يطيب لي أن أتحدث في هذا المقال عن واحد من الأدباء والكتاب الأردنيين، الذين حققوا حضورًا بارزًا على الساحة الثقافية، لا سيما الأدبية، هو أستاذي صلاح جرار، وهو شاعر، وناقد، وأكاديمي، شغل عدة مناصب، منها: رئيس جامعة، وأمين عام لوزارة الثقافة، ووزير ثقافة، وهو إلى جانب ذلك أستاذ الأدب الأندلسي، في الجامعة الأردنية، منذ (1982)، وقد يكون من المفيد الإشارة هنا إلى أن صلاح جرار، ولد سنة (1952) (1) في جنين، وبالتحديد في قرية كفر قود، ومن المعروف أنه صاحب تصانيف عدة، وقد أشرف على الكثير من الرّسائل والأطاريح الجامعيّة، لا أرى داعيًا للإفاضة في سردها، مما لا يتسع له صدر المقال.
جادك الغيث بين الأصالة والمعاصرة
قد يجدني القارئ بادئ ذي بدء، أنني معتدٌّ بنفسي، ومتحاملٌ على غيري، ولكنّ الحقيقة ستثبت عكس ما يظن ويتوهم؛ إذ إنّ القارئ حين ينتهي من قراءة هذا المقال، حتمًا سيلاحظ أنني قصدتُ فقط أن أكون ناقدًا موضوعيًّا وباحثًا تطبيقيًّا.
إنّ ديوان جادك الغيث، صادر سنة (2015)، عن دار الرّابطة للنّشر والتوزيع، ويتضمن ثلاثًا وسبعين قصيدة، موزّعة على مئتي صفحة تقريبا.
ومن الجدير أن نشير إلى أنّه ليس ثمّة شيء من الاتهام، إذا قلنا إنّ الذي يطالع مقالة الشّاعر سعيد يعقوب، الموسومة بـ تمظهرات الحنين في ديوان جادك الغيث” لصلاح جرّار(2)، لن يعثر فيها إلّا على نظرة، قد تولدت، في الحقيقة، من رأي المأخوذ إلى حدّ الإعجاب والانبهار بالشّاعر جرّار، لا غير.
استنادًا لما سبق ذكره، يبدو هذا القول، نقدًا وغزلًا شاعريًّا، يخالف الحقيقة النّقديّة العلميّة؛ لأني لا أدري إذا كان هناك ثمّة مبرر ومسوّغ نقدي، من عبارات المديح، والثّناء، والإطراء، المنتشرة على مساحة المقال، خصوصًا أنّ كلمة (جميل) تكررت أربع مرّات، ودون أن نخوض في النوايا، حسبنا أن نقول بأنّه ليس من الصّعب إيجاد مبرر بعيدًا عن دائرة النّقد في مثل هذا الحكم، لذا قد يخيّل للكثيرين أنّه إنّما أراد التّحفيز والتّشجيع، على سبيل الحثّ على قراءة الديوان، وإذا كان الأمر كذلك، فلا بأس، ولا ضير.
على أنّ القول الذي لا مراء فيه، هو أنّ مثل هذا الحُكم، لا قيمة له في ميزان النّقد؛ لأنّ “وظيفة النّقد الأدبيّ وغايته، تقويم العمل الأدبيّ من النّاحية الفنّية، وبيان قيمته الموضوعيّة، وقيمه التّعبيريّة والشعّورية، وتعيين مكانه في خطّ سير الأدب، وتحديد ما أضافه إلى التّراث الأدبيّ في لغته، وفي العالم الأدبي كلّه، وأن نعرف أهو نموذج جديد أم تكرار لنماذج سابقة مع شيء من التّجديد؟”(3).
ولو سلّمنا جدلًا بهذا الحكم على شعر صلاح جرّار، بأنّه جميل ورائع، فإنّ المقالة برمّتها لا تصمد أمام المناقشة العلميّة، بدءًا وانتهاءً، ومرد ذلك ببساطة، إلى أنّ سعيد يعقوب، كثيرًا ما يحمّل النّص الشّعري ما لا يحتمل من التّحليل، والتأويل، والتّفسير، هذا وقد حَمَلَ النّص في كثير من الأحيان على غير وجه النّقد البنّاء والموضوعي، ناهيك عن الشّطط، والخلط الممجوج بين الرّمز وما قصده النّص الشّعريّ.
وعلى هذا الأساس، أستطيع أن أوضّح موقفي، بأنّي لا أرى أنّ الشّاعر صلاح جرّار في ديوانه جادك الغيث استغلّ الرّمز والقناع كتكنيك أو أداة فنيّة، بدليل أنّ النّصوص الشّعريّة المطروحة في الدّيوان غالبًا ما كانت تُفصح عن نفسها بنفسها، دون أن تحتاج منّا إلى مكابدة وعناء لاستجلاء المضمر، وعلى كلّ ما سبق ذكره، أرجو أن يكون النّاقد واسع العقل، رحب الصّدر، وأن ينأى بنفسه وأفكاره عن التّحيّز والتأثر، وليعذرني الشاعران الكبيران (الجميلان) في ذلك، لأوّلهما مكانة في قلبي، ولثانيهما محبّة خالصة، إذ غرضنا التّذكير، والتّوضيح، والتّصويب.
إنّ الشّاعر صلاح جرّار، وقد أُخذ بروعة الماضي، طفق ينسج نصًّا شعريًّا على شكل القصيدة التقليدية، موظفًا البحور العروضيّة، وينسجم إلى حد ما مع مضمون القصيدة الأندلسيّة، ليؤكد علاقته الوثيقة بالشّعر الأندلسي.
لهذا، لا يستطع جرّار في أحايين كثيرة التفلت من ربقة الشّكل القديم للقصيدة العربيّة، ولا بدّ لنا من الآن في أن نذكر بأنّ الشّاعر خاض نزعة التّجريب في الشّعر لا سيّما قصيدة التفعيلة، وكتب على غرارها ومنوالها، إلاّ أنّه لم يوفّق وينجح، هذه حقيقة.
والسّبب في ذلك، إنّما يرجع في اعتقادي، إلى أنّ الخوض في مسألة التّجريب والتّحديث في ظن الشّاعر، قد لا تتفق مع فطرته الذّاتيّة وسجاياه الشّعريّة، وهذا في رأيي ما تفسره القصائد؛ إذ إنّ نصيبها في الدّيوان ضئيل جدًّا، ولا تتجاوز ست قصائد، فيما يمكن أن نطلق عليها باليتيمة، وهي الموسومة بـ: “حزن أبيض”، و”زائر الأصيل”، و”جيّان”، و”على باب لوشة”، و”كُوِنْكا”، و”فوّضت لك الأمر”. وهذه الأخيرة أقرب ما تكون إلى لغة السّرد العادي، مما من شأنها أن تجعل القارئ يختلط عليه الأمر، فتارة تحسب بأنّ الشّاعر يكتب قصّة، وتارة تشعر أنّه يكتب شعرًا، لذا من الأنسب، أن تكون لغة الشّعر، لغة شعريّة، لا نثريّة.
ومن هذا الاستعراض السّريع، اضطررتُ أن أجعل أمثلتي هنا من الشّعر العمودي؛ لأنّ القصائد المدرجة، التي تظهر للقارئ، جاءت على هيئة شعر التفعيلة، وغالبًا ما ترتد إلى الشّكل العمودي، من خلال إعادة ترتيب السّطور والمقاطع، هذا بالإضافة إلى أنّ قيمتها الفنّية مرتفعة بالمقارنة مع قصائد التّفعيلة، وهذا تمامًا ما يؤيد رأيي السّابق.
والحقيقة أنّ “إنتاج مثل هذا الشّكل الهجين ما بين القصيدة العموديّة والتّفعيلة، ينتقل بهذه القصيدة وسواها إلى أفق أكثر إشراقًا وتميزًا وتوسطًا”(4).
لكن في المقابل، أستطيع أن أقرر بأنّ الحقيقة الأكبر من الواقع الظاهري، أنّ إنتاج صلاح جرّار وغيره مثل هذا الشّكل من القصائد، وهي تخوض نزعة الحداثة والتّجريب، قد يفقدها إلى حدّ كبير جمال الأسلوب والتّعبير الشّعري بالقياس إلى القصيدة العمودية الخالصة.
لذا، لا أجد في قصائد التفعيلة المطروحة في ديوان جادك الغيث، على قلّتها، بأنّها تمتلك الأداة الفنّية الحديثة، في مستواها العالي والرّاقي، كالتناص، والرّمز، والأسطورة وما سوى ذلك من تقنيات، ولا أدل على ذلك، أنّ الشّاعر صلاح جرّار، وهو يخوض التجربة، عبثا حاول أن يتخلّص من الموسيقى التقليديّة، التي ما زالت تلازمه ولا تبارح وعيه وذاكرته، والمتجسدة في القافية والرّوي، هذا فضلا عن أنّ القصائد تخلو من اللغة التي تستعصي على التأويل للوهلة الأولى، وتفسير ذلك في رأيي يُردُّ إلى أنّ اللغة الشّعرية تميّزت بالبساطة، والسّلاسة، والوضوح، والأمر كذلك ينسحب على المعجم الشّعري، أقل ما يقال بأنّه معجمٌ قريب من العامّة، وأي تفسير آخر للنّصوص كالقول بأنّها معادل موضوعي، وصورة رامزة، وقناع، وبأنّ المرأة رمز للأرض والوطن، هو تصوّر في رأيي قاصر، وغير مقبول من المنظور النقدي الصِّرف، هذا إن لم يكن منطقيًّا، ذلك أن هذه النّصوص الشّعرية، أرادها الشّاعر أن تكون واضحة، وظاهرة، ومفهومة للعيان، وبعيدة عن كلّ هذا التّعقيد والتّهويم، وهذه سمة وميزة، لا تقلل من قيمة الشعر أبدًا، فالمحبوبة هي المحبوبة، والوطن هو الوطن.
ولا يفهم من هذا، أنّي أنكر الرّمز في الأدب لا سيّما الشّعر، قطعًا لا، وإذا كان كعب بن زهير كما يقول سعيد يعقوب بأنّه اتّخذ من المحبوبة مرموزًا للحياة الجاهلية؛ لما فيها من سعادة وهناء، قد اعتادها العرب، بكلّ ما فيها من انطلاقة وحرّية، دون قيدٍ وشرط، فهل من المعقول أنّ نتفق على أنّ صلاح جرّار اتخذ من المحبوبة مرموزًا للحياة المعاصرة؟
وبناءً على ذلك، أؤكد أنّ مسألة التّجريب عند صلاح جرّار لم تكن بالتّجربة الموفقة بالشكل المطلوب والجيّد، من ناحية البناء الفنّي، كما هي عند شعراء الحداثة، أمثال محمود درويش، وأمل دنقل، والسياب، وغيرهم.
ولا داعي لأن أستعرض ذلك، إذ يمكن للقارئ الاطلاع على القصائد المذكورة سابقا، غير أنّ هذا لا يعني طبعًا التقليل من قيمة المنجز الشّعري، أقول هذا وأنا لا أنكر على الشّاعر شاعريّته، كما لستُ أقول هذا تهجمًا على شعره وتهجينًا لشعره، وكيف وأنا ما زلتُ، أدين بفضله، وعلمه، وآرائه، وقد تتلمذت على يديه إذ كنت طالبًا في الجامعة الأردنية. ونصل الآن إلى الحديث عن المضمون الشّعري في ديوان جادك الغيث.
المضمون الشّعري
إنّ المضمون الشّعري في ديوان “جادك الغيث”، يكاد أن ينكشف للقارئ من خلال العنوان، إذ يستلهم جرّار من قصيدة “جادك الغيث إذا الغيث همى ** يا زمان الوصل بالأندلس” للشاعر لسان الدين الخطيب، ويجعلها عنوانا لديوانه الشعري، وكأنّه قصد به تذكير القارئ بالماضي الجميل بعد أن فقد الأمل في الحاضر.
وأعتقد، أنّ في استعارة هذا العنوان، معنى عاطفيًّا، أكثر من كونه مجرد لفت النظر والانتباه، في محاولة هروب الشّاعر من الحاضر إلى الماضي، وعليه، فإنّ استخدام العنوان جاء كإشارة تاريخيّة دالة على البعد الزّمني، الأمر الذي يؤكّد أنّ استخدام جرّار يدل على وعي، ومما يؤيد هذا الاستنتاج أن الإشارة غير مبتسرة، وتامة الدّلالة كما تبدو.
المعجم الدّلالي
إنّ اهتمام الشاعر بموضوع معيّن، غالبًا ما يجعله يركّز حول مجموعة من الألفاظ والمفردات؛ خدمةً في التّعبير عن ذلك الموضوع، وتبعًا لذلك، يعتمد الحقل على ملاحظة نسبة تردد الألفاظ بكثرة في الديوان، الأمر الذي يشير إلى أن الموضوع ذو أهمية بالقياس مع الموضوعات الأخرى الأقل تكرارًا وترددًا.
من هذا المنطلق، سنحاول تحديد المفردات الأكثر ترددًا في المعجم الشعري ومتعلقاتها للشّاعر صلاح جرار، في ديوانه جادك الغيث، وهو ما يمكن تقسيمه إجرائيًا إلى حقول دلاليّة، كما سنرى لاحقًا، يتشكل بها ومن خلالها منطلقاتها الجمالية والبنائية.
الحقول الدلاليّة
لم يعد سرا القول بأن الشاعر صلاح جرار من الشعراء الذين استفادوا من معجم القصيدة الأندلسية، شكلًا ومضمونًا.
ووفقًا لهذا التّصور، فإنّ الحقول الدّلالية تتنوّع في ديوان جادك الغيث، حيث يمكن إجمالها بالإهداء الممهمور من الشّاعر نفسه، الذي يعبّر عن المضمون الشّعري إلى حد كبير، إذ يقول: إلى المسكونين بالحبّ والحزن والصّدق وصفاء السّريرة”، من هنا أجاد صلاح جرّار وبرع في صياغة لغة الإهداء، التي ترتكز على الإيجاز والتكثيف، على أنّ القارئ في وسعه أن يضيف إلى ذلك ألفاظا كثيرة، تتعلق بالإهداء، مبثوثة في مطارح النّصوص الشعرية، من مثل: المرأة، العشق، الشّوق، الوصال، الغياب، البكاء، الحنين، التفاؤل، الفرح، الهوى، الهجر، اللقاء، الوفاء، والوجد، إلى ما سوى ذلك من دلالات تنبض بها النّصوص الشّعريّة.
يجدر بي أن أنوّه هنا، ومنذ الآن، إلى أنّ هناك حقولًا كثيرة غير مذكورة، يستطيع القارئ أن يضيفها إلى هذه الحقول، وعلى سبيل الذكر لا الحصر: حقل المرأة، وحقل الطبيعة، وحقل الحيوان، وحقل النبات، وحقل الخمرة، يمكن للقارئ استنتاجها، إضافة إلى أنها تتداخل في كثير من الأحيان، بعضها في بعض، ونزيد على ذلك الإشارة إلى أنه لا فاصل يقطع بينها، ولكننا اعتمدنا هذا التقسيم حتّى لا يخرج واحدٌ علينا ويقول بأنّ المقال يخلو من المنهجيّة، التي تتطلب وضع مثل هذه الفواصل والحواجز!
حقل الحب والعشق
لا أغالي إذا قلت بأنّ هذا الحقل ومتعلقاته، شغل مساحة كبيرة في نصوص جرّار الشّعريّة، وأستطيع هنا أن أعطي مثالًا واحدًا من القصيدة التي جاءت على هيئة سؤال، مفيدةً التعجب والاستنكار، وهي قصيدة: “هل من العشق مهرب؟!”، إذ نلاحظ أنّ المعجم الموظّف لا يخرج من دائرة هذا الحقل، حيث يقول:
“لي فــــــــؤادٌ مُعـذّبُ**وضميرٌ مـــؤنّــــــــبُ
وحبــــــــــيبٌ بطبعــه**في المواعيــــــدِ يكذبُ
يا خليليّ في الهـــوى**هل من العشقِ مهربُ؟”
يتشبث جرّار بالحبّ، كما أنّه دائم الحديث والتّفكير بالحبيب المنتظر، يقولها صراحة، من غير مواربة ولا مداورة، في ألفاظ وتراكيب، تنم عن الرّقة في الشّعور ودقّة في الإحساس، وهذا ما نجده في قصيدة “نحن ندعو وهو يلبي”:
“أيّها السّائلونَ عنّيَ حَسْبي
أنَّ ذَنْبَ الحَبِيْبِ لَيْسَ بِذْنبِ
إنْ أردتُمْ سُؤالهُ عَنْ ذُنُوبٍ
فَخُذُوا دُونهُ عُيونِـي وَقلبِي”
وفي قصيدة “سراب الأحلام”، يستمر ذات الإحساس الرّقيق، المفعم بالحبّ، ذلك من خلال الاتّكاء على معجم المرأة، الذي ظهر واضحًا وجليًّا، في ألفاظ ودوالٍ وتراكيب باعثة على الإغراء، كما أنها تستدعي على الفور في الذّهن مشاهد أقل ما يقال عنها بأنّها حميمة وعشقية، من شأنها أن تستثير القارئ، وتخرجه من دائرة المحظور، وبالرّغم من ذلك تجدر الإشارة إلى أنّ هذه المشاهد المحفّزة على التفاؤل والمنشطة على الإغراء مجرد سراب وأحلام، لا أساس لها في الواقع، وهذا يؤكد بما لا يدع مجالا للشك في أنّ كلمات الخيبة حاضرة بقوّة في القصيدة، وتتردد بين بيت وآخر، فضلا عن أنها تتراوح بين الحضور والغياب، وبالمحصّلة، فإنّ أحلام جرّار في هذه القصيدة بالتحديد تتراءى لنا على أنّها مجرد سراب، لا وجود لها على أرض الواقع، ومن جملة ما تقدم يتضح أنّ الأحلام بمنزلة تعويض عادل عن خيبات الواقع، من هنا يفزع جرّار في قصيدته إلى المرأة من خلال أحلامه، طلبا للسلوى، فوفّق إلى حد كبير في عنوان سراب الأحلام، بما يتناسب ومضمون القصيدة، إذ يقول:
“وأعزُّ شيءٍ في الضّمير حضُوره
وأَمَرُّ شيءٍ في الفؤادِ غيابهُ
وأحبُّ شيءٍ لي حــــــــلاوةُ ثغره
وألــذُّ منه في الحديثِ جوابُهُ”
حقل الشوق والحنين
ترتبط دوال هذا الحقل بسابقه، وتبعًا لذلك، فإنّها كثيرًا ما تتردد في مواضع النّصوص الشعريّة، مشحونة بطاقة كبيرة من العاطفة، وعلى مدار قصيدة “الزّمن العذب” المؤطّرة بدائرة الزّمن وقيوده، تتردد مفردات وتعابير: الشّوق، اللقاء، الحبّ، النّوى، البعد، الهجر، الوصال”، ودونك بيتين من القصيدة، تتكرر فيهما مفردة (الشّوق) أربع مرّات، وهذا ما يؤكّد صحّة ما اعتقدناه سابقا في أنّ الشّاعر وفق تمام التّوفيق في صياغة لغة الإهداء بما يتناسب مع المعجم الشّعري، حيث تجمع الشمول والعموم، يقول:
“شوقي إلى ذاك الزمانِ وطِيبه
شــوقُ المحبِّ إلى لِقَاءِ حَبيبهِ
لكنّ شَـــــــوقي عَادَ بَعْدَ رحيله
شـوقَ العَليلِ إلى لِقاء طَبيبهِ”
حقل اللقاء والوصل
وعلى غرار أسلوب اللغة المفعمة بالرّقة، والعذوبة، والرّشاقة، يقدّم جرّار قصيدة “إرث العاشقين” الممزوجة بالحكمة، حيث يقول:
“والعمر في غيرِ بابِ الوصلِ مَضيعةٌ
والوصلُ مِنْ غَيرِ بابِ الهَوى عَبَثُ”
وليس بعد اجتناءِ الشّهدِ مِنْ أَمَـــــــلٍ
وَلَيس بَعد تباريـــــح الهَـوَى حَدَثُ”
لا أنحاز كثيرًا، ولا أتطرّف، إذا قلت بأنّ الحِكمة غالبًا ما تأتي نتاج ثمرة انفعال شعوري، بالإضافة إلى تراكم خبرات وتجارب، لهذا جاءت الحكمة عند جرّار حارّة ودافقة وصادقة، وغنيّة بالصّور والظّلال. وفقًا لهذا الاستنتاج، نستطيع أن نتبيّن إلى حدّ ما العاطفة الحارّة من الباردة بالحدس، والشّعور، والذّوق، على الترتيب.
حقل البعد والهجر
استخدم الشّاعر مفردات متنوعة في نصوصه الشّعريّة، كتعبير عن البعد والهجر، كالنّأي، والفراق، والغياب، والنّوى، وغيرها من المترادفات، إذ يقول في قصيدة “عتاب وأعاذير”:
“كم ذا يعاتبني في النأي أحبابيا
ليتهم عرفوا إذ عاتبوا ما بيا”
حقل الحزن والألم
وفي قصيدة “ضجيج ونشيج”، نلاحظ أنّ الحزن الذي دائمًا ما يصحبه الألم النّفسي والجسدي، قد بلغ عند الشّاعر أقصى مداه، فتحول إلى استسلام، حيث يقول:
“وفاض الدمعُ من مُقلِ الليالي
فَكانَ لهُ بأحزانــــــي مزيجُ
فَـــذا حـــزنٌ بقافيتــي مُقــيـمٌ
وَذَا ألمٌ بأحشائـــي يَهيـــــجُ”
وفي قصيدة “جروح الغياب”، المجهشة بالبكاء، والمشحونة إلى حدّ التّخمة بمفردات تئن بالفقد والحنين والشّوق، يصوّر جرّار من خلالها حالة الألم والوجع، في نبرة عالية، لا تخلو من الحزن، المتمثل بالبعد والغياب والهجر، يقول:
“أنا جســــــــمٌ آدمــــــــيٌّ
وهو لــــــي نبــضٌ وروحْ
لم أزل منذ هجرتَ الـــــدّارَ
أبـــــــــكي وأنــــــــــــوحْ
فَـــإذَا مَاْ غِبْتَ عَنّـــــــــــي
بَقِيَــــتْ مِنْكَ جُـــــــــروحْ”
حقل الطّبيعة
إنّ مفردات هذا الحقل كثيرة، لا يمكن الإحاطة بها كاملة في هذا المقال المحدود المساحة، إذ نذكر على سبيل المثال لا الحصر: الليل، الكوكب، البدر، الأرض، الرّياح، الصّباح، الرّبى، وقد نجد مثالًا بارزًا على ذلك في قصيدة “ذات الوشاح”، إذ يقول الشّاعر:
“تَعَلّقَ القلبُ بِذَاتِ الوِشَاحْ
وأشَرَقَ الليلُ بِكَـــــــــأسٍ وراحْ
وَأدْرَكَتْنِي لَهْفَــــــةٌ عِنْدَمَـا
سَامَرنِــــــي الكَوكَبُ وَالبَدرُ لاحْ
أنْطَقَنِي الشّوقُ بِمَا أشْتَهِي
فَسَارَ في الأرضِ مَسِيْرَ الرّيـاحْ”
وحسبنا هذه النّماذج الشّعريّة الّتي أوردناها ليس للإحصاء بقدر ما كانت للدّلالة على تنوع الحقول الدّلالية عند الشّاعر صلاح جرّار، معترفًا بأنّي لم أفعل ههنا أكثر من أنني فتحتُ الباب إلى موضوعٍ لعلّه لم يدرس من هذا الزّاوية في الديوان، وبعد هذا، فإنّي مضطر أن أتحدّث عن الطّبع والتّكلف، كي أستطيع أن أضع حكمًا نقديًا، يقرّبني من الصّواب والدّقة والموضوعيّة.
الطبع والتّكلف
يبقى بعد هذا، أن نتساءل عمّا إذا كان الشّاعر صلاح جرّار من الشّعراء، يذهب مذهب المطبوعين كما رأى سعيد يعقوب، أو أنّه ينحاز إلى مذهب المتكلفين، وهما قضيتان نقديتان، ولا أفضلية لإحديهما على الأخرى في رأيي.
من نافلة القول؛ بأنّ الشاعر يقول وعلى النّاقد أن يعرب ويقرر، وتأييدًا لهذا القول، فإنّ من الواضح الجلي الذي لا يرقى إليه الشك، أنّ الشّاعر يمزج في نصوصه الشّعريّة بين التّكلف والطبع، وفي الواقع إنّ أثر التّكلف والتّصنع ظاهر، خصوصًا في زيادة ما لا يحتاج الزّيادة في كثير من نصوصه الشّعريّة، إضافةً إلى التّصرف بالألفاظ والتّلاعب بها لا سيما قوافي القصائد، الأمر الذي يسمح للقارئ العادي أن يضيف قافية جديدة، على الوزن والرّوي نفسهما، من بدائل كثيرة متاحة أمامه، دون أن يؤثر بالطّبع في محتوى القصيدة أو في مرمى المضمون المقصود، وفي هذه الحالة لا نجد ما يبرر مثل هذا التّصرف، سوى إظهار المقدرة على الشّعر، خذ مثالًا لذلك، قصيدة “درب العاشقين”، حيث يقول:
“لِي مِنْكَ فِي القَلبِ نُور
وَبَهجةٌ وَسُـــــــــــرورُ
وَقَــدْ حَلَلْتَ فُـــــــؤادي
فَطَابَ مِنْكَ الحُضُــــــورُ
يَا مَنْ حَنَنْتُ إليــــــــــه
هَلْ نَلْتقي أوْ تَــــــــزورُ(5)
لستُ أراني في حاجة إلى أن أبيّن أكثر من هذا، فهي أوضح من أن نحاول إيضاحه وتحديده، خاصّة أنّ المكان أضيق من أن يسمح لنا بذلك، أقول هذا وأنا لا أنكر أنّ صلاح جرّار، من الشعراء الأردنيين المثقفين والمميزين، الذين يمتلكون ناصية اللغة والتّعبير.
الخاتمة
تتنوّع الحقول الدّلالية في ديوان جادك الغيث، كما أميل إلى الاعتقاد بأنّ الشّاعر صلاح جرّار قد حالفه التوفيق في إدخال اللون والنّفس الأندلسي في نصوصه الشّعريّة، وهذا ليس بمستغرب، لأنّ العلاقة ليست خفية على القارئ، ولا تحتاج إلى ذكاء وألمعية في تلمسها في الدّيوان والوصول إلى معرفتها، يكفي بذلك دليلًا على صحّة ما تذهب إليه عناوين القصائد ومفرداتها، من نحو: كؤوس الرّضا، إرث العاشقين، ذات الوشاح، على لسان ابن زيدون، درب العاشقين، شجن أندلسيّ، ليل العاشقين، كؤوس الوئام، سَكَنَ الليل، نظرة حزن إشبيليَّة.
أمّا من حيث الفنيّة الشّعريّة، فإنّ بقراءة ديوان جادك الغيث، يتضح بأنّ الأسلوب ظهر بسيطًا جدًّا، ومن السّهل الممتنع، كذلك الألفاظ جاءت سلسلة، والتّراكيب بسيطة وواضحة، والتّعابير رشيقة ورقيقة، تدل على حسّ شاعري مرهف، وهذا ما يفسر قربها من الذّوق العام.
وصحيح أنّ طابع الشّخصيّة سمة عامّة عند الأدباء، إلّا أنّ الحقيقة تؤكّد أنّ النّصوص الشّعريّة في جادك الغيث، يغلب عليها طابع الذّاتيّة الشّخصيّة، وهذا بالضّبط ما أسمّيه بالمناسبة الذاتيّة، التي تختلف تماما عن المناسبة الخارجيّة، التي تفتقد في كثير من الأحايين صدق العاطفة وحرارة الشّعور والانفعال.
من هنا، تتفاعل المناسبة الذّاتيّة عند جرّار مع التّجربة الشّعريّة، وتمتزج الأحاسيس والمشاعر بعضها مع بعض، مما ينعكس أثرها على التّراكيب والتعابير، التي تظهر على هيئة مفردات رقيقة وعذبة، لتؤشر إلى حد كبير على صدق العاطفة.
ومن هذا الاستنتاج، لا بد قبل أن نختم المقال، أن نقول بأنّ الشّاعر صلاح، يمتلك نفسًا تعبيريًّا طويلًا، في البوح عن مكنونات الذّات، نادرًا ما نجده عند الشّعراء الآخرين، كما لا يفوتنا الإشارة أيضًا إلى أنّ اللفظ يتناسق مع الموسيقى والإيقاع النّاعم والهادئ، في رسم المشاعر والأحاسيس الرّقيقة، الأمر نفسه بالنّسبة للحالة الشّعوريّة، التي يعبر عنها جرّار، بحيث تتناسق وتتطابق مع العبارة الرشيقة والمزوّقة، وهي في رأيي ميزة تضاف إلى المِيزَات السّابقة.
_________________________________________________
المصادر والمراجع
(1) انظر، معجم الأدباء الأردنيين في العصر الحديث، منشورات وزارة الثقافة، 2014، ص 154 ـ 155.
(2) انظر، تمظهرات الحنين في ديوان جادك الغيث لصلاح جرّار: جريدة الدستور، يوم الاثنين، 20 ـ نيسان، 2020.
(3) النقد الأدبي، أصوله ومناهجه: سيد قطب، دار الكتب العربية، بيروت، ص 134.
(4) الرؤى المكبلة، دراسات نقدية في الشعر: ناصر شبانة، ط1 ـ 2009، دار فضاءات للنشر، عمّان، ص 88.
(5) جادك الغيث: صلاح جرار، ط1 ـ 2015، دار الرابطة للنشر، الشارقة.