كثيرا ما يتكرر على أسماعنا مفهوم القصيدة الحداثية، وكانت عنوانا بارزا لكثير من الجدالات في الأوساط الثقافية والأدبية في العقود الأخيرة. توهمنا من شدة إشكاليتها أنها شيء خطير يستعصى على مداركنا، نسمع أحاديثهم وقصائدهم الغامضة، ولا نفقه منها شيئا، ويزداد لدينا اليقين أننا أمام أمر جلل وقضية مفصلية في التاريخ، تأخذ ديوانا لأحد شعراء الحداثة، وتقرأ القصيدة تلو الأخرى ولا تستوعب ماذا يقول، تعيد القراءة وتتشاجر مع قصائده في سبيل الوصول للمعنى الخفي، ولكنك تخرج من جلستك بخفي حنين، تأخذ كتابا لأحد المنظرين للحداثة، وتجده يقول بأن الإنسان أصبح يسيطر على الطبيعة، يا ساتر يا رب، كيف يمكن للإنسان الضعيف أن يسيطر على الطبيعة في زمن الحداثة؟ لابد أن الحداثة أعطت الإنسان قدرات خارقة ومنحته الفانوس السحري، الذي يستطيع طلب ما يشاء من الطبيعة، فهو من اليوم أصبح يسيطر على الطبيعة، ويفرض إرادته عليها.
تحضر أمسية شعرية ماتعة لأحد شعراء الحداثة، ويلقي قصيدته بحماس مفتعل، والحضور القليل لا يفقه أي جملة من جمل القصيدة، ولكنهم من باب المجاملة يتظاهرون بالفهم، ستجد أحدهم بين الحضور يتبسم وكأنه «جاب الديب من ديله» والتقط المعنى الخفي للقصيدة، ولكن صدقني أنه أكثر الحضور جهلا بها، الشاعر نفسه لا يفهم قصيدته أحيانا، الشاعر الحداثي مشغول بتفكيك اللغة وتفجيرها وتثويرها وجلدها ورفسها، وكأن بينه وبين اللغة ثأرا قديما، وهو عندما يبرح اللغة ضربا فإنه يعتقد أنه يفجر إمكانيات اللغة، فاللغة البشرية أساسا بلا إمكانيات من وجهة نظره. وعندما ينتهي شاعرنا العظيم، من توجيه الطعنات واللكمات للغة المسكينة من أجل تثويرها، يبدأ شاعرنا المبجل في كتابة قصيدته الغارقة في اللفظية والإبهام المتعمد، فهو يكتب القصيدة ويتعمد التعتيم على القارئ، حتى يوحي لك بأن قصيدته عميقة، حتى لو اضطر أن يكذب على اللغة وعلى نفسه، الغموض يا عزيزي سمة حداثية، وشاعرها عاجز عن نقل أحاسيسه ومشاعره، وعاجز كذلك عن تحقيق التفاهم بينه وبين قارئه، فهو يريد أن يظهر بمظهر العمق والرمزية، لذلك نحن لا نفهم ماذا يقول ليس لأننا أغبياء أو «لا نفهمها وهي طايرة»، ولكن لأن الشاعر يتعمد خلق مسافة بينه وبين القارئ، كي يشعره بالرجعية ويتهمه بالجهل وقلة الفهم.
دعونا من هرطقات الحداثيين ومعجزة الإنسان المسيطر على الطبيعة، ودعونا نتناول الشعر الحداثي بشكل مبسط ومن زاوية جديدة، دون تفجير اللغة وضربها ورفسها، ماذا يعني مفهوم القصيدة الحداثية، ومتى تكون القصيدة حداثية؟ في كتابه مخاضات الحداثة يقول الباحث المغربي محمد سبيلا: «تتميز الحداثة بتطوير طرائق وأساليب جديدة في المعرفة، قوامها الانتقال التدريجي من المعرفة التأملية إلى المعرفة التقنية» لاحظ هنا أن محمد سبيلا يربط الحداثة بالتقنية، فما علاقة الحداثة بالتقنية؟ ويعرف كذلك في نفس الكتاب المعرفة الحداثية بقوله: «المعرفة الحداثية معرفة علمية بمعنى أنها معرفة تقنية أي في خدمة التقنية» يؤكد سبيلا في كثير من أطروحاته على العلاقة الحميمة بين الحداثة والتقنية، ويصف الباحث والشاعر اللبناني ديزيريه سقال شعر الحداثة بأنه ابن المدينة والتقنية «التكنولوجيا». فما علاقة شعر الحداثة بالتقنية أو الكتنولوجيا؟
لو دققنا النظر في حياتنا اليومية في المدن الحديثة، سنجد أن حياتنا تقوم جملة وتفصيلا على التقنية «التكنولوجيا»، ودون التقنية فإن حياتنا في المدينة تتعطل بل وتصاب بالشلل الكامل، والفرد عندما يهاجر من الريف أو البادية للعيش في المدينة، فإنه يدخل عالم الحداثة ببساطة وسيجد نفسه يبرمج حياته وسلوكه وعاداته وتقاليده، بما يتماشى مع نمط حياة المدينة كون مجتمع المدينة هو مجتمع تسيطر عليه الآلة الحديثة.
من يعيش في المدينة ويعتمد على منتجات التقنية إنسان حداثي بالضرورة، وكل شعر أو رواية أو أدب يعبر عن روح المدينة هو أدب حداثي بالضرورة، بغض النظر عن البناء الفني وتقنياته، لذلك يعبر أدب وشعر المدينة عن موقع الإنسان من العالم ورؤيته للحياة في ظل سيطرة الآلة على الإنسان، إن شعر الحداثة يتكئ على وعي بضياع الإنسان في عصر الآلة.
كل قصيدة تعبر عن روح المدينة في ظل سيطرة الآلة، هي قصيدة حداثية حتى لو كانت نبطية أو مكتوبة على أوزان البحور الخليلية، وشاعرها شاعر حداثي سواء التزم بالقافية أو لم يلتزم بها، ودون الحاجة لتثوير اللغة وتفجيرها وضربها بالسوط، أو تحويلها إلى أحجية غامضة.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”