لا نصّ أدبيا بلا رمزية. ولا رمزية بلا أداة موصلة كاشتغالٍ للتعبير عن الحالة المراد الوصول إليها بطريقةٍ غير مباشرة. فالرمزية على العكس من المباشرة، وهي تخضع إلى قدرة المتلقّي على صيد اللحظة التي تنطبق عليها الحالة القصدية المعنية بظهور حالة الرمز. فالرمزية هي أس النص الأدبي الحديث، الذي ينقله من كونه مجرّد كلماتٍ إلى حالةٍ من التأمّل، وهي الحالة التي تعد لب النصوص التي لا تريد للمباشرة أن تكون واضحة، خاصّة في النصوص السياسية، أو التي تناقش أمورا دينية أو مختلف عليها. لكنها رمزيةٌ تحمل من الدلالات الجمالية والسيمولوجية والموضوعية التي تجعل ثوابت النصّ قابلة للتحريك، ومن محرّكات النصّ تكون قابلة للسكون أمام المتلقّي، لكي يتمتّع بالتفاصيل والقصديات والمستوى التأويلي.
فالرمز روح النصّ، أيّ نصّ حتى لو كان نصّا سرديا، أو حتى تاريخيا أو تحقيقا تراثيا ودينيا. فالقصديات العديدة تعيش على ديمومة الرمز، وما يخلقه من رمزيةٍ تفاعليةٍ تعيش بين الجمل المؤلّفة للنصّ. ودونه يصبح النصّ عبارة عن (حكي) شعري أو سردي، له خلاصة التأويل الكلية. لم يكن وجود الرمز اعتباطيا، فهو الذي خلق نفسه بنفسه، حين انتبه منتجو النصوص إلى ضرورة وجوده، وهم يعيشون العديد من التحدّيات، وما تنامى من الروح الفلسفية التي تداخلت مع إنتاج النصوص المختلفة. وهذه المتغيّرات التي أوجدتها الحروب والنزاعات والمجاعات والصراعات الدينية، وحتى المذهبية أو الطوائف في كلّ الأديان، سواء في الشرق أو الغرب، في الجنوب أو الشمال من الكرة الأرضية. وأهمها السلطة التي لا تقبل النقد وتتابع الحالة الشخصية لقمعها، فيلجأ المنتج إلى الرمزية، وإلى استحضار الرمز ليكون معادلا موضوعيا لوجود الدليل والدلالة على ما يكون خاضعا لمدلول الرمز وحضوره. وهو يقترب هنا حتى من القناع الذي كان فاعلا في نصوص الأدباء العراقيين مثلا ما قبل عام 2003، تهرّبا من الملاحقة، إن كان الرمز واضحا، وله قصديةٌ معنيّةٌ وشاخصةُ التأويل، والقبض على الصورة المعنية.
إن من أهم مقوّمات حضور الرمز هو القدرة الاشتغالية للمنتج. فليس الرمز مجرّد إخفاء الواضح، ليكون مضمرا وليس هو كما يقول ابن منظور إنه (علامة تَدل على معنى له وجود قائم بذاته، فتمثِّله وتحل محلَّه، وقد يُستخدم الرَّمز بقصد الإيجاز، كما في الرُّموز الكيميائية والحسابيّة والهندسيّة والفيزيائيّة، يقوم الرَّمز الكتابي مقامَ الصَّوت المنطوق، أو (الرَّمز التَّعبيريّ: رمز كالمستخدم في الاختزال يرمز إلى عبارة) بل هو الرمز الذي يحمل الرمزية معه وعلى كتفيه في النص الأدبي، للإشارة إلى ما هو مفهوم بطريقةٍ غير مباشرةٍ، وجاء بمصطلحٍ أدبي في معارضته إلى الأدب الواقعي، أو ما أقصده بالنص المباشر الذي يحكي. ولذا فإن الإشارة غير ما هو رمز من ناحية الدلالة، وهو ما يوضّحه جبار ماجد البهادلي في كتابه جماليات الرمز الشعري في شعر يحيى السماوي حيث يأخذ برأي أمية حمدان إذ يقول إن (الإشارة وفق مفهوم الرمز جزء من عالم الوجود المادي الصوري.. البصري، وترتبط الإشارة بالشيء، الذي تشير إلى شيء ثابت، وعلى ذلك تكون كلّ إشارةٍ واحدةٍ ملمومةٍ تشير إلى شيء واحدٍ معيّنٍ، أما مفهوم الرمز فهو جزء من عالم المعنى الإنساني، وهو عالم الانطباق، أي يوحي بأكثر من شيء واحد، وهو أيضا يكون متحرّكا ومتنقّلا ومتنوّعا). ولهذا فإن كلّ شيءٍ يعود إلى قدرة الاشتغال في النصّ وإنتاجه ليكون الرمز واحدا من أهم علامات النجاح للنص الأدبي. ولهذا فإنه في الشعر يكون أكثر اشتغالا من النصوص الأخرى، كون الشعر طرح الواضح بطريقة الإزاحة، وطرح المفضوح بطريقة الإخفاء، وطرح المعلوم بطريقة الرمز، التي تعتمد على طرفي الخطاب في النص الشعري، منتج النص ومتلقّي الخطاب.
إن أكثر وجود للرمز ربما يكون في كلّ أنواع القصائد، ليس المتعارف عليها في العمود والتفعيلة والنثر، بل حتى في الومضة والقصيدة السردية والهايكو وغيرها. فكل شيءٍ يحتاج إلى رمزٍ في الشعر، بعد أن تمكّنت مغادرة المباشر التي كانت عليه قصيدة العمود مثلا، التي تعتمد على الانزياح في اللغة والقدرة على التلاعب في العاطفة وحضور دهشة الجملة الشعرية. مع الاستدراك أن الشعر كلّه يعتمد على الرمز وحضور الرمزية الفعّالة، وأن الكثير من القصائد تحوّلت إلى تفاعل الرمز مع الواقع، خاصّة في نصوص المعلّقات، وما كان يخاطب به شعراء الجاهلية، وفي العهدين الأموي والعباسي، وحتى شعراء المهجر. ولم تزل القصيدة العمودية تترنّم بالرمز، لكنه في قصيدة النثر يكون الرمز متفاعلا مع كلّ جسد النص النثري، لأن لا تباري بين الشعراء في حضور الخلفاء، ولا وجود لتنامي الحركة الشخصية في المحور الشعري وإنتاجه، وسماع صوت خبب الخيول وصليل السيوف وحضور الحاشية أمام البلاط، التي كانت تعتمد على القول الشعري القصدي، أكثر منه رمزيا، والقول القصد التأويلي أكثر منه رؤية لصورةٍ كاملة. فحضور الرمز، لم يكن الإزاحة المباشرة فحسب، بل هو ذات الوصف في قصيدة التفعيلة. لكنه يكون في النصّ النثري اشتغال يتوزّع على كمية الجمل التي تزيح وتصوّر وتتوشّح وتوشم بها القصيدة النثرية.
الاشتغال ووجود الرمز
إن الرمز ليس اعتباطي الوجود في قصيدة النثر، بل ربما تفوق أسباب وجوده في القصائد الأخرى، لأنها أساسا تبحث عن غياب الموسيقى التي تعتمد عليها القصائد الأخرى في الأوزان الشعرية، والنص النثري لن يرتدي لباس الرمز للتعويض فحسب، بل لإعطاء قدرٍ كبيرٍ من التفاعل مع المفردات التي تشكّل لوحة النص الشعري. وهو الذي يوصل ما يطلق عليه الفحوى العام لروح النصّ.، مثلما يوصل المشاعر كما يذكر محمد بلاجي، في كتابه «الرموز الآسرة، دراسات في الرموز والعلامات» من أن (الرمز يسهم في توصيل رسالة الشاعر، لذا يتطلب إحساسا عميقا بلغة أخرى داخل لغة النص؛ فهو يجعل القصيدة تشف عن قصيدة أخرى، تضيع الأول، وتبقى القصيدة الثانية من وراء الرمز). فالرمز هو كلّ ما يقبل الانزياح والإزاحة عن مفهوم المباشرة في النص الشعري، وكل ما يمكن أن يدرجه منتج النصّ من أجل منح الرمز فاعليته. وهو ليس مجرّد منظورٍ خارجيّ أو باطني، بل هو المحكّ الحقيقي لقدرة شاعر قصيدة النثر على ولوج الحالات الجوّانية، لكي يجعل نصّه قابلا للمحاكاة مع المتلقّي. ويشير الألماني كارل يونغ إلى أن (الكلمة أو الصورة تكون رمزا حيث توحي بشيء أكثر من معناه الواضح المباشر، وبذلك كل ما هو جانب أو مظهر لا شعوري يصعب تحديده، أو تفسيره بدقة وجلاء) وبهذا فإن وجوده في قصيدة النثر أقرب إلى فاعلية الجدوى الاقتصادية في الشعر من النصوص الأخرى، التي لم يزل الكثير من الدراسات يشير إلى أن القصائد القديمة، ربما لم تعرف الرمز كما يقول إيليا حاوي (بأنّه لم يكن مقدورا للجاهلي والعربي بعامة أن يلمّ بهذه التجربة (ويقصد الرمز)؛ لأنّ مستواه الإبداعي والحتميات التي خضعت لها تفسره ، لم تكن لتيسّرَ له الولوج في أعماق هذه التجربة) وهو ما يؤكّده أيضا جلال عبد الله خلف، في دراسته الرمز في الشعر العربي المنشورة في مجلة «ديالى» من أن (افتقاد العربي الجاهلي للعنصر الغيبي الخارق ساقه نحو الواقعية، ولو أن الشعر القديم ألم بالأسطورة عبر عالمها البهي لنال قليلا وكثيرا من الحقائق الرمزية، فالأسطورة كانت مبدعة في العصور الإغريقية المتقدمة حتى إنها شملت الكون).
إن الاشتغال الذي يسعى إليه منتج قصيدة النثر، هو الذي يعطي القابلية على ولوج الرمز داخل ثنايا كلمات النص. فالنصّ ليس مهشّما أو معجونا بأشاءٍ أخرى، بل هي كلماتٌ مقدّر لها أن تكون حاملة لكلّ ما يريده الشاعر من فاعلياتٍ وأدواتٍ أخرى. وعليه أن يكون واعيا وفاهما ومدركا لصنعته وإنتاجه وماهية موهبته المتفرّدة، إن أرادها أن تكون كذلك. فالوعي بأهمية النصّ وموضوعه مهمّةٌ وصعبة، إلا لمن امتلك القدرة على الاشتغال الفاعل، وبالتالي بأهمية الرمز داخل النص التي تبدأ من العنوان والاستهلال وجسد القصيدة كلّها حتى الخاتمة، وألا يكون اعتباطيا، أو يكتب ما تأتيه اللحظة التدوينية بفطرية التدوين والاشتغال. وقد ذكر عبد القادر لباشي والزهراء قواوي في بحثهما (دلالات الرمز في قصيدة النثر: قراءة في المتن الشعري الجزائري) المنشور في مجلة «الآداب» أن (الشاعر يشتغل بوعي واضح، ويجرب بواسطة رموز منتقاة بعناية، تعبيرا عن أزمتنا). لكن الرمز يجب ألا يكون متداخلا مع الإيهام الذي يكون في النصوص التي تريد مغالبة المفردة في معانيها، وتريد اللعب بطريقة المخاتل، وهي حالةٌ موجودةٌ في كلّ النصوص. فالإيهام جزءٌ من المادة الإنتاجية، تختلف عن الرمز الذي يكون بنسبٍ متفاوتةٍ في النصوص، وأعلاها في قصيدة النثر، فالإيهام كما جاء في معجم المعاني (هُوَ أن يَأْتِي الكَاتِبُ أو الشَّاعِرُ بِلَفْظٍ يُوهِمُ مَعْنى لاَ يُرَادُ وَإنَّمَا الْمُرَادُ مَعْنى آخَرُ) وهو ما أسمّيه المخاتلة في طريقة إنتاج المفردة داخل النص. وهو قريب إلى التورية، أو هو التورية بعينها لدى البعض من النقاد، لذا فإن مهمة الرمز تختلف عن موضوع الإيهام، على الرغم من أن الاثنين يدخلان في حالة الإيحاء، وخياطة الثوب المعرفي تختلف بينهما، لكن الأهم في الإنتاج، هو ألا يكون الغموض سلاح الرمز، ولا يكون أيضا سلاح الإيهام وتثوير المفردات ورصفها على أنها إبداع قصيدة النثر. وعليه فإن الرمز في قصيدة النثر يرتبط بالحداثة الشعرية، وهي التي تعطي مفهوم الجسد الكلّي للنص الشعري، وهو ما يؤكّده رابح ملوؾ في كتابه، قصيد النثر، أن يكون (من البديهي التسليم بأن قصيدة النثر هي إحدى النتاجات الكبرى للحداثة الشعرية؛ وهي حداثة ثائرة على كلّ ما يتصل بالقديم من تقاليد شعرية وفكرية) وواحدة من اشتغالات الحداثة، هي الرمز حيث توجد الحداثة وتكون مستمرّة. وكلّما زادت حالات التأويل، زاد وجود الرمز، كما جاء في دراسة عبد القادر لباشي والزهراء قواوي من جامعة البويرة الجزائرية (وهنا تدفع النثرية الطاغية النص في اتجاه مزيد من التأويلات، وهي إحدى المزايا التي تستفرد بها قصيدة النثر، خاصة حين تبني خطابها على تقنية الرموز الشعرية).
الخلاصة
مما تمّ ذكره يمكن أن نصل إلى أهمية الرمز وكيفية وجوده، من خلال عدّة نقاط:
1- إن الرمز يوجد في كلّ النصوص، سواء الشعرية منها أو السردية، وبنسبٍ متفاوتةٍ، لكنه في قصيدة النثر تكون نسبته الوجودية أعلى، بحكم التعامل مع الحالة المضمرة لإنتاج النصّ الشعري.
2- إن الرمز يحتاج إلى تعاملٍ أعلى مع الموضوع المختار، لإنتاج روح النص واختيار كلماته، وليس إلى التفاعل الظاهري مع الفكرة المراد طرحها.
3- إن الرمز يحتاج إلى طريقةٍ للتعامل مع العقل، من أجل التفكير وصيد اللحظة التفكيكية لحالة الرمز، وحتى السيمولوجية، وهو ما يكون في النصّ النثري الذي تغيب عنه اللازمة العاطفية الموجودة في النص العمودي.
4- إن وجوده في قصيدة النثر يعكس مساحة أكبر للتأويل الكلّي وليس الجزئي، الذي تعتمد عليه أبيات قصيدة العمودي وأيضا التفعيلي.
5- إن الرمز حالة من التفاعل بين الجزيئيات التي تؤلف الكلي النصي، حيث يكون متفاعلا مع الجزء والكل وليس مع الجزء، كما في قصيدة العمود مثلا.
6- إن وجوده يعتمد على القدرة الاشتغالية التي يتمتّع بها المنتج، ويعرف خاصية قصيدة النثر، التي لا تعتمد على شكلٍ محدّدٍ، أو أوزانٍ محدّدةٍ، لذا فإن تنوّع الأشكال يعطي فاعلية أكثر لتمرّد القصيدة النثرية على القالب السائد، لذا هي في حالة استمراريةٍ وتنوّعٍ، وإن تمّ شطرها إلى أجزاءٍ مختلفةٍ، لكنها لو تجمّعت ستكون تحت جلباب قصدة النثر.
7- وجود الرمز يخلّص قصيدة النثر من الحشو الفكري، أو لغة الحكي المباشر، كونه سينتقل بالمتلقّي من حالة الرخو القرائي، إلى حالة التأمّل الفكري، في ماهية هذه الجملة الشعرية، وعلاقتها بالرمز والتأويل والقصد والتحليل.
8- وجوده يعطي مزيدا من التأويل للمتلقّي، بما يعني التفاعل مع المستوى التحليلي للنص، الذي يرتبط بالمستوى القصدي للفكرة التي انوجدت من أجلها القصيدة.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”