كائن انطلاقًا مما ينبغي أن يكون؟ أسئلة مشروعة تحفز الباحث على البحث والدراسة في موضوع القيم وارتباطه بالأدب.
جدلية العلاقة بين القيم الإنسانية والأدب
القيم الإنسانية في الإسلام لا تتغير ولا تتطور تبعًا للظروف الاجتماعية أو السياسية والأحوال الاقتصادية، بل هي حدود ثابتة متينة ضد الفوضى والظلم والشر والفساد، يقول الله تعالى: ﴿تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا﴾(البقرة:230). لذلك فالإنسان المؤمن يسعى دائمًا إلى الثبات على القيم مهما تغيرت به الأحوال، ولا يحق له التغيير سوى فيما يساعده على ذاك الثبات، وما يحقق طبيعة استخلافه في الأرض. والأدب تعبير جمالي عن أدق مشاعر الإنسان، وعن قضاياه الفردية والجماعية، يحفز المتلقي على معانقة الخير والحق والجمال، ونبذ العنف والفساد والقبح. من هنا ندرك عمق العلاقة بين القيم والأدب في المنظومة الإسلامية.
وبما أن “الإسلام يبسط من خلال قرآنه وسنة نبيه، رؤية جديدة للكون والعالم والحياة والإنسان، رؤية تجيء بمثابة انقلاب شامل على كل الرؤى المحدودة، والمواضعات البصرية القاصرة، والأعراف والقيم والتقاليد والممارسات المبعثرة الخاطئة، رؤية تبدأ انقلابها هذا في صميم الإنسان، في عقله وقلبه وروحه ووجدانه وغرائزه وميوله وصيرورة الحركة التاريخية”(1) فإن تفاعل الأدب مع القيم يعني؛ انطلاق الأديب المسلم في ممارساته الإبداعية، من رؤية أخلاقية وإنسانية تبرز مصداقيته في الالتزام بتوظيف الأدب لخدمة العقيدة والشريعة والقيم وتعاليم دينه ومقاصده، وتبيّن إيجابيته عند معالجة قضايا العصر والحياة، التي ينفعل بها انفعالاً مستمرًّا، فلا يصدر عنه إلا نتاج أدبي متفق مع أخلاق الإسلام وقيمه وتصوراته، ونظرته الشاملة للكون والحياة والإنسان؛(2) في إطار من الوضوح والعمق الذي يبلور حقيقة علاقات الإنسان مع ذاته وخالقة والكون من حوله، وحقيقة الرسالة الملقاة على عاتقه، التي هي رسالة إنسانية تقتضي منه “الإحساس بالحياة التي يحياها، والتعمق في المجتمع الذي يعيش فيه، وتزكية ما يلتمع في ذلك المجتمع وفي تلك الحياة من مثُل وقيم كريمة تدعو إلى حرية وحق وخير وسلام”.(3)
وفي هذا الإطار، انطلق توجه الأدب الملتزم بقيم الإنسانية في الأدب العربي، مستهديًا بالتصور الإسلامي ومنهجه على مر العصور، ولم يعرف غيابًا عن حركة التاريخ في يوم من الأيام، لأنه كان مرتبطًا بالأرضية الفكرية والنفسية التي يقف ويتوقف عليها الإنسان العربي والمسلم، ولأنه كان ممتزجًا بآلام وآمال هذا الإنسان… ولعل كل ذلك يفسر قسطًا من سبب بقائه ومشروعية استمراره منذ أزيد من أربعة قرون، رغم الفتور الذي يلاحظ بصدده في بعض المراحل التاريخية.(4)
رسالية الأديب في المجتمعات الإسلامية
ويمكن بعد هذا، تقسيم القيم الإنسانية في الأدب إلى ذاتية وإبداعية. القيم الذاتية، تنبع من ذات الأديب وانضباطه الأخلاقي الذي ينسحب على رؤيته للأمور، وعلى مواقفه من مختلف القضايا التي يعبر عنها، ويجعله يجنح نحو طلب القيم الأخلاقية الحسنة التي تعصمه إنسانيًّا من الانحطاط في دائرة الكائنات غير الإنسانية، وتكون سمات أساسية في نسيجه السلوكي والإبداعي.
أما القيم الإبداعية، فهي مجموع العناصر والصفات التي يمكن أن يتميز بها إبداعه، والتي يستمدها الأديب المسلم من القرآن الكريم، فيتميز أدبه بعناصر الصدق والأمانة والدقة والطهارة والقوة وغير ذلك من الصفات الجمالية المرتبطة بالقيم. إن الأديب بصفة عامة “هو واحد من المدعوين لممارسة المهمة الخطيرة بفنه القادر على التأثير والتحصين، بل إنه مدعو إلى أكثر من هذا؛ إلى دعوة المجتمعات الإسلامية لاستعادة ممارستها الأصيلة، وقيمها المفقودة، وتكاملها الضائع، وتقاليدها الطيبة، وإحساسها المتوحد، وصبغتها الإيمانية التي أبهتتها رياح التشريق والتغريب”.(5) من هنا يمكن القول إن على الأديب -بصفة عامة- أن يخلص لرسالته، وألا يجعلها أداة انحراف وفساد، وليس له “أن ينشر الناس مباذله بدعوى الحرية والانطلاق من القيود”،(6) لأن له على أمته حقًّا لا يجوز له أن يهضمه ولا يجوز لها أن تتنازل عنه.
حضور القيم الإنسانية في الأدب
تتفاوت درجات حضور القيم الإنسانية بمفهومها الذاتي والإبداعي في الأدب العربي بصفة خاصة، إلا أنه لا يكاد يخلو منها. وكلما كان حضورها قويًّا متداخلاً مع القيم الجمالية، كان أعمق تأثيرًا في النفس، وأكثر قدرة على التغيير نحو عالم أفضل وأحسن.
وأول القيم التي تستوقف الدارس في هذا المجال قيمة الصدق، يقول تعالى: ﴿وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ﴾(الشعراء:224-227).
ترى المعاجم اللغوية أن الصدق ضد الكذب، وتفسّر بعض كتب البلاغة العربية الصدقَ بأنه مطابقة الخير للواقع، والكذب بعدم مطابقته للواقع، لكن الصدق في الأدب يعني الصدق الشعوري المنبعث من الإيمان، والناتج عن الالتزام بقيم الإسلام. وهذا الصدق في العمل الأدبي، لا يتناقض مع التعبير الفني وجماليته ووسائله المختلفة طالما أن هذه الوسائل توضح الحقيقة، وتكشف عن كنهها، وتؤكدها في ذهن المتلقي.
وقد وردت هذه السمة ضمن قول عمر بن الخطاب في زهير بن أبي سلمى: “ولا يمدح الرجل إلا بما فيه”،(7) وهي عبارة يُفهم منها معنى الموافقة مع واقع الحال، أو الصدق في الواقع. كما وردت كلمة الصدق في بيت شعر لحسان بن ثابت بمفهوم مطابقة نفسية الشاعر أو حاله:(8)
وإن الشعر لب المرء يعرضه***على المجالس إن كَيسًا وإن حُمقا
وإن أشعر بيت قائله***بيت يقال إذا أنشدتـه صدقا
وقد خاض عديد من النقاد العرب في هذا المفهوم بعد عمر بن الخطاب وحسان بن ثابت رضي الله عنهما؛ أمثال الجاحظ وابن طباطبا وغيره… يقول الجاحظ: “وأنفع المدائح للمادح وأجداها على الممدوح وأبقاها أثرًا وأحسنها ذكرًا أن يكون المديح صدقًا ولحال الممدوح موافقًا وبه لائقًا”. فمن خلال هذه القولة، تتجلى لنا بوضوح الدعوة إلى الالتزام بالصدق في الشعر عنده. ووقف “إحسان عباس” في كتابه ” تاريخ النقد الأدبي عند العرب” على معنى “الصدق” في نقد ابن طباطبا في كتابه “عيار الشعر”، فرأى أن لدى ابن طباطبا استعمالات مختلفة له:
- الصدق الفني أو إخلاص الفنان في التعبير عن تجربته الذاتية. يقول ابن طباطبا: “فإذا وافقت هذه الحالات، تضاعف حسن موقعها عند المستمع، لا سيما إذا أيدت بما يجلب القلوب من الصدق عن ذات النفس بكشف المعاني المختلجة فيها، والتصريح بما كان يكتم منها، والاعتراف بالحق في جميعها استفزازًا لما كان يسمعه”.
- صدق التجربة الإنسانية -وهذه تتمثل في قبول الفهم للحكمة- يعلل ابن طباطبا ذلك “لصدق القول فيها، وما أتت به التجارب منها”.
- الصدق التاريخي وذلك “يتمثل عند اقتصاص خبر أو حكاية أو كلام”.
- الصدق الأخلاقي؛ فالقدماء كانوا يؤسسون أشعارهم في المعاني التي ركبوها على القصد للصدق فيها مدحًا وهجاءً… إلا ما قد احتمل الكذب فيه حكم الشعر من الإغراق في الوصف والإفراط في التشبيه. فكان مجرى ما يوردونه مجرى القصص الحق والمخاطبات بالصدق.
- الصدق التصويري، ويسميه ابن طباطبا “صدق التشبيه” فعلى الشاعر “أن يعتمد الصدق الحق والوفق في تشبيهات”.
وفي العصر الحديث نجد من المهتمين بمفهوم الصدق في الأدب، الناقد “محمد النويهي” الذي وضع كتابًا خاصًّا يعالج موضوع “الصدق في الأدب”، ويبيّن لنا من خلاله صعوبةَ التحديد مطلقًا، رغم أنه قدم لنا فيه بعضًا من شروطه:
أ. “أن تكون عاطفة الأديب التي يدّعيها قد ألمت به حقًّا، وأن تكون عقيدته التي يتبناها هي عقيدته الحقيقية في الموضوع الذي يتناولـه.
بـ. أن تكون حدة تصويره ناشئة عن حدة شعوره وقوة حساسيته لا عن رغبة المبالغة والتهويل.
جـ. ألا يخالف تصويره النواميس البدائية للكون كما نعرفه، ولا حقيقة السلوك -السلوك الإنساني- فيما نخبره من البشر في تجاربهم ومواقفهم، هذا فيما عدا الموضوعات الخرافية والأسطورية.
د. أن يكون من شأن صنعته أن تزيد عاطفته جلاء وقربًا لا أن تقف أمامها حجابًا يشغلنا تأمله من النظر فيها”.(9)
وهذه الاستعمالات المختلفة للصدق، تجتمع حول معنى تحري الحق… من هنا فالصدق في الأدب يتحقق إذا انطلق من عاطفة المبدع وانفعاله، وصدر عن رؤية متعمقة للواقع والأشياء تتجاوز الأحداث لاستبصار أبعادها الجوهرية.
وقد تجزأت هذه الرؤية الأخلاقية التي تتكامل فيها دلالات الصدق، في أغلب ما أنتجه الأدب العربي الحديث ونقده، وأصبح الأدب كي يكون صادقًا وناجحًا، لابد أن يكون أدبًا مكشوفًا، وأصبح الاتجاه الطاغي حاليًّا إبراز بعض القضايا بأساليب كاشفة منحطة، إلا من رحم الله.
وانتقادنا لهذا الواقع السائد في الأدب يرجع إلى اعتبار؛ أن تبني الأديب للكلمة الطيبة الجميلة، والمساهمة في تهذيب الذوق العام وتربيته، وأن الوعي بحاجة المتلقي العربي لأدب يقدم الواقع ولا يهرب منه، وتقديمه برؤى إنسانية وجمالية تخرج به من شرنقة التغريب والانحطاط، ضرورة إنسانية وحضارية. وهذا لا يعني أن علينا مصادرة حرية الأديب، بل تعني أن ينضبط بمسؤولية تهذيبها وتسديد طريقها، كي تسلك مسلكًا إنسانيًّا رفيعًا، فلا تُسقط هذه الحرية الأديب نفسه في نظر مجتمعه، ولا تُلحق الضرر بغيره إذا طاشت حريته، ولم ترشّد. فالتزام الأديب بقيم الإسلام ومقاصده يجعله في مستوى عال من الحرية الإنسانية ذات الأدب الجمّ. والذي يقوده إلى ذلك هو طبعه الإسلامي وقلبه التّقي، وحسّه الإنساني المرهف؛ من هنا يصح لنا أن نقول؛ إن رسالة الأديب المسلم ربانية إنسانية، وليست حيوانية أو شهوانية. وإن الأديب -بصفة عامة- ليس مجرد إنسان يملك مشاعر وأحاسيس، ويعاني من المشكلات والصعاب والآلام المنتشرة في المجتمع الإنساني، وإنما هو أيضًا -وقبل أي شيء آخر- يملك رسالة حضارية، تخول له البحث عن تجاوز للمعاناة، وعن حلول للمشكلات حتى وهو في أكثر لحظاته انفعالاً وتصويرًا وإبداعًا، كما أن الله تعالى حباه بشحنات مضاعفة من دقة الإحساس وعمق الشعور بالمسؤولية عليه توظيفها في أدبه.
والأديب المسلم وإن لامس في الحياة تجارب هابطة وغير أخلاقية، فإنه يعبر عنها تعبيرًا حيًّا يدفع إلى النفور من ذلك الواقع. وهذا الأمر نجده -بشكل أو بآخر- في كل الحضارات الإنسانية، كما نجده عند بعض الأدباء أنفسهم وإن كانوا غير منتسبين إلى الإسلام، يقول بلزاك: “ليست مهمة الفن أن يقدم نسخة طبق الأصل عن الواقع، وإنما أن يعبّر بشكل فني عن هذا الواقع، أن يكشف عن لغزه وسره”.
ومن القيم التي نجدها في أدب المسلم أيضًا قيمة “الطيبة” المرتبطة بالمفهوم القرآني في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ * يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ﴾(إبراهيم:24-27).
ولا يمكن استجلاء هذا المفهوم، إلا في علاقته بمفهوم الخشية من الكلمة الخبيثة كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم: “إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يلقي لها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة في سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً، يهوي بها في جهنم” (رواه البخاري).
ومعلوم أن الألف واللام في “الكلمة” للجنس فتشمل جميع أنواع الكلام من غير تخصيص، حتى التي تدخل في مجال الأدب والمجاز والاستعارة. ونظرة إلى الأدب التي ينتجه المسلم الملتزم بقيم دينه ومبادئه، يكشف أنه يعف قلمه عن كتابة كلمة “خبيثة”، وإن تعرض لأي قضية من قضايا الذات أو المجتمع أو الأمة، فمهما سمت أو سفلت فإنه يتعرض لها بأسلوب عفيف طيب. والنماذج كثيرة ومتعددة.
وتحري سمات الصدق والطيب عند الأديب المسلم يسلمه إلى تحري عناصر الهدف واليقين وانتفاء العبث عن كتاباته امتثالاً واستجابة لقوله تعالى: ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ﴾(المؤمنون:115). فهو يعرف قيمة الأدب ورساليته ودوره في الدعوة إلى الله وإصلاح النفس والمجتمع. ويعي أنه طريق مهم من طرق بناء الإنسان الصالح والمجتمع الصالح، وأداة من أدوات الدعوة إلى الله والدفاع عن الشخصية المسلمة. فيسعى إلى تسخير بيانه لرسالته في إطار وعيه بقيمة الكلمة ومسؤوليتها، ودورها في التأثير وتشكيل وجدان الإنسان؛ خاصة وأنه يعيش في ظل عولمة تتنازعه فيها المفاهيم والأفكار والتصورات بكل سلبياتها.
ومن القيم التي يجب أن يتميز بها أدب المسلم؛ الإتقان. عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه”، (رواه أبو يعلى)، وهذه خاصية يجب ألا يُتهاون فيها كي تقدم نصوصًا جمالية يمكن أن تؤثر، لأن أيّ نص يخلو من جمالية التعبير وإتقان الصيغ والأسلوب، لا يمكن أن يُعد أدبًا.
ومن خلال هذه السمات والعناصر، يتكامل البعد الجمالي مع البعد القيمي والأخلاقي. ذلك أن القيم في العمل الإبداعي عمومًا، لا ينتقص من جمالية النص الأدبي مهما كان جنسه، لأنها سلوك جمالي ينبع من فطرة الإنسان. وقديمًا لم يقبل “أفلاطون” الشعر إلا إذا كان مرتبطًا بوظيفته التربوية ومهمته الأخلاقية. ولذلك رتب أجناس الشعر، حسب دلالتها الأخلاقية المباشرة.(10) وحينما يتحلى النص الأدبي بالقيم، فإن النص يشع بالجمال، لأن مركز الجمال في المفهوم الإسلامي يكمن في الخلق الحسن. ومن هنا يكون تغييب القيم الإنسانية عن الإبداع، تعبيرًا عن الانحراف الفكري والعقدي، وانعكاسًا لشكل من أشكال التخلف والرجعية والانحطاط إلى مستوى الحيوانية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش
(1) محاولات جديدة في النقد الإسلامي، للدكتور عماد الدين خليل، مؤسسة الرسالة، بيروت، ص:9، ط:1، 1989.
(2) انظر: نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد، لعبد الرحمن رأفت الباشا، طبعة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، 1405هـ/1985م.
(3) الأدب الهادف، لمحمد النويهي، ص:67.
(4) انظر: جمـالية الأدب الإسلامي، لمحمد إقبال عروي، المكتبة السلفية، البيضاء، ص:19-20، ط:1، 1986.
(5) وظيفة الأدب في المفهوم الإسلامي، للدكتور عماد الدين خليل، مجلة الأمة، عدد:28، س:3، 1983.
(6) بديع الزمان النورسي، أديب الإنسانية، لحسن الأمراني، منشورات مكتبة سلمى الثقافية 8، ص:18، ط:1، 2005.
(7) العمدة، لابن رشيق، ج:1، ص:80.
(8) ديوان حسان بن ثابت، ص:169.
(9) محاضرات في عنصر الصدق في الأدب، معهد الدراسات العربية العالية، القاهرة، 1959.
(10) انظر: النقد الأدبي الحديث، لمحمد غنيمي هلال، ص:33.