ها قد مر أربعة وستون خريفاً على كتابة أنسي الحاج لمقدمة ديوانه «لن»، مؤرخةً في خريف 1960. لكن استعادة المقدمة وقراءتها لمناسبتها الخريفية ترتبط أولاً ببدايات التنظير الحماسي لقصيدة النثر، والذبّ عنها بطريقة لا تخلو من الصدام والهيجان اللغوي والتصويري، وعرض للمرجعيات والفرضيات النظرية والتصورات، وهي قد لا تتطابق مع النصوص التي ضمها الديوان، لاسيما وهي الكتاب الشعري الأول لأنسي الحاج.
تذكرني مقدمة أنسي لديوانه الأول دوماً بتلك الكتب التي شاعت مقدماتها، ولم تنل متونها عناية مناسِبة. ومثال ذلك مقدمة ابن خلدون التي وضعها لكتابه في التاريخ والطبائع والعمران «كتاب العِبَر، وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر، ومَن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر». فذاعت عبر العصور ووصلتنا لتأخذ تداوليتها، وكأنها منفصلة عن متن الكتاب بأجزائه الثمانية.
لقد أخذت مقدمة «لن» حيزاً كبيراً في النقد الشعري المتصل بشعرية قصيدة النثر وتاريخها وقضاياها الفنية والجمالية. وإذا كانت المقدمات التي يكتبها الشعراء لدواوينهم تُصنف بكونها خطابات موازية، وعتبات توجّه القراءة صوب قصد الشاعر وتشكيل أفق تلقيه، فإنها في مقدمة «لن» تؤدي وظيفة استباقية وحِجاجية أيضاً، لا تخلو من زعم وفرضيات، قد يُشك في تحققها كلها في المتون التي تليها. وتَحدث بسببها الكثير من التناقضات أحياناً؛ بين ما تَعِد به المقدمات، وما تتشكل به النصوص من عناصر فنية. وهذا أول انطباع لقارئ المقدمة حين ينتقل إلى المتن المعروض في القصائد.
لقد كان ديوان «لن» تحولاً واضحاً في اتجاه كتابة قصيدة النثر. فمجلة «شعر» التي نشرت الكتاب ضمن منشورات دارها، لم يصدر عنها مانفست نظري مثل مقدمة أنسي للديوان، يمهد للقصائد، ويجازف باستفزاز الذائقة الرافضة لقصيدة النثر، ويسمي الكثير من مزايا قصيدة النثر وشعريتها ومرجعياتها وأزمة تلقيها.
كان أنسي الحاج عبر ما تحتشد به المقدمة من تساؤلات، يقيم حواراً مطولاً مع نفسه شاعراً، ومع قصيدة نثره، وتلّقيها. ويرفع تلك التساؤلات بصوت عال؛ ليزيل ما يحفّ بقصيدة النثر من شكوك وتصورات خاطئة، مصدرها الفهم الكلي والجمعي للشعر وكتابته على وفق ما استقر من تقاليد شعرية، سيرفضها أنسي ويصفها بأنها (ألف عام من الضغط) والقوالب الجاهزة.
تبدأ المقدمة بسؤال يستبطن ما يدور في فكر متلقيها هو: (هل يمكن أن يخرج من النثر قصيدة؟). وبهذا يستبق الشاعر تشخيص مأزق التسمية الذي تنبه له من بعد شعراء قصيدة النثر أنفسهم، كما فعل منظّروها الفرنسيون إذ صرحوا بقلقهم من المصطلح، وهم في مهاد ظهورها شعرياً.
إجابة أنسي على تساؤله يذهب إلى التفرق الدقيق بن النثر والشعر والقصيدة.
موضحاً أن النثر سرد خطابي مباشر مسترخ هدفه الإقناع. والشعر توتر أعمق غوراً في النفس، بوسائل يسمي منها الإشراق والإيحاء والتوتر، أما القصيدة فطبيعتها (ضدية تتوخى الاقتصاد في وسائل التعبير). ويفرق بدقة بين القصيدة التي (هي أصعب مع نفسها من الشعر مع نفسه) و(هي العالم المستقل المكتفي بنفسه الذي يخلقه لشاعر بشعره.. والقصيدة هي الشاعر لا الشعر).
وتتضح لنا أهمية هذا التقسيم الفني للفنون الكتابية، ولاسيما تفريقه بين القصيدة والشعر. فالشعر كما نفهمه تراكم نوعي لكتابة ذات طابع زمني، تنافح عن هويتها بتكريس المزايا التي يخلقها ذلك التراكم، ومجاراة النثر في الوصول للمتلقي بوسائل موسيقية، يسميها أنسي الحاج باسمها: (موسيقى خارجية)، دون أن يقدم (الإيقاع) مثلاً، بديلاً لها، لأنه منشغل بالوظيفة الحِجاجية التي تقوم على نقض القديم المستقر، أي القيام بالهدم في أبنية القصيدة اللفظية والسطرية والصورية والموسيقية. وتتوسع تلك المهمة لتغدو تخريباً وتدميراً لما يصفه بميراث الانحطاط.
لا شروط إذن حتى تلك التي بشّرت بها المقدمة نقلاً عن سوزان برنار حيث ترجم أدونيس بعض فقرات كتابها «قصيدة النثر من بودلير إلى أيامنا» كما صرح أنسي في أحد الهوامش. إذ (ليس في الشعر ما هو نهائي)، يقول أنسي محقاً، فما دامت تجربة الشاعر داخلية، فليس ثمة (شروط وقوانين وأسس خالدة). وهذا أحد تناقضات الحماسة التي انطوت عليها المقدمة. فقد أنفق أنسي جهداً في شرح تلك الشروط البرنارية، ممثلةً بالإيجاز أو القصر، والتوهج، والمجانية، ورأى أن تحققها ضرورة لتكون القصيدة (قصيدة نثر لا قطعة نثر فنية أو محمّلة بالشعر).
ويعزز ذلك برفض تصنيف النثر الشعري والشعر المنثور كقصائد نثر. لكنه دعا إلى كتابة قصيدة لا تحتكم لأية شروط. وهنا أيضاً تناقض أو مغالطة أخرى بصدد الإيجاز والقصر اللذين شرحهما أنسي كحاجة للتماسك والوحدة العضوية، مستدلاً بإدغار ألن بو، لكننا نجد في «لن» قصيدة طويلة يختم بها الديوان، هي (الحب والذئب الحب وغيري) مرقمة بثلاثة عشر مقطعا، واستغرقت خمساً وعشرين صفحة.
لاحقاً وفي لقاء لإذاعة مونت كارلو مع أنسي الحاج ضمن برنامج «وجوه» وأعادت جريدة «القدس العربي» نشره في 14-12-2001، يندم الشاعر على تحديده تلك الشروط لقصيدة النثر، ففي الشعر (لا شروط ولا قواعد، ولا معنى للمقاييس المسبقة). ثم يعود أنسي ليضع سؤال سطر المقدمة الأول، بصيغة العائدية للجمع: (هل يمكن أن نُخرج من النثر قصيدة)؟ ويجيب: أجل. مادام الشعر لا يتميز بالموسيقى الخارجية (وزن وقافية) فيمكن أن يتألف من النثر شعر، ومن شعر النثر قصيدة نثر. إنه يسير دون شك في أرض مجهولة المعالم، والفرز بين تضاريسها عسير. فتلك الأنواع السائدة مهيمنة ومستقرة تتولى نشرها ببيروت نفسها مجلتان رائجتان عربياً، هما «الأديب» للشعر المنثور و«الآداب» للتفعيلة أو ما عرف بالحر، وثمة شعر تقليدي له شعراؤه وقراؤه.
ويتحدث أنسي عن نوع لم يستمر أسماه (قصيدة النثر الغنائية) القريبة من النثر الموقَّع، وكأنه يشير لنثر جبران، وأشعار محمد الماغوط من بعد.
وعلى مستوى التلقي سيرد بعنف على تهم المتصدين لقصيدة النثر، وكانت مبرراتهم سياسية أكثر منها فنية، ويستثني بضعةً من المتفهمين، وفئةَ متشككين متحفظين، وينتقد من يسميهم (المهللين) لكل جديد للتهريج والظهور، مستبقاً رصد ما سيظهر تحت مسمى قصيدة النثر ويستمر حتى أيامنا، دون توفر على فهم أدنى مزاياها ولوازم كتابتها، ومعنى افتراقها الإيقاعي عن النثر وإفادتها من السرد.
مرجعياً يتجسد في خطاب المقدمة الأثر السريالي. فالشاعر يقترح الجنون والصراحة المطلقة والهدم والتدمير والتخريب وسواها، مما نجد له مرادفات في البيان السريالي لأندريه بريتون. وهو ما نراه مجسداً في خيال حر في القصائد، بينما يسمي رامبو كمؤثر في تجربته. فثمة (الكلمة السمراء وفم أصلع ولغوك الأشقر ورائحتي المستديرة والحملان السميكة…). تحيل إلى المخيلة النشطة الحرة، ولها مرجعياتها في الشعر السريالي.
لا تبرأ المقدمة من وجود النثر في قصيدة النثر التي قد تلجأ إلى السرد والوصف والاستطراد وهي أدوات نثرية. لكن الشاعر يذكر تحفظ سوزان برنار واشتراطها أن تجعل القصيدة تلك الأدوات تعمل في غايات شعرية ليس إلا. ويسمي العوامل المشجعة على استضافة النثر، كقصائد الوزن الحر لدى الشعراء الواقعيين- يسمي البياتي خاصة – والترجمة عن الشعر الغربي، وبدايات الشعر المنثور والنثر الشعري.
في الديوان كثير مما يمكن إرجاعه بكونه تعضيداً لفرضيات المقدمة. فالعنوان مكون من أداة النفي (لن) دون ذِكر المنفي بها، وكأن أنسي أراد أن تشمل كل ما يرفضه في الشعر والحياة. ولا يوجد عنوان قصيدة بعنوان يسمي تلك المنفيات بعد (لن). سنعثر في القصيدة الأخيرة فقط على الحرف (لن) مذكوراً خمس مرات تائهاً وسط تداعيات لا رابط من منطق عادي بينها، منبثاً بين الجمل أو ملحقاً بها.
وسنغامر بافتراض أن قصائد الديوان ترتكز على الغزل بالمرأة بكيفيات متقدمة ينقذها الخيال، وحرية التقطيع الجملي، واللغة، من سطحية الغزل وعاطفة الحب المباشر. فالمرأة موجودة مخاطَبة ومحاوَرة وغائبة. وإهداء الديوان (إلى زوجتي) يشجع على ذلك التأويل. أما (حرية) فهي آخر كلمة في سطر مستقل من الديوان، الذي يبدأ بقصيدة (هوية) التي تستهل بالفعل (أخاف) منفردا في سطر، فكانت كلمتا (أخاف، والحرية) أشبه بقوسين ينفتح بهما الديوان وينغلق.
إنها الحرية التي وسّعت قصيدة النثر أفقها، شرط أن (يلائم الشاعر صوته وموقفه ورؤيته معها)، فهي كما يذكر أنسي كخلاصة (قصيدة من عمل شاعر ملعون حر يخترع اللغة ويضيق بالعالم «النقي»، وهي بنت عائلة من المرضى بالحرية كان رامبو أولهم). وهكذا ظلت وصايا (لن) شهادةً على حنين جارف للتحديث، والحلم بقصيدة متجددة.
الآراء الواردة في المقالات، لا تعبر بالضرورة عن موقف “شعراء بلا حدود”