نظلم دائما الشعر اللبناني حينما نحدد فجر الحداثة في مربع عراقي أضلاعه هم السياب ونازك الملائكة والبياتي والأقل شهرة محمود بريكان. وللبنان دور أساسي في تنوير الشعر العربي المتكلس والجامد على يد جبران، ثم تثويره بعد موجة التجديد التالي، التي رفعت لواء تحديث الحداثة. وقد عبر عن هذا التوجه رباعي مهم أضلاعه هم سعيد عقل ويوسف الخال وأنسي الحاج والأقل شهرة شوقي أبي شقرا. ولكن إذا انطبق مشروع الخال على تجربة الحاج، شرد عنهما سعيد عقل، وتبوأ مكانة لا تقل بإشكالياتها عن مكانة المتنبي.
لأن عقل تجرأ وركب في سفينة الانعزاليين، واتخذ موقفا مضادا من المقاومة الفلسطينية وحركة التحرر العربي، ودعا أكثر من مرة إلى استبدال الحرف العربي باللاتيني، عدا أنه كتب بالمحكية اللبنانية. ولم تكن غايته التنويع، أو الإدلاء بدلوه فقط، ولكن الإلغاء والقطيعة، حتى إنه أصدر مجلة شعرية لا تنشر إلا باللسان المحلي. وذهب معه يوسف الخال إلى نصف الطريق في سلسلة مقالات جمعها في ما بعد بعنوان «الحداثة في الشعر» 1987 تخلى فيها عن كل الأقنعة والمجاملات وبشر بضرورة اكتشاف لبنان لنفسه، والعودة إلى الماضي، حينما كان الفينيقيون هم أسياد البحر المتوسط. ولكن لا يسع أي قارئ أن يأخذ هذا الكلام النظري مأخذ الجد، لسبب بسيط أن ما بقي من تراث الشاعرين هو باللسان العربي الفصيح. ولذلك لا يمكن النظر لهما إلا كما ننظر للفارابي أو الفيروز أبادي وبقية أعلام اللغة العربية، مع أنهم ينتمون عرقيا للعنصر الفارسي..
وإذا جمع الإسلام الفرس مع الثقافة العربية، لا أجد أي رابط وجداني يجمع سعيد عقل والخال مع الشعر العربي، باستثناء شرط المرحلة التاريخية. فقد كانت المصلحة أو المنطق يقضي بمخاطبة المجتمع اللبناني في الستينيات والسبعينيات بلسان يعقله ويفهمه. ولو افترضنا أن هدفهما المشترك إيقاظ روح الحضارة المحلية في جسم مجتمع نصفه مسلم ونصفه الآخر موزع بين عدة أعراق وقوميات، لا يصح ذلك إلا باستعمال لغة الدولة والوسط المحيط بها، وصدف أنها باللسان العربي.
ورغم راديكالية عقل، وخفوت صوت الخال في طرح البدائل، كانت الترجمة الفنية معكوسة، فقد كتب عقل باللغة المحكية واكتفى الخال بالدعوة إليها، واختتم الأول فصل الشعر الغنائي بينما افتتح الثاني موسم شعر الرؤيا.
وبالتأكيد خرج الخال على قانون الشعرية، وتخلى عن البحور والقافية، وبدل علاقة اللغة بأساليب التعبير، وجنح كثيرا في تمزيق التقاليد، وأعرب عن ذاته شعريا بلسان عربي مقترنا بروح لاتينية ومسيحية، حتى إن معظم قصائده تبدو وكأنها شعر مترجم، وإذا حذفت اسمه من أي قصيدة وأضفت أسماء شعراء فرانكوفونيين كصلاح ستيتية وجورج شحادة لن تلاحظ الفرق.
وهو ما لا يمكن أن يحصل في حالة سعيد عقل، لأنه احتفظ في معظم أعماله ببحور وأوزان الشعر العربي. وبالتأكيد هناك مشكلة وراء اختلاف روح عقل مع أسلوبه. فطموحه لإحياء حضارة ميتة لم يبزه غير طموحه لقلب أوزان واتجاه الشعر، وللخروج بالحداثة من مأزقها مع المجتمع. وأعتقد أنه حقق ما أراده. فقد خفف من أزمات وكوابيس الحداثة بما يسمى البعد الرابع. وهو تقريب المسافة بين اللغة الرخيمة والمعنى المفهوم. وفي سبيل ذلك قرأ الوجود على أنه هو الطبيعة ذاتها. على سبيل المثال، حين «يناديه الليل» في واحدة من قصائده، يرد «وينهمر على الوجود». ثم يتحول إلى، «لفحة ريح وآفاق وفوح ورد» إلخ.
كما أنه رأى في هدوء الطبيعة عناصر جبروت وتهديد مخفية، وربما كان هذا في رأيه المرادف لروح حضارة راكدة لم تصل لدرجة العقم، أو أنها في حالة سبات وبعيدة كل البعد عن الغياب النهائي – أو الموت. وفي القصيدة التي مطلعها «قرأت مجدك» يخاطب بلاده، وهي سوريا التاريخية، فيسأل نفسه «شآم ما المجد؟»، ويرد بالنغمة الجازمة نفسها «أنت المجد لم يغب». ثم يردف: «كنت المجد في طربي».
ولذلك لا تعني الإضافة في شعره المؤازرة، بل النقض. فالحداثة العربية تدين بكل ثقلها لخلاف الذات مع السياسة القهرية التي يحرسها التخلف المزمن، ويغلب عليها النواح والفداء والعذاب الصوفي – والمسيحي، إلا أن سعيد عقل احتفظ منها بروح البقاء ورأى أنه نقطة توازن وارتكاز، ومنها تابع باتجاه مجتمع تخلقه الأمنيات حتى أنه يقر بأنه يخترع حياته، كما في قوله: «أحب هذه الدنيا وأجملها ببيت شعر»، وقوله «حلم بحلم أنا». وتحدو أحلامه البراءة وتدعمها الطفولة، ولكنه لم ينظر للأطفال على إنهم بداية لحياة لا تزال تتطور، بل هم لحظة من الماضي الذي لا يفارق خياله. بتعبير آخر الطفل ذكريات أو جزء من الماضي. وبهذا التفسير لا يدنو سعيد عقل من أطروحته عن الأمة الفينيقية. فأناشيد وتراتيل مالكو تحتفل، مثل نثريات الخال والحاج، بعناصر التخصيب أو بيولوجيا موت العناصر وولادة التراكيب. وهي تغني بلغة تعازيم كهنوتية للموت وللدفن والعودة إلى الأرض بعقلية طقوسية، نجد مثلها عند تي. إس. إليوت وعزرا باوند وبقية رموز الجيل الضائع والمنهوب في الأدب الغربي.
وكل عبارة لدى هؤلاء تقودنا لمزيد من الإحباط واليأس، وتساعدنا على رؤية الدمار النفسي والمعنوي الذي فرضه تطور الرعب في الحضارة. وهذا هو مشروع الحداثة العربية باختصار. إن كان في النثر عند سوبرمان الفجائع السود، زكريا تامر، أو أيقونة المرأة الساخطة على القدر والمجتمع، غادة السمان. وإن كان في الشعر عند أدباء أقروا بأنهم لا يتفاهمون لا مع الخير ولا مع الفرح، ومنهم محمد الماغوط مؤلف «الفرح ليس مهنتي» وزوجته سنية صالح مؤلفة «حبر الإعدام». وكل هؤلاء أكدوا حقيقة واحدة: أن وعينا بالسقوط هو آخر طوق للنجاة، ولذلك يبقى سعيد عقل مشروعا منفردا، أو شعر آحاد، إذا استعملنا مفردة فقهية، ولا علاقة له إلا بذاته. فهو ملتزم بقضية ويعبر عنها بأسلوب تدميري، أو بطريقة تتكفل لها بالتقويض والتداعي، حتى إن التواتر لديه معدوم مع جهة الروح – لبنان الحضاري وجهة الصورة – الشعر الموزون، كالمتنبي الذي تعرض للاعتقال والسجن التأديبي، ولكنه لم يرتدع وواصل طريق المخاطر حتى لقي مصرعه.