في قراءته لمسار الشعرية العربية التي جاءت في مقدمة كتابه الموسوم «نحو مفهوم جديد لقصيدة النثر تجربة نامق سلطان مثالا» الصادر مطلع 2024 عن مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع في بغداد، يوضح الناقد الأكاديمي محمد صابر عبيد أن مفهوم الشعر منذ ما يقرب من 200 عام قبل الإسلام وحتى الآن، ظل محافظا على إرثه المفهومي، وكأنَّ التحولات الكبرى في مجالات الحياة مرّت عابرة من غير أن يلتفت إليها الشعراء العرب، طالما أن قصيدة الوزن قد استأثرت بالحضور المطلق على الشكل الشعري. من هنا يرى سيطرتها على ذائقة تلقي الشعر العربي، ولا يمكن فهمها إلاَّ لأن هذه الذائقة تعاني من كسل واطمئنان راكد على شكل شعري وحيد، بينما كل شيء يتغير حول الشاعر والمتلقي العربي وبحدود كبيرة جدا، بين الحداثة الشعرية، ومن ثم ما بعد الحداثة الشعرية.
التفعيلة انتفاضة شعرية لم تكتمل
في إطار استنتاجاته يصل محمد صابر عبيد إلى أن قصيدة التفعيلة عندما جاءت في منتصف خمسينيات القرن الماضي ظلت تعمل بمجاورة قصيدة الوزن، وأن معظم شعراء التفعيلة لم يغادروا الشكل القديم استجابة للذائقة الكسلى، بذلك يجدهم قد ضيعوا هذه الفرصة الثمينة في التجديد، وأن انتفاضتهم الشعرية لم تتمكن من إحداث التغيير المطلوب للابتعاد عن قصيدة الوزن والانفتاح على مسارات جديدة ذات طبيعة ثورية، ويضيف في هذا السياق بأن السجال حول الحداثة الشعرية وما بعدها، ظل حديثا إنشائيا مجردا، خاليا من وقائع شعرية إجرائية جادة على الأرض، إلاَّ أنه يصل في رؤيته، أن التراجع الذي شهدته قصيدة التفعيلة برزت من خلاله «قصيدة النثر» وكانت بمثابة نبتة شعرية خارجة على سلطة العائلة الشعرية، لتثير الكثير من الجدل والثرثرة النقدية، ووجد فيها كما يقول عبيد، أداة تغيير حقيقية أخذت تهدد صورة الركود القاسية التي آلت إليها الشعرية العربية، ابتدأ من طبيعة تسميتها التي تشير إلى علاقة الشعر بالنثر، ومسائل الإيقاع وتفاصيله ومفاهيمه وتجلياته.
لم يفت المؤلف أن يسجل ملاحظة مهمة، تتعلق بالوهم الذي أصاب الكثيرين عندما اعتقدوا بأن كتابة قصيدة النثر متاحة لكل من يرغب؛ مؤكدا أن هذا الفهم لا يستقيم مع ما تتطلبه الكتابة الشعرية هذه من ارتفاع بمستوى الكلام نحو فضاء الشعر، بلا مساند أو عناصر مساعدة، لأن صعوبة كتابتها تكمن في حاجتها إلى شعراء من طراز خاص يعرفون الطريق إلى مقاصدهم جيدا.
الحس الشعري
يتوصل محمد صابر عبيد إلى أن الشاعر نامق سلطان يمتلك حسا شعريا متميزا، يضعه ضمن قلة هائلة من شعراء قصيدة النثر المعاصرين، واستطاع بتجربته أن يثبِّت موقعه في خريطة هذه القصيدة عراقيا وعربيا، وهذا يعود من وجهة نظره لما تنطوي عليه تجربته من فهم لنوعية قصيدة النثر، وإدراك لخطورتها، ومعرفة بمفهومها، وسبل تشكيلها وأدائها على صعيد المكِّون الشعري، ومستوى التعبير الأسلوبي، ومستوى تفعيل آليات الإنتاج الشعري، وكل ما يتعلق بالأدوات التي تسهم في صوغ قصيدة نثر تثير حساسية التلقي بقوة وإدهاش، وتدفع في اتجاه إضافة نصوص عالية المستوى والقيمة والفن والجمال والإبداع، تعمل بالتالي على صناعة تراث شعري أصيل لهذه القصيدة في مشهد القصيدة العربية الحديثة.
توزعت محتويات الكتاب بالعناوين الآتية: مدخل في صوغ مفهوم جديد للشعر، المغادرة والتحول الجمالي، دينامية التماسك النَّصي وفصاحة اللسان الشعري، استراتيجية التشكيل الشعري، الطرافة الأسلوبية وجدة الأداء، طرافة اللغة الشعرية، طرافة الصورة الشعرية، طرافة الإيقاع، نماذج البناء الشعري، المنظور الشكلي وحساسية الرؤية، القصيدة المركبة، قصيدة الذات المشهدية، قصيدة التفاصيل، طبيعة الحراك الشعري، التداخل الأجناسي ومرونة التعبير، الحراك الشعري التشكيلي، الحراك الشعري السردي، الحراك الشعري الدرامي.
مفهوم جديد للشعر
تشكل موضوعة المفهوم الجديد للشعر المحور الأساس للبحث الجمالي في ميدان الحداثة الشعرية، وحول هذه الإشكالية يقول المؤلف؛ لو كان مفهوم الشعر قد تطور على نحو طبيعي من مرحلة إلى مرحلة أخرى، كما هي الحال في شعريات العالم كلها، لما كانت هناك صعوبة لوضع مفهوم جديد للشعر العربي بهذا القدر من التعقيد والالتباس والغموض، وفي ما يتعلق بمفهوم الحداثة يرى المؤلف أن علاقته بالشكل الشعري تتسم بأعلى قدر من الاشتباك والتداخل والتفاعل، فالشكل الشعري من وجهة نظره؛ مقدمة أصيلة لفهم الحداثة والإسهام في مقاربتها على الوجه المناسب للعصر ورؤيته وثقافته، ويتعلق بهذا الشكل اللغة، ويحددها من طرفين؛ أولهما مضمون خفي، وثانيهما توافق متميز للغة. وفي قصيدة النثر تبدو اللغة هي الأكثر قدرة على التجسيم الحدسي للتجربة، فشاعر قصيدة النثر يعمل على استثمار طاقة الشكل بما يستجيب لوعي التجربة وتوكيد الهوية الأجناسية وتمثيل رؤيتها مثلما يعبر عن ذلك عبيد. كما تحتاج قصيدة النثر إلى قَدرٍ مُهمٍ من التطرف الجمالي للارتفاع بمستوى الشكل ومستوى اللغة إلى طبقة مُثلى، لتكون بذلك قادرة على تقديم قصيدة نثر لها من الشعرية ما يجعلها تتمتع بأقصى درجات القوة الصريحة العالية الانتماء.
مرجعية قصيدة النثر
إن الإشكالية الرئيسية التي وقعت فيها قصيدة النثر، تتمثل بالهوية، وطبيعة المرجعيات التي نهضت عليها، هذا ما يشير إليه عبيد ويضيف بهذا الخصوص، أن المرجعية الفرنسية كانت الأوضح والأهم، ثم تأتي من بعدها المرجعية الأنكلو سكسونية، وقد ظلت قصيدة النثر تحرث في أرض صخرية حتى الآن، فلا غرابة في أن تبرز تجربة مميزة هنا وأخرى هناك، في ظل كم هائل من الركام الساذج، مما يستوجب التقاط التجارب النادرة وإحاطتها بما تستحق من عناية نقدية تضعها في مقامها الشعري الذي تستحقه، ومن ثم الوصول إلى مفهوم جديد دائم التطور للشعر من خلالها كما هي تجربة نامق سلطان.
استراتيجية التشكيل الشعري
يستعرض المؤلف طبيعة قصيدة النثر، من حيث الرؤية الشعرية التي تعتليها، وتفاعلها مع الحياة العامة، وطبيعتها التشكيلية القادرة على بعث الجمال في نصوصها، وابتعادها عما هو متداول ومعروف وسياقي في فهم وظيفة الشعر، واجتهادها في إنشاء استراتيجية خاصة للتشكيل الشعري، بانفتاحها على مجال حيوي جديد أطلَقَ عليه مصطلح «الطرافة الأسلوبية» حيث يتجاوز من خلاله ما حققته قصيدتي الوزن والتفعيلة، من إنجازات محدودة لتأسيس مفهوم جديد ورؤية جديدة للشعر، على صعيد اللغة والصورة والإيقاع والذات والمشهد والمجال الشعري الحيوي. ويؤكد أيضا على أن شاعر قصيدة النثر لا بد له من أن يخوض في مياه الإيقاعية العربية التقليدية كلها، كي يتمكن من عبورها، ولا يمكن لمن لا يعرف العروض جيدا ولا يتقن علومه أن يدرك الجوهر الموسيقي الخفي لإيقاع القصيدة العربية، ولا يسعه كتابة قصيدة نثر أصيلة وناجحة وقادرة على إثبات وجودها.
نامق والطرافة الأسلوبية
وجد عبيد في قصائد الشاعر نامق سلطان ما يتيح له أن يحقق مقاربة استراتيجية التشكيل الشعري، من حيث الطرافة الأسلوبية، لغة وصورة وإيقاعا؛ ومن حيث جدة الأداء الفني والجمالي في عملية استكناه الإنسان والعالم والطبيعة والأشياء، لصوغ فضاء القصيدة، فقصائده كما يقول عنها، تمثل تجربة منقطعة إلى عالمها الشعري المخصوص انقطاعا جماليا تاما، منذ أن ظهر على المشهد الشعري قبل أربعة عقود، وبقي يحفر في أعماق تجربته بأناة وحيوية ووعي ومعرفة، ولم يكن ينتظر أكثر من الاستمرار في تطور منجزه بثورة مستمرة تعرف ماذا تفعل، وأين تضع قدمها بعد كل نقلة شعرية ناجحة إلى أمام، وتمكن في نصوصه التي احتوتها خمس مجاميع شعرية، من أن يقدم تجربة شعرية شديدة التميز داخل فضاء قصيدة النثر العربية، التي قلَّ في فضائها النماذج الراقية إلى درجة نادرة، ما يجعل العناية بتجربة سلطان فرصة نقدية مهمة، بوسعها أن تضيف الكثير إلى هذه القصيدة من جهة، وإلى الممارسة النقدية نفسها من جهة أخرى، في ضوء جدة التناول النقدي وطرافته للوصول إلى ملامح التميز والخصوصية في قصيدة النثر العربية داخل طبقات الشعرية العربية الحديثة.
اللغة والصورة والإيقاع
من ضمن ما تناوله هذا الإصدار، استراتيجية التشكيل الشعري في تجربة نامق سلطان داخل هذا المفصل النقدي البنائي، بقراءة طبيعة النظام الشعري في وضعه التقليدي العام، منوِّها إلى أن القراءات النقدية الحديثة، درجت على تناول ثلاثيةِ شعريةِ النص الشعري المؤلفة من: اللغة والصورة والإيقاع، بوصفها الهيكل البنائي الفني الأساس الذي يجيز انتماء النص إلى عالم الشعر، وحين ينجح الشاعر في الارتفاع بهذه العناصر المركزية، إلى درجة عالية من الفن والجمال والإبداع، سوف يُقنع المتلقي بأن ما يقرأه هو شعر، وذلك متأتٍ من قوة اللغة وحداثة الصورة وموسيقية الإيقاع، وسيكون قادرا على إحلال الفضاء الشعري في أرض القراءة، مُحمَّلا بشبكة من الإشارات والعلامات والإيحاءات والرسائل والأسئلة.
وعند تناول لغة الشاعر سلطان، وجدها تتمتع بطرافة استثنائية، تعطي لقصيدة النثر طاقة تشكيلية مميزة، وتكاد تتسم قصائده كلها بمجموعة من المميزات الأسلوبية الخاصة تحتاج بالتالي إلى رصد شمولي كُلّي لاستخلاصها، وفي هذه التفصيلة لدى نامق مجموعة من المهيمنات اللغوية القارّة على الصعيد البلاغي والشعري، يمكن أن تشكل طريقة كتابية خاصة، تكشف عن مفهوم جديد لقصيدة النثر العربية. وفي إطار تطبيقاته النقدية اختار محمد صابر عبيد مجموعة من قصائد الشاعر للكشف عن خصوصية فعاليته الشعرية، وما تضمره لغته من أداء نوعي في خلق صور شعرية مبتكرة، لها تقاليدها وقيمها التعبيرية والتشكيلية الشديدة الخصوصية والفرادة، ويصل في قراءته إلى أن نامق سلطان شاعر قصيدة نثر، يتعامل مع اللغة والصورة بأعلى درجة من درجات الخيال النوعي الأصيل القادر على إخضاع الذات والطبيعة والواقع والأشياء لهذه المهمة، في سبيل تمثيل الطاقة الشعرية الخلاقة تخييليا، لاستعمال اللغة استعمالا خاصا يحقق الطرافة المطلوبة، مع استثمار مكنونات هذه اللغة استراتيجيا، لتشكيل صورة ولقطات شعرية تتناسل من بعض، وتستجيب لمنطق هذه اللغة وحيوية تفاعلها مع الأداء النوعي الشعري.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”