تبدأ رواية «حنظلة» للكاتبة بديعة النعيمي لعبتها منذ العنوان الذي يتطلب معرفة المتلقي بماهيته التي يعينه عليها الغلاف الذي جعل عملية الفهم لدلالته تبدو متاحةً لمن لديه المعلومة عن (حنظلة) الخاص برسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي. فتبدأ عملية التحول من البحث عن ثيمة العنوان إلى عملية الاستعداد للدخول إلى مدينة الرواية، عبر الباب الذي جعلته وسيلةً أولى للبحث عن سؤالٍ سيطرحه المتلقي، ما إذا كانت هناك علاقة بين الرسام والرواية، وهل هو مشارك فيها أم بطلها؟ فيأتي الإهداء معبرا عن الروح التي تتحول إلى جدران أو شوارع المدينة. الرواية التي سيأخذها المتلقي على أنها رواية تنتمي إلى ما سميناه بالأدب الغاضب، الذي ربما يكون الأدب الفلسطيني قد سبق كل روايات الغضب العربي التي ولدت ما بعد المتغيرات، أو ما يطلق عليه الربيع العربي.
لذا هل يمكن عدّ هذه الرواية على أنها من روايات الأدب الغاضب، وأنها مشمولة بتوصيفها بأدب ما بعد التغيير؟ هذا التساؤل لا يحدد أهمية العمل بقدر ما يمنح الرواية لغةً التجديد التي تأتي بها المنتجة/ الروائية، على أنها تريد محاكاة الواقع بغضبه، وفق ما يمنحه السرد من قابلية على ولوج تفكيك الواقع من خلال التلاعب بالسرد وقيادته، من أجل الوصول إلى هدفية القصد، ولهذا فإن اللعبة التي اعتمدتها المنتجة، سواء من خلال الاعتماد على التاريخ كمعلومة مرتبطة بحيثيات العنوان ودلالته ومدلوله، أو من خلال السبيل السيكولوجي الذي انبثق منه الكثير من شخصيات العمل. ولأن العمل كفكرةٍ تريد البحث عن بواطن الشخصية الفلسطينية، لذا لم تجنح إلى الاعتماد على المباشرة والصراع والنضال والمقاومة، بل جنحت إلى رسم العديد من الشخصيات التي يمكن لها أن تنوب عن المادة المباشرة، لذا احتاجت إلى عدة فعالياتٍ ترتبط بالفكرة قبل البدء باللعبة الإنتاجية.
الفعالية الأولى: إنها اختارت الأمكنة المتعددة مثلما اختارت الشخوص المتعددين من أماكن عديدة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بماهية إنتاج الفكرية التي تريد الوصول لها.
الفعالية الثانية: إنها توثق بعين الروائية ما يمكن أن يجعل عملية تثوير المعنى بطريقةٍ غير مباشرة، فلم تعتمد الحكاية على أنها أساس المحتوى السردي، ولم تترك للفكرة أن تأخذ مداها الإعلاني على أساس أنها الأهم في التناول السردي.
الفعالية الثالثة: أنها جعلت من الموضوع المركزي هدفا تدور حوله كل المناطق الأخرى، ولهذا احتاجت إلى كميةٍ كبيرةٍ من اللعب، سواء من تعدد الشخوص أو الأمكنة مع الإحاطة الشاملة لمفعول الزمن، وإن تشظى إلى أزمنة، لكنه أي الزمن كان يدور حول نفسه.
ولهذا فإن اللعبة لم تكن في المكان، بل توسعت إلى أماكن القرار، لتفكيك الوعي الأمريكي مثلا، الذي تأثر ما فيه لما فعله الاحتلال الصهيوني، وهو الأمر الذي انعكس كليا على الفهم المعلوماتي الذي ضخته النعيمي ليكون الدال الرئيس الذي جعلها تحتاج إلى البدء باستهلالٍ غاية في الترتيب الإنتاجي، حيث بدأت بجمل لا تخلع ثوبها منذ البدء ولا ترتدي عباءة المباشرة. (تحللت الأرض من سوادها فانزلقت قلادة الأحلام من عنق الليل، عندها أدركَ بأن الأحلام حرمات قد تنتهك، فالوقت عادة لا يعترف بأحلامنا) وهو استهلال يشي بعدة نقاط يضعها المتلقي أمامه.
النقطة الأولى: أن هناك ساردا متكلما يتحدث مباشرةً إلى الآخر/ المتلقي، وأن ما بدأت به الحكاية موجه منه إلى المتلقي بدلالة (أحلامنا).
النقطة الثانية: أن الراوي/ الراوية أرادت من لعبتها أن تكون ما بين المتكلم المباشر والمتحدث له الغائب، بدلالة (عندها ادركَ) وقد جعلت كلمة أدركَ عليها علامة الفتحة ليكون الأمر واضحا للمتلقي أن هناك شخصيةً موجها لها الكلام أو مكتوبا عنه أو هو المقصود الذي يسير بالإنتاج الروائي سواء للفكرة أو الحكاية.
النقطة الثالثة: إنها لا تعتمد على إبقاء المساحة الإنتاجية فقط للحديث عن شخصية، بل توسعت إلى أمكنةٍ وشخصياتٍ متنوعةٍ من الداخل الفلسطيني والخارج منه.. المرأة الفلسطينية/ المكان الفلسطيني/ الأمريكي/ ناجي بحنظلة/ علاقته بالمكان الأمريكي/ لعبة الموت/ لعبة البحث عن الحياة/ لعبة الاحتجاج/ وجود الغضب/ العلامة الفارقة لحنظلة كأساس التمرد والعنوان المهم.
لعبة المستويات
تندرج هذه الرواية في خاصية لعبة المستويات السردية، التي استطاعت المنتجة أن تقوم بإعدادها إعدادا جيدا، من أجل الوصول إلى غائية البناء وقيادة اللعبة مع توسع الأمكنة والشخوص، لهذا فإن القيادة السردية هي للمستوى الإخباري الذي يعكس مفعول السرد قوته وسحره حين يأخذ بتأليب الصراع وتثويره وإيجاد مناطق القوة، مثلما يكسر أفق التوقع في المتن السردي، لكن هنا لم يكن المستوى الإخباري وحيدا أو أنه يأتي بالتناوب مع المستويات الأخرى، بل كان يسير مع اثنين من المستويات الكتابية.
أولها: المستوى التصويري الذي يأخذ على عاتقه توضيح المشهد العام لهذا الجزء من المتن السردي أو الحكاية أو الفكرة.
ثانيهما: المستوى التحليلي الذي أخذ على عاتقه تقشير الرؤية للمتلقي ومعرفة كنه المكان، أو المشهد الدرامي.
(سار هائما على وجهه، لا يعلم وجهته في مدينة لا تنام، شوارعها لا تزال تعج بالناس، برائحة الويسكي المنبعثة من أنفاس المارة). ويمكن رؤية المستويات الثلاثة حاضرة في هذا المقطع الذي يشبه الأغلب الأعم من المقاطع في الرواية عبر أقسامها الثلاثة، والتي احتوت على العديد من التقسيمات العديدة التي كانت بين حالتي كسر أفق التوقع، والتبديل الزمني أو المكاني لهذه الحادثة أو تلك بحسيب التركيب البوليفوني الذي يسير مع الراوي/ الرواية/ حيث تقود الروائية اللعبة. وهو ما يجعلنا نبحث عن المستويات الأخرى، سواء منها المستوى القصدي أو التأويلي، وهو أمر لا يمكن غيابه عن تفكير المتلقي، لأنه سيجني هذا الحصاد حين تتفاعل اللعبة القرائية مع اللعبة الإنتاجية. فيما يكون المستوى الفلسفي هو الآخر ينتظر ولوجه بعد جني الحاصل الكلي، حيث يمكن للمتلقي أن يتحسس وجوده من خلال الكثير من العبارات، خاصة تلك التي ترتبط بحنظلة الرسم والمعيار والصفة والإشارة.
(رياح تلك الليلة نزقة، ضربت بسوطها كل من وقف في طريقها، لم تسلم منها الأشجار ولا حتى الفتحات العالية، مطر غزير كما لو أن السماء أصابها نزيف داخلي، لم نعرف طعم النوم، كانت ليلة مخيفة انفجرت شبقا، ارتوت الأرض من نسغها فأوحلت في تربتها. لقد كان جوا جنونيا، جنائزا بامتياز). ولهذا نرى أن المستويات التدوينية كانت واحدةً من مفاتيح اللعبة السردية التي تقود الصراع من أجل ربطه بحالتين مهمتين.
الأولى: الحالة الواقعية التي تريدها المنتجة أن تكون مركبة على الفكرة والحكاية ولو من خلال استخدام فنان عالمي مشهور جاء في ترتيب قصدي في نهاية الرواية، حين وضعت معلومات حياتية (سي في) عن الفنان ناجي العلي. مثلما كانت الحالة الواقعية في ذكر الأمكنة والشخوص.
الثانية: الحالة المخيالية التي صنعتها الحكاية من أجل إعطاء قوام الفكرة مقبولية الحصول على الرشاقة، وهو الأمر الذي أعطى الحرية للمنتجة لكي تقوم بإلباس الحالة الواقعية وتحولها إلى الحالة المخيالية، للتخلص من قسوة الواقع ورتابته، بما يكون واقعا ملموسا بالنسبة للمتلقي وجعله يفكر معها أين هذه الشخصية وأين هذا المكان، مثلما يفكر في كيفية استلام الحوار الذي هو صوت الشخصيات، ولهذا فإن الأمر لا يخلو من وجود حالة إجبارية على المنتجة النعيمي، في أخذ بعض المواقف، سواء منها العاطفية، أو لتمكين الفكرة من إيجاد عناصر مقبوليتها. حين اعتمدت على مقولاتٍ سياسيةٍ، أو أقحمت أو الأصح استلت المقولات لتكون ضمن المتن السردي على أساس إنها ضمن المبنى الحكائي (الصهيونية تمتلك نزعة عنصرية عنيفة، لذلك تقوم دوما بتلك الممارسات العرفية ضدنا). (سنهزمهم يوما/ لأن مجتمعهم مليء بالتناقضات والخلافات، ذلك لأنهم مزيج من شعوب مختلفة، كل منه يتكلم لغات مختلفة أيضا، وعادات وعقائد متعددة). ومع هذا تركت هذه الجمل ضمن المستوى القصدي في الكثير من الأحيان على أنه حوار، سواء بين الشخصيات أو السارد/ الساردة/ الراوي/ الراوية. وقد عمدت بلعبةٍ فنيةٍ إلى جعل الحوار ضمن المتن وكأنه هو الحل الذي وجدته لبعض ما يمكن أن يكون طرحا مباشرا.
اللغة ومعيارية المشهد
إن ما يميز الرواية أيضا هي اللغة التي بنيت أو خيط منها ثوب الرواية. فقد كانت لغةً تقود المستويات، خاصة المستويات الثلاثة الإخباري والتصويري والتحليلي، فكانت تنبني على أساس الرؤية ليس للشاعرية أو الشعرية وقيادة المفهوم السردي في المتن والمبنى فحسب، بل كانت تخضع لاعتبارات الجملة في المشهد السردي الواحد، لذا فاللغة هنا أخذت حالتين.
الحالة الأولى: لغة تراوحت في عملية استلال أو الاعتماد على الجمل التي اعتبرتها المنتجة لا بد من وجودها، وهي معلومات تاريخية مثل (في 14 أيار/مايو عام 1848أعلن بن غوريون قيام دولتهم المزعومة، فأطلق كل منا العنان لخياله).
الحالة الثانية: اللغة السردية التي اعتمدت عليها في تثوير المشهد السردي في تصوير إخباري فألبسته ثوب الشعرية التي تعطي المفعول السردي غايته الجمالية (كنت أداري عليه، فقد دثرته بعد موت زوجي بقماشة تحمل لون سيقان شجر الجوز، وكأني بذلك أعيده إلى حضن أمه حيث كان/ إلى المكان الذي ولد وكبر فيه).
إن اللغة ليست مفتاح النقل العام للرواية، بل كانت هي المحمول الدلالي وهي روح المستوى الفلسفي الذي يختفي بين طيات الجمل، مثلما هي المحرك التأويلي للمعاني. وإن أخذت في بعض الأجنحة ما هو واقعي بحت، كما ذكرنا لأن الموضوع/ الفكرة الذي احتاج إلى حكاية قد توسع وهو ما جعل المنتجة تقسم الرواية إلى أقسامٍ ومن ثم إلى عناوين داخلية وأرقام من أجل الإحاطة بكل الجوانب، وحتى الزوايا التي رأتها مهمة في ذكرها، سواء ما هو متخيل أو واقعي. فالقضية كبيرة والاعتماد على شخصيةٍ عالمية معروفة أخذ هذا الجانب التفسيري للفكرة.